أكد البرقعي على دور الأيادي الخفية في موطن آخر، فقال: «الواقع أن أصحاب السيد البروجردي، سعوا بكل قوة لإعلاء صيته ومنزلته، واستطاعوا فعلًا -وبمساعدة أيادٍ خفية- أن يوصلوه إلى أن يصبح مرجعًا عامًّا للشيعة، ولكنه لم يَعُد على الأمة بالنفع»
الملك رضا شاه البهلوي ومحاربته للدين وأهله:
وصف البرقعي تسلُّط الشاه على رقاب الناس، وسعيه لإفساد دينهم، فقال: «ومن الضروري أن أُبيّن أن بلاد إيران، قد تسلّط عليها تلك الأيام، رضا خان بهلوي بالبطش والإعدام، لكل مَن يخالفه ويقف أمامه، وكان سيئ النظرة إلى علماء الدين، ويراهم حجر عثرة في طريقه»[1]، ولهذا قام الشاه بإعدام آية الله فضل الله النوري، شنقًا بلا محاكمة في ميدان توبخانة، ووقف بعض العلماء تحت حبل المشنقة، لإظهار السرور بإعدامه، فكانوا يُصفّقون أثناء شنقه، حتى إن بعضهم وافقوا السلطة وفسَّقوا هذا العالِم، بل إن بعض مساجد إيران احتفلت بمقتله[2].
هذا السكوت مِن قِبَل علماء إيران، شجَّع الملك على محاربة أهل الدين حربًا شعواء، فقام ببعض الأمور والإجراءات التي تُخالف دين وعادات وأعراف الناس[3]، فقد «أمر بخلع الحجاب، وأن يلبس الرجال لباسًا موحدًا، من ضمنه القبعة البهلوية... وأن لا يلبس العمامة إلا رجل دين معه إذن من الحكومة، وكل عالِم يلبسها بلا إذن، فإن الشرطة تجبره على خلع ثياب المشيخة وتُتلف عمامته... شكّل لجنة امتحانية في مركز البلاد، مؤلفة من عدد من علماء الدين الكبار، وصارت اللجنة تمتحن كل شيخ معمّم، فإذا وجدته ذا علم ومعرفة، أجازت له التزيُّن بزي علماء الدين، وإلا فلا (هذا رغم قصد البهلوي من هذا العمل قصدًا خبيثًا؛ إذ كان يريد أن لا يبقى بين الناس عالم دين، وأن يسحب البساط من تحت علماء الإسلام).
وبالطبع لما كان أكثر المعممين أميين أو شبه أميين، اضطروا إلى التخلي عن لباس المشيخة؛ لأن الشرطة كانت تتعرَّض لهم في الأزقّة والأسواق، وتُطالبهم بإبراز التصريح بلبس لباس علماء الدين... ولهذا لم يبقَ من كل مائة شيخ إلا عدد ضئيل»[4].
كما وصف البرقعي دور الشاه في كتابه كسر الصنم، فقال: «وفي تلك الأيام كان الشاه رضا بهلوي، قد بدأ بممارسة ضغوطه على الرجال في فرض لباس موحّد، وعلى النساء لخلع حجابهن وسماه كشف الحجاب، وقد كانت المرأة قبل تلك الأيام، ملتزمة بالحجاب من رأسها وحتى قدميها، ولم يكن يُرَى منها شيء، حتى إن وجهها لم يكن يُعْرَف من ظهرها.
وكانت مسألة الحجاب هذه مسألة شديدة الوقع على الشعب الإيراني، ولكن البهلوي اشتد في ضغطه على الناس، وكان جنوده بأمره يهاجمون النساء ويخلعون الحجاب (الشادر) من فوق رؤوسهن ويمزقونه، وقد فزعت كثير من النسوة جراء تلك الممارسات، ومرضت بعضهن ومات البعض الآخر منهن، واجتمع الناس في خراسان في حرم الإمام الرضا وأروقته، وفي مسجد غوهر شادر، وتحصنوا هناك، وأرسلوا البرقيات إلى الدولة، يُعلنون فيها رفضهم لهتك أستار نسائهم، وطلبوا من الشاه والحكومة الكَفّ عن هذه الجريمة»[5].
هدّدت الحكومة هؤلاء المعتصمين، وأرسلت وحدات الجيش، فحاصرت المسجد، وقُتِلَ وجُرح في تلك الحادثة، عشرة آلاف شخص، وتم إلقاء القبض على كثير من الناس، فأُرسلوا إلى السجون أو تم نفيهم[6].
وهنا يخبر البرقعي عن الدور الذي قام به تجاه ذلك، فقال: «وكنتُ في قم، فأصدرتُ إعلانًا، ودعوتُ الناس فيه إلى القيام والتحرك، ولمَّا لم أجد مَن يستجب لندائي، اضطررتُ أن أخرج ليلًا، فألصق الإعلانات على الجدران بنفسي في الأسواق وأزقة المدينة، ولكني لم أرَ تحرُّكًا من أحد، ثم أصبحت الحكومة أشد جرأة، ومنعت تعليم الدين والخطابة.
وكان يتوجب عليَّ أن أخطب سرًّا أينما ذهبت، ومرّ عامان على هذا المنوال، إلى أن نشبت الحرب العالمية الثانية، وهاجمت جيوش الحلفاء إيران، وتفرَّق جيش البهلوي وتشتَّت، ثم أُجبر على تسليم الملك لابنه، ثم تم نفيه إلى جزيرة موريشيوس»[7].
تنفَّس الناس الصعداء، وظنوا أن ابن الشاه، قد استوعب الدروس، وأخذ العِبَر من مسيرة والده، وأدرك سوء عاقبته، ولهذا فلن يسير وفق طريقته، أو يتبع منهجه، ولكنّ أيًّا من هذا لم يحدث، فقال البرقعي: «والعجيب أن الشاه محمد رضا، لم يَعتبر بما فعلت الدنيا بأبيه، ولم يفهم أدنى حكمة، من فرحة الناس بسقوط أبيه وذهابه، وبدل من أن ينأى بنفسه عن صفاته وغطرسته؛ وصل إلى الملك وبدأ يتّبع خُطى أبيه، ليكون بالكامل عميلًا للأجنبي وعدوًّا لشعبه»[8].
مرجعية البروجردي:
مرض آية الله العظمى حسين البروجردي، فقدم إلى طهران للعلاج، ثم قرر السكنى في قم بعد خروجه من المستشفى، وهناك عزم على زيارة العلماء وتفقد المدرسين في الحوزة، فأبلغ خادم البروجردي البرقعي، بزيارة البروجردي له قبل المغرب بساعة في منزله، فظن البرقعي أن البروجردي سيأتي ومعه قليل من أصحابه، ولكنه فوجئ بمجيئه وبصحبته ما يزيد على ثلاثين مُرافقًا[9]، وهنا يقول البرقعي: «فسألت خادمه لِمَ لَمْ تخبرني بقدوم هذا العدد الكبير؟ فأخبرني بأن السيد دعاهم بنفسه، وقال لي: إن السيد البروجردي يُحب أن يصطحب معه رفقاء كثر في زياراته، فعلمت أن السيد البروجردي يحب اجتماع الحواشي حوله»[10].
أيادٍ خفية في تعيين البروجردي:
بعد عام من زيارة البروجردي للبرقعي في منزله، أُعلن في إذاعة لندن، نبأ وفاة المرجع العام للتقليد المقيم في النجف؛ آية الله أبي الحسن الأصفهاني، وذكرت الإذاعة تعيين البروجردي خلفًا له، وهنا أبدى البرقعي تعجُّبه واستغرابه؛ إذ كيف يتم تعيين المرجع دون الرجوع إلى علماء قم؛ إذ إن أكثر علمائها يرون وجود مَن هو أعلم من البروجردي[11]، فقال: «علمًا بأن أكثر علماء قم، يرون وجوب تعيين الأعلم من العلماء، والأعلم يحدّده أهل الخبرة، أي علماء قم والنجف، لا إذاعة لندن»[12].
في تلك الأيام اختلف علماء الشيعة في تحديد الأعلم والأحق بالتقليد، فاختار بعضهم حسين الطباطبائي القمي، فيما اختار غيرهم حجّت كوهّ كمري، وهناك من اختار البروجردي، وهناك من اختار غير هؤلاء.
كان البرقعي يصرّح لطلابه أن حجّت كوّه كمري هو الأعلم، وذكر حادثة تتعلق بهذا الشأن[13]، فقال: «وجدت في منزلي ورقة -أُلقيت ليلًا- وفيها تهديد لي ووعيد إن ذكرتُ لأحد أن الأعلم غير السيد البروجردي، وأن ذلك سيُعرّضني إلى هتك حرمتي، وإراقة ماء وجهي بين الناس»[14].
يرى البرقعي أن الطريقة التي تم بها تعيين البروجردي مرجعًا للتقليد، تدعو إلى الشك والريبة؛ فقد يكون وراء ذلك أيادي عميلة للغرب، وأحيانًا يسميها الأيادي الخفية، لا سيما وأن نتائج استخلاف البروجردي، تخدم تلك الجهات المريبة، فقال: «وأنا مُصاب بالذهول من الطريقة والأسلوب الجديد، في تعيين مرجع التقليد بالقوة والتهديد، وقد تأكدت أن أيادي عميلة للغرب، بدأت تلعب حتى بالمرجعية، وأنها هي التي تريد فرض السيد البروجردي مرجعًا للتقليد، وقد تأكدت أكثر من خلال بعض القضايا التي حدثت بعد ذلك، وكيف استفادوا منه، فوا أسفاه على المقلدين الذين تتلاعب بمرجعيتهم تلك الأيادي الخفية»[15].
كما أكد البرقعي على دور الأيادي الخفية في موطن آخر، فقال: «الواقع أن أصحاب السيد البروجردي، سعوا بكل قوة لإعلاء صيته ومنزلته، واستطاعوا فعلًا -وبمساعدة أيادٍ خفية- أن يوصلوه إلى أن يصبح مرجعًا عامًّا للشيعة، ولكنه لم يَعُد على الأمة بالنفع»[16].
أشار البرقعي إلى بعض النتائج والآثار، التي تلت تعيين البروجردي، فقال: «وعلى كل حال؛ فقد ترتب على تعيين البروجردي أمور مؤسفة، منها: استقواء رجال الدولة على الرعية، وتسلُّط الأقوى على الأضعف، وشيوع كثير من الأمور المخالفة للشرع، ونشأة مجلس نيابي انتصابي لا انتخابي»[17].
وفي هذا الإطار أورد البرقعي حادثة توضّح العلاقة الحميمة بين الشاه والبروجردي، وذلك بعد رجوع الشاه من إيطاليا، فقال: «لمّا رجع الشاه إلى إيران بمساعدة أمريكا، أرسل إليه السيد البروجردي رسالة ترحيب، نُشرت في الصحف والجرائد اليومية، ومنها جريدة كيهان واطلاعات، كتب فيها: (خلَّد الله ملكه وسلطانه)»[18].
جنازة رضا بهلوي:
ثم يواصل البرقعي إيراد بعض الشواهد، التي تدل على الريبة والتوجس من تعيين البروجردي، فيذكر تلك الحادثة التي وقعت في جنازة الشاه، فقال: «لما تُوفي جاؤوا بجثته، وأمر ابنه بإقامة جنازة عظيمة له، وبدفنه في مدينة قم، وطلبوا من كبار العلماء في قم، الحضور ليُصلّوا عليه، وعلى رأسهم آية الله البروجردي، وكان من المراجع ومن طلاب الرئاسة والزعامة، وكان على صلة بالدولة، وعلى علاقة جيدة بالمَلِك وحاشيته وأعضاء المجلس النيابي، فأبدى استعداده للصلاة على جثمان الشاه»[19].
لم تكن هذه العلاقة الجيدة بين البروجردي والشاه مقتصرة عليهما، بل كانت هناك علاقة مميزة، جمعت بين بعض المراجع، وعدد من مسؤولي حكومة الشاه، فقال البرقعي: «أشرت في هذا البيان إلى أن مكاتب كبار مسؤولي دولة الشاه، كانت تُحقّق للمراجع كثيرًا من طلباتهم، وأن الوثائق التي وُجدت بعد الثورة، تدل على صلتهم بنظام الطاغوت، والعجب أن مكانتهم استمرت بعد الثورة»[20].
كما ذكر البرقعي تلك الهدايا التي يقدمها الشاه للعلماء المشهورين وغيرهم، فقال: «كان من العادة في ذلك الوقت: أن يُرسل الشاه في أيام العيد هدية نقدية للعلماء المشهورين وبعض أئمة الجماعات، وأذكر أن موظفًا أتاني، وقدم لي ألف تومان هدية، وطلب مني أن أُوقّع في دفتره؛ إثباتًا لاستلام المبلغ المذكور... فلم أقبل تلك الهدية... ولا أرى جواز أخذها... وقد وقع لي مثل ذلك مرارًا، وكنت أختار الامتناع عن القبول»[21].
علاقة البرقعي بالكاشاني:
يثني البرقعي على آية الله أبو القاسم الكاشاني بصورة متكررة، فيرى أنه قد عرف بمواقفه التي لا تعجب الشاه، في الوقت الذي كان الغالبية يتلونون يوميًّا، إما موافقةً للشاه أو السكوت خوفًا من بطشه، كما كان للكاشاني عناية بالإصلاح، ولهذا فقد رأى الدخول في انتخابات مجلس الشورى، ليبدأ الإصلاح عن طريق المجلس، وهو أمرٌ لا تريده الدولة آنذاك[22].
ذهب البرقعي سنة 1370هـ إلى طهران قاصدًا الكاشاني؛ إذ كان من المقرّبين منه، وأثناء سعي الكاشاني في تعديل قانون الانتخابات، شاركه البرقعي في ذلك، ولهذا تم حبسهم في بهجت آباد، فلما مر على ذلك شهران، أُصيب البرقعي بمرض الملاريا بسبب كثرة البعوض، ونظرًا لعدم توفر العلاج، كان يُغْشَى على البرقعي أحيانًا، فكان الكاشاني يصنع بعض الأدوية، من الأعشاب المغلية لعلاجه.
ظلوا على هذا مدة من الزمن، حتى دخلوا شهرهم الثالث في السجن، فلما اشتد المرض على البرقعي، وأثَّر ذلك في الكاشاني، كتب البرقعي إلى رئيس الوزراء أحمد قوام[23]، فقال: «قضيتكم مع السيد الكاشاني، فما هو ذنبي؟ وأنا الآن مريض، فما الحل؟!»[24]، فأخرجوه للعلاج في مراكز طهران، ثم أعادوه إلى السجن، حتى أكمل مع الكاشاني ثلاثة أشهر، ثم بقوا على ذلك، إلى أن قررت الدولة إبعاد الكاشاني إلى قزوين، وإطلاق سراح البرقعي[25].
كان البرقعي من المعجبين بنضال الكاشاني، وفي الوقت نفسه يعيب على البروجردي، عدم اهتمامه بمصالح الناس، وانشغاله بالسعي خلف تحقيق مجده الشخصي، فقال: «وفي المشهد المقابل يذهب الشاه إلى البروجردي ويُقبّل يده؛ لأنه لم يكن يهتم بأمر الشعب وما يضره أو ينفعه، بينما السيد الكاشاني على النقيض من ذلك؛ حيث كان يتألم لواقع الرعية وخيانة الدولة، وهو الذي أفتى بالجهاد في بلاد العراق لطرد الإنجليز، بل وذهب وحارب بنفسه ضد بريطانيا، حتى خرجوا من العراق ونال استقلاله، ولا شك أن الشاه -وهو يُمثّل الإنجليز- لا بد أن يأخذ بثأر الإنجليز»[26].
نفي الكاشاني إلى لبنان:
أُعيد القبض على الكاشاني بطريقة وحشية، واتُّهم بأنه أراد قتل الشاه في الجامعة، وأُبْعِدَ إلى لبنان، وهنا قام البرقعي بتحريض الطلاب في المدرسة الفيضية في قم، وحثّهم على عدم السكوت تجاه القبض على الكاشاني، فتحرَّك أصحاب البروجردي لتفريق الناس من حوله، وجعلوا بعض الأوباش يفرقون الناس بأنابيب المياه، كما قاموا بإبلاغ الدولة، بأن البرقعي هو الوحيد الذي يعارض الدولة في قم، ونصحوهم بإبعاده حتى لا يكون في قم، مَن يُشنّع على الدولة أو يعارضها.
وفعلًا صدر القرار من طهران بإبعاد البرقعي، فجاء الجنود لمحاصرة بيت البرقعي والقبض عليه، ولكنه خرج قبل مجيئهم، ثم أدرك فيما بعد ألا فائدة من الفرار، فسلَّم نفسه للشرطة، ونُقل إلى شرطة طهران، وتعرَّض هناك للاستجواب والتحقيق، وبقي هناك عدة أيام، ثم جاء ضابط مِن قِبَل الشاه، وطلب منه ومن معه، أن يكتبوا عن الأمور التي تحدث في قم، وما هي مطالبهم؟ فكتب البرقعي خطابًا وأخذوه، ثم رجعوا في اليوم الثاني، وأخبروه أن الشاه أمر بإطلاق سراحه ورفقائه، فخرج من السجن وتوجَّه إلى منزل الكاشاني[27].
دور الكاشاني:
سعى الكاشاني كي يتولى الصالحون مجلس الشورى، ولهذا كان يفتي بوجوب الدخول في البرلمان، مِن قِبَل الصالحين الناصحين، مما جعله يسعى في تأييد محمد مصدّق، والثناء عليه في محاضراته ورسائله، ونتيجة لهذا الجهد والبذل مِن قِبَل الكاشاني، عرف الناس مصدّق وذاع صيته واشتهر؛ إذ لم يكن معروفًا قبل هذا، فقام أتباع الكاشاني بحثّ الناس على انتخاب الكاشاني ومصدّق، حتى فاز الرجلان بأغلبية الأصوات في مجلس طهران، فما كان من الدولة إلا أنها اضطرت للسماح بعودة الكاشاني إلى إيران، وإطلاق سراحه من السجن في لبنان[28].
وهنا لا بد من الإشارة إلى النصيحة التي بعث بها الكاشاني إلى البرقعي، فعندما كان الكاشاني في سجنه في لبنان، أرسل رسالة إلى البرقعي، فقال: «أيها السيد البرقعي! لا تجعل المسجد متجرًا كما يفعل الشيوخ الآخرون، واسعَ في توعية الناس، ولا تسمع كلام من يقول: الشيخ الصالح هو مَن لا يشتغل بأوضاع الناس والسياسة، واجتهد في حثّ الناس على انتخاب مصدّق»[29].
فدائيو الإسلام:
في سن الخامسة والثلاثين نظّم البرقعي جماعة من أصدقائه وأصحابه، عُرفت باسم (فدائيي الإسلام)، وكان بعضهم يدرس عنده في الحوزة بقم، تتراوح أعمارهم ما بين الخامسة عشرة والخامسة والعشرين، وكان أشبه بالقائد لهم، فمنزله كان مقرًّا لتجمعهم[30].
وصفهم البرقعي بأنهم مجموعة من طلاب العلم الفقراء، وكانوا شبابًا متدينين، حريصين على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتقليل الفساد، وكانوا قريبين منه وعلاقته بهم قوية، فكان منزله في قم مكانًا يجتمعون فيه، ولما انتقل إلى طهران، صاروا يأتون إليه في مسجده ومنزله، وكان من ضمنهم ختن البرقعي ويدعى محمود أميدي، وكذلك نواب صفوي، والأخوان عبدالحسين ومحمد الواحدي، وعامل يدعى طهماسب[31].
وضّح البرقعي طبيعة تلك العلاقة التي جمعته بهؤلاء، فقال: «كانت لي علاقة حميمة بفدائيي الإسلام في ذلك الوقت، ولم أتأخر عنهم بالمساعدة والإعانة بكل ما أستطيع، وكنت أناصحهم وأسعى في حوائجهم، وكانوا يرجعون إليَّ في الأمور العلمية والفقهية، ويشاوروني في مسائلهم ومشاكلهم، وفي كثير من الأحيان، كان منزلي مخبأ لهم»[32]، وقال أيضًا: «أنا كنت دائمًا إلى جانب جماعة فدائيي الإسلام، وكنت أتفق معهم قلبًا وقالبًا، ولم آلو في دعمهم وخدمتهم»[33].
وجَّه البرقعي فدائيي الإسلام بتنفيذ بعض الأعمال، ومن ذلك أنه حثّهم على إفشال جنازة الشاه، ولهذا قاموا بوضع العوائق أمام نجاحها، فكتبوا منشورًا قالوا فيه: إن هذا العمل مخالف للشريعة، وسوف يُعرّض صاحبه للقتل، فأثمر هذا ارتباكًا كبيرًا، وكان سببًا في عدم ظهور مراسيم الجنازة بالصورة المنشودة[34].
ألقت الدولة القبض عليهم، وعذّبت بعضهم، وعندما قررت الدولة قتل نواب صفوي والأخوين الواحدي، ذهب البرقعي إلى شخص يطلب منه، قيام البروجردي بالشفاعة لهؤلاء عند الشاه، لما يحظى به البروجردي من القبول لدى الشاه، ولكن البروجردي لم يتعاون بل رد ردًّا سيئًا[35].
توسل البرقعي بالخميني وهو أحد تلاميذ البروجردي، فقال: «فاضطررت لأتوسل بتلاميذ السيد البروجردي، وهو الذي وصل إلى الرياسة بعد ذلك، وعلى كل حال لم يتعاون معنا آية الله الخميني، ولم يفعل شيئًا، وكانت النتيجة أنهم قتلوا السادة العلويين، وأعلنوا ذلك في الصحف مع سبّهم وذمّهم»[36].
وهنا قد يرد تساؤل: لماذا لم يقتل الشاه البرقعي، أو يُلقي القبض عليه ويُودعه السجن مدة طويلة على الأقل، لا سيما وهو قريب من مجموعة فدائيي الإسلام؟!
يفسّر هذا تلك الحادثة الغريبة، التي كانت بمثابة طوق نجاة للبرقعي من حيث لا يعلم، أو يدور في خلده أنها كانت خيرة له؛ إذ قبل أسبوع من إلقاء القبض على مجموعة فدائيي الإسلام، دعاهم البرقعي إلى تناول الغداء في منزله بطهران، وسألهم على مائدة الطعام: لماذا ذهبتم إلى منزل شعبان جعفري، وهو من رجال الشاه، وكان معروفًا باسم شعبان الأحمق، واسترسل فقال: إن عملكم هذا خطأ، قد يؤدي إلى إساءة الظن بكم، فرد عليه نواب صفوي: ذهبنا لنعظه. فقال البرقعي: هذا الشخص لا يتعظ؛ إذ لا يعرف إلا الشرّ والمال والدرهم، ودخولكم عليه يؤدي إلى إساءة الظن بكم، فيقال: إن فدائيي الإسلام عملاء للإنجليز!، حينها غضب نواب صفوي، وضرب بصحن الطعام على الجدار، أمام عدد كبير من الضيوف الحاضرين[37].
علق البرقعي على هذه الحادثة فيما بعد، فقال: «ولاحقًا علمت أن تصرُّفه كان فضلًا من الله وخيرًا لي، فقد تبيّن أن بعض الحاضرين، كانوا جواسيس للحكومة، وكانوا يريدون أن يتعرفوا على من تربطهم علاقة بفدائيي الإسلام، ولما شاهدوا غضبه ومشاجرته معي، وضربه بصحن الطعام، ظنوا أني من المخالفين لهم، ولما قبضوا عليهم لم يؤذوني كثيرًا»[38].
كانت لجماعة فدائيي الإسلام أفعال انتقامية، تقوم على الاغتيالات والأعمال الدموية؛ إذ اتهمت بقتل أحمد الكسروي، رئيس المحاكم الإيرانية والأستاذ بجامعة طهران، وأن الذي أطلق عليه النار هو نواب صفوي في سنة 1946م، كما أُدينت بقتل رازمار رئيس الوزراء في طهران، حينما تقدم إليه أحد أتباع الجماعة ويدعى خليل طهماسبي، وأطلق عليه النار، ولكنّ الحقيقة التي عُرفت فيما بعد أنه لم يمت برصاصة الشاب، ولكن أُطلقت عليه في الوقت نفسه رصاصة من أحد الجنود، المحسوبين على الشاه أو رفاقه[39].
موقف البروجردي من فدائيي الإسلام:
اجتمع عدد من الطلاب المنتمين لجماعة فدائيي الإسلام، في المدرسة الفيضية، وصلوا المغرب جماعةً، فهجمت عليهم مجموعة بالعصي فضربوهم وجرحوهم، وقد قيل: إن ذلك كان بأمر البروجردي، وقد أمر أن تُقطع رواتب أيّ طالب من فدائيي الإسلام، وأن يُطرَدوا من غُرف الطلاب في المدرسة الفيضية[40].
موقف البروجردي من الكاشاني والبرقعي:
«حينما أُبعد الكاشاني إلى لبنان، اجتمع مائة شخص واعتصموا في منزل البروجردي، لكي يطالب الدولة بالعدول عن قرارها، ولكنهم لم يخرجوا بشيء، بل على العكس قام أتباع السيد البروجردي بأخذهم إلى قرية (وشنفه) -من القرى المجاورة-، ولم يستطيعوا أن يقابلوه أو يقابلوا أحدًا من مندوبيه، بل بمجرد أن دخل هؤلاء المنزل خرج البروجردي، وجاء موظف رسمي فبقي عند مدخل المنزل، ليمنع أيّ أحد أن يأتيهم بطعام ونحوه... لكي يملّوا ثم يتفرقوا من تلقاء أنفسهم»[41].
تحدّث البرقعي عن السبب الذي دعاه، لترك سؤال البروجردي عن الباعث، الذي منعه من الوقوف مع أنصار الكاشاني، فقال: إنه أراد أن يسأل عن ذلك، ولكنه صرف النظر لأن البروجردي سمعه ثقيل، وسيسمع القريبون منه كلام البرقعي فيعمدون إلى منعه، ثم إنه كتب رسالة إلى البروجردي عبر البريد المحلي، فلما رآها المحيطون بالبروجردي لم يوصلوها إليه، ثم كتب بعدها رسالتين ولكنها لم تصل أيضًا، وهنا قام البرقعي بحيلة؛ إذ كتب رسالة باسم مستعار في الخارج، وكتب اسمه في الداخل، فوصلت الرسالة، وبهذا استطاع أخذ موعد مع البروجردي، وكان مما قال له: لا بد أن تجعلوا لكم طريقة، حتى لا يفتح أصحابكم رسائل الناس، وبهذا تصل إليكم الرسائل، فرد عليه البروجردي: هم يوصلونها، فأخبره البرقعي بما وقع له في رسائله السابقة[42].
المقارنة بين البروجردي والكاشاني:
وهنا يعود البرقعي إلى ذكر حسنات الكاشاني، ومقارنتها مع الدور الذي يقوم به البروجردي؛ فقال: «وأما السيد آية الله الكاشاني، فقد كان على النقيض من البروجردي؛ حيث كان يجتهد في مساعدة الناس والوقوف معهم، وكان يتحمّل في طريقة إصلاح حال الرعية آنذاك الشدائد والمِحَن، وبفضل جهوده هو وأتباعه، صدر في إيران قرار تأميم النفط الإيراني، وتم تخفيض الضرائب، وبجهوده وصل مصدّق إلى رئاسة الوزراء، وبفضل إعلان آية الله الكاشاني الإضراب العام، توقّف الناس عن أعمالهم، وحصلت واقعة (الثلاثين من شهر تير)، حيث قام الناس بعزل قوام السلطنة الخبيث، الذي أنزل الجيش فقتل في الشوارع كثيرًا من الناس، وكثرت الفوضى؛ فاضطر الشاه لعزل أحمد قوام، ثم استلم مصدّق زمام الأمور، واضطر الشاه للهروب إلى إيطاليا، وبقي هناك أيامًا، اتصل فيها بالأمريكان فرتّبوا له الأمر، لكي يعود إلى البلاد بثورة داخلية، بشرط أن يكون عميلًا مخلصًا لأمريكا والمخابرات الأمريكية»[43].
العلاقة بين مصدق والكاشاني:
بدأ مصدّق بمعاداة الكاشاني؛ فقام بعزله عن أمور الدولة، وأقعده في بيته، بل زاد الأمر وتفاقم، فقام مصدّق وأصحابه، بإيذاء الكاشاني والسخرية منه في الجرائد، بكلامٍ لا يليق أبدًا، ففعلوا به ما لم يفعله أصحاب الشاه، وقام السفلة وأراذل الناس، بالهجوم على بيت الكاشاني، فرموه بالحجارة والأوساخ، وقتلوا أحد أصحابه.
قارن البرقعي بين مصدّق والكاشاني، فقال: «لم يكن مصدق رجل جهاد، ولا يجيد رفع السلاح والتعامل معه، خلافًا للكاشاني وفدائيي الإسلام، ولكنه نفّذ خطة أعدائه، فسجن هؤلاء جميعًا، وفرض الإقامة الجبرية على الكاشاني، الذي كان يحذر مصدّق، بأنهم يسعون إلى الانقلاب عليه، حتى انتهى أمره بذهاب ضابط إليه، مع بعض أفراد الشرطة، وألقوا القبض عليه، وهكذا عادت السلطة للشاه، الذي كان أول أمر فعله بعد عودته، هو القضاء على فدائيي الإسلام»[44].
[1] سوانح الأيام، البرقعي، (28-29).
[2] انظر: سوانح الأيام، البرقعي، (ص29).
[3] انظر: سوانح الأيام، البرقعي، (ص31).
[4] سوانح الأيام، البرقعي، (ص31).
[5] كسر الصنم، البرقعي، (377-378).
[6] انظر: كسر الصنم، البرقعي، (ص378).
[7] كسر الصنم، البرقعي، (378-379).
[8] كسر الصنم، البرقعي، (ص379).
[9] انظر: سوانح الأيام، البرقعي، (ص41).
[10] سوانح الأيام، البرقعي، (ص42).
[11] انظر: سوانح الأيام، البرقعي، (42-43).
[12] سوانح الأيام، البرقعي، (ص43).
[13] انظر: سوانح الأيام، البرقعي، (ص43).
[14] سوانح الأيام، البرقعي، (ص43).
[15] سوانح الأيام، البرقعي، (ص44).
[16] سوانح الأيام، البرقعي، (ص59).
[17] سوانح الأيام، البرقعي، (ص44).
[18] سوانح الأيام، البرقعي، (ص64).
[19] سوانح الأيام، البرقعي، (39-40).
[20] سوانح الأيام، البرقعي، (ص187).
[21] سوانح الأيام، البرقعي، (ص187).
[22] انظر: سوانح الأيام، البرقعي، (ص45).
[23] انظر: سوانح الأيام، البرقعي، (45-51).
[24] سوانح الأيام، البرقعي، (ص51).
[25] انظر: سوانح الأيام، البرقعي، (ص51).
[26] سوانح الأيام، البرقعي، (ص48).
[27] انظر: سوانح الأيام، البرقعي، (51-55).
[28] انظر: سوانح الأيام، البرقعي، (55-56).
[29] سوانح الأيام، البرقعي، (ص55).
[30] انظر: سوانح الأيام، البرقعي، (ص40).
[31] انظر: سوانح الأيام، البرقعي، (61-63).
[32] سوانح الأيام، البرقعي، (ص64).
[33] سوانح الأيام، البرقعي، (ص278).
[34] انظر: سوانح الأيام، البرقعي، (ص40).
[35] انظر: سوانح الأيام، البرقعي، (61-63).
[36] سوانح الأيام، البرقعي، (ص62).
[37] انظر: سوانح الأيام، البرقعي، (63-64).
[38] سوانح الأيام، البرقعي، (ص64).
[39] انظر: أعلام التصحيح والاعتدال، خالد البديوي، (ص157)، نقلًا عن جريدة الزمان، العدد (1381)، إيران من الداخل، فهمي هويدي، (ص24)، نقلًا عن العودة إلى القرآن، للسيد هادي خسروشاهي، (ص28)، مقدمة كتاب التشيع والشيعة، أحمد الكسروي، (ص5)، أتباع الشاه، ستيفن كنزر، (ص126)، مصدق والصراع على السلطة، كوما كاتوزيان، (140، 245).
[40] انظر: سوانح الأيام، البرقعي، (ص56).
[41] سوانح الأيام، البرقعي، (ص57).
[42] انظر: سوانح الأيام، البرقعي، (57-58).
[43] سوانح الأيام، البرقعي، (ص59).
[44] انظر: سوانح الأيام، البرقعي، (60-61).