حين نتفرَّس في حديث آيات القرآن عن تلك الأرض المقدسة بالذات يتضح لنا بجلاء أنها لا تُسْلَب من أتباع الرسالات إلا إذا أخلُّوا بشرطٍ من شروط العبودية؛ فقوم نبي الله موسى لما خرجوا عن الطاعة، واتصفوا بالفسق عجزوا عن دخولها
هذا جزءٌ من آيةٍ كريمةٍ من سورة الإسراء هي قول الله تعالى: {وَقَضَيْنَا إلَى
بَنِي إسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ
وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا 4 فَإذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا
عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ
وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا} [الإسراء: ٤، ٥].
والسورة نزلت في وقتٍ احتدَم الصراع فيه بين الإسلام وخصومه بمكة، واشتد الخناق على
المؤمنين، فابتدأت بـ(وَقَضَيْنَا)؛ فهو قضاءٌ بالإعلام، وفَصْل في الحكم، إذا
تنكَّبوا طريق الحق، وخالفوا شرع الله، سلَّط الله عليهم عبادًا (بالمفهوم العام
للعبادة؛ فلا يلزم أن يكونوا مسلمين؛ فقد يكونون، وقد لا يكونون)، لا يألون فيهم
ذمة، فطافوا خلال الديار قتلًا وتشريدًا وإفسادًا. وإن الله قادرٌ على إدالتهم مرة
أخرى عزةً وقوةً وقهرًا لعدوهم، إذا تابوا إلى ربهم، واعتصموا بشَرْعه.
فالمناسبةُ ظاهرةٌ في توجيه الأمة إلى طريق النصر على عدوّهم، الذي ما سُلِّطَ
عليهم إلا بحَبْل من الله وحبل من الناس.
تحتاج الأمة إلى عبادٍ (بالمفهوم الخاص للعبادة)؛ يكونون رُوحًا جديدة تنفث الحياة
في جسد الأمة. كما هو الحال في البعث الأخروي الذي يخرج الناس على إثره أحياء مرةً
أخرى بعد سباتٍ ورقود.
إنهم نوعٌ فريدٌ يتَّسم بصفاتٍ جليلةٍ، جيلٌ منبته القرآن، ومنطلقه المسجد، هؤلاء
هم عُدّة النصر والتحرير في معركة الوجود والمصير مع شياطين التلمود، فهؤلاء الذين
سيفتح الله بهم، أخص أوصافهم العبودية بمعناها الجامع ومبناها الشامل، ولهذا تكرَّر
وصف العبودية في السورة في غير موضع؛ لدَوْره في النصر والتمكين.
فمطلع السورة الكريمة آثر وَصْف النبي محمد صلى الله عليه وسلم بالعبودية دون
الرسالة واقتصر عليه، فقال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ
لَيْلًا مِّنَ الْـمَسْجِدِ الْـحَرَامِ إلَى الْـمَسْجِدِ الأَقْصَا الَّذِي
بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}
[الإسراء: ١]، إشارة إلى أن هذا الوصف مقصود بالذِّكْر، مع ذِكْر أهم وعاءين
للعبادة؛ وعاء مكاني، وهو المسجد، ووعاء زماني، وهو الليل، فهذا البعث الإيماني
منطلقه ومنتهاه المسجد، كما كانت رحلة الإسراء من المسجد وإلى مسجد؛ حيث انطلقت من
المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وكانت ليلاً، والليل نهار العُبّاد، وعبادة الليل
من أعظم العبادات التي تثبّت العبد؛ فهي أشد وطئًا وأقوم قيلًا؛ كما قال تعالى:{إنَّ
نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل: ٦]،
وكان من وصف الثُّلة المجاهدة الأولى -كما هو معروف في التاريخ الإسلامي-: «فرسان
بالنهار، رهبان بالليل».
وفي السورة إشارة إلى صلاة الليل في قوله سبحانه: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ
بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مُّحْمُودًا}
[الإسراء: 79]؛ وإلى صلاة الفجر في قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ
الشَّمْسِ إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ
مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]، فهؤلاء العُبّاد لهم شَغَف بالليل ودقائقه الغالية.
وتكرر لفظ العباد في السورة الكريمة في أكثر من موضع، وهو يُلمِّح إلى هذا البعث من
العُبّاد المتنسكين، ودور العبودية في معركة التحرير، ومن ذلك وصف نوح بأنه كان
عبدًا شكورًا، فقال -سبحانه- وهو يخاطب بني إسرائيل: {وَآتَيْنَا مُوسَى
الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِن
دُونِي وَكِيلًا 2 ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إنَّهُ كَانَ عَبْدًا
شَكُورًا} [الإسراء: ٢، ٣]؛ ليردّهم إلى نسب العبودية العريق، واستحضار دوره في
النصر وحفظ الممالك والدول.
وفي آيات القرآن الأخرى ما يؤكد هذه السُّنة الإلهية -وهي وراثة الأرض للعُبّاد-،
كقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ
الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِـحُونَ 105 إنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا
لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء: 105، 106].
وفي نهاية السورة إيماء لهذا بذِكْر النبي داود، ولما تحقق بنو إسرائيل بالعبودية
حقًّا، ورثوا الأرض؛ قال تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا
يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا
وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْـحُسْنَى عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا
وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ}
[الأعراف: 137].
وإنه وعد صادق للمؤمنين لا يتخلف إلى قيام الساعة، كما قال تعالى: {وَعَدَ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِـحَاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ
وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم
مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن
كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: ٥٥].
وفي السُّنة الغراء تأكيدٌ لهذه السُّنة الماضية حين تحدثت عن المعركة الفاصلة
والملحمة الكبرى مع اليهود في آخر الزمان؛ فعن أَبِي هرَيْرَةَ، أَن َّرَسُولَ الله
صلى الله عليه وسلم ، قَالَ: «لا تَقُومُ السّاعَةُ حتَّى يُقاتِلَ المُسْلِمُونَ
اليَهُودَ، فَيَقْتُلُهُمُ المُسْلِمُونَ، حتّى يَخْتَبِئَ اليَهُودِيُّ مِن وراءِ
الحَجَرِ والشَّجَرِ، فيَقولُ الحَجَرُ أوِ الشَّجَرُ: يا مُسْلِمُ، يا عَبْدَ
اللهِ، هذا يَهُودِيٌّ خَلْفِي، فَتَعالَ فاقْتُلْهُ، إلّا الغَرْقَد؛ فإنَّه مِن
شَجَرِ اليَهُودِ» (صحيح مسلم: ٢٩٢٢).
وفيه تصريح بوصف العبودية والإسلام، وهو دليل ساطع على أنه لا راية للمسلمين يومئذ
إلا راية الإسلام والعبودية، وأنهم منضوون تحت لواء العبودية الحقة، وأنهم يُحسنون
المسير إلى ربهم، ويُقيمون واجب العبودية في ذواتهم ومن حولهم، ومِن ثَم اختفت
القوميات والعصبيات والجنسيات وتوحدت الرايات، فلا وجود لتلك الجغرافيات المصطنعة
والحدود الضيّقة، فعرفهم الحجر والشجر بعبوديتهم لا بجغرافيتهم.
وحين نتفرَّس في حديث آيات القرآن عن تلك الأرض المقدسة بالذات يتضح لنا بجلاء أنها
لا تُسْلَب من أتباع الرسالات إلا إذا أخلُّوا بشرطٍ من شروط العبودية؛ فقوم نبي
الله موسى لما خرجوا عن الطاعة، واتصفوا بالفسق عجزوا عن دخولها؛ كما جاء في قوله
تعالى: {قَالُوا يَا مُوسَى إنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا
فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ 24 قَالَ رَبِّ
إنِّي لا أَمْلِكُ إلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ
الْفَاسِقِينَ 25 قَالَ فَإنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً
يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 24
- 26].
ولما بُعِثَ جيلٌ جديدٌ متحققٌ بشروط العبودية دخلوها فاتحين في عهد تلميذه يوشع بن
نون -عليه السلام-، ويظهر ذلك من تلك الصفات الخاصة التي وضعها للفاتحين، وهي تتمثل
في الانتصار على الدنيا ورغباتها، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : «غَزا نَبِيٌّ مِنَ الأنْبِياءِ، فَقالَ لِقَوْمِهِ: لا
يَتْبَعْنِي رَجُلٌ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ، وهو يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بها
ولَمَّا يَبْنِ بها، ولا أَحَدٌ بَنى بُيُوتًا ولَمْ يَرْفَعْ سُقُوفَها، ولا
أَحَدٌ اشْتَرى غَنَمًا أَوْ خَلِفاتٍ وهو يَنْتَظِرُ وِلادَها، فَغَزا، فَدَنا
مِنَ القَرْيَةِ صَلاةَ العَصْرِ أَوْ قَرِيبًا مِن ذلكَ، فَقالَ لِلشَّمْسِ:
إنَّكِ مَأْمُورَةٌ وأَنا مَأْمُورٌ، اللَّهُمَّ احْبِسْها عَلَيْنا، فَحُبِسَتْ
حتّى فَتَحَ اللَّهُ عليه» (صحيح البخاري: 3124).
فيجب على الأمة أن تُنشئ جيل العابدين، وأن تحافظ عليه وترعاه معنويًّا وحسيًّا بعد
إيجاده، والله الهادي إلى سواء السبيل.