هو كيف ستكون نتائج هذه الانتخابات نقطة تحوُّل في السياسة التركية؛ كما قال أردوغان في خطابه؟ وهل سيؤدي ذلك إلى إحداث تغييرات مهمة في التوجهات التركية الداخلية والخارجية؟
«الانتخابات المحلية ليست النهاية بالنسبة لنا، لكنها نقطة تحوُّل».
كانت هذه الكلمات جزءًا من خطاب ألقاه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان فور إبلاغه بنتائج انتخابات المحليات التركية، والتي أسفرت عن هزيمة صعبة لحزبه (العدالة والتنمية).
وأضاف أردوغان: «لم نُحقّق النتائج المرجوة من الانتخابات المحلية... سنحاسب أنفسنا بعد نتائج الانتخابات المحلية، وسندرس الرسائل الصادرة عن الشعب».
والسؤال البارز في هذا الكلام الصادر عن الرئيس التركي، ما هي الرسائل الصادرة عن الشعب والتي أحجم بسببها عن التصويت لصالح حزب العدالة الحاكم الذي يرأسه أردوغان؟
هل تردّي الاقتصاد التركي وارتفاع معدل التضخم وما تبعه من غلاء الأسعار، وانهيار العملة المحلية بالنسبة لبقية العملات الأجنبية من بين تلك الرسائل؟
وهل يمكن أن يكون الموقف التركي الضعيف من حملة الإبادة التي تشنّها دولة الكيان الصهيوني تجاه أهل غزة قد أثّر على شعبية حزب العدالة والتنمية، فجعل نسبة من الناخبين تُحْجِم عن التصويت للحزب؟ أم أن هناك أسبابًا أخرى أدَّت إلى تلك الهزيمة؟
لكنّ الأهم من تلك الأسباب؛ هو كيف ستكون نتائج هذه الانتخابات نقطة تحوُّل في السياسة التركية؛ كما قال أردوغان في خطابه؟ وهل سيؤدي ذلك إلى إحداث تغييرات مهمة في التوجهات التركية الداخلية والخارجية؟
ولكن قبل أن نتوجّه الى الأسباب والتداعيات، لا بد من تحليل أرقام نتائج الانتخابات المحلية ومقارنتها بالانتخابات السابقة؛ لنعرف حجم الهزيمة التي تعرَّض لها حزب العدالة، واتجاهاتها، والتي لا شك ستفيدنا في تحليل الأسباب.
انتخابات وتراجع
بعد إتمام الفرز الكامل للأصوات في الانتخابات البلدية؛ أعلنت اللجنة المشرفة على الانتخابات النتائج، فكانت كالتالي: حصول حزب الشعب الجمهوري المُعارِض على المركز الأول بنسبة 37.8 بالمائة من إجمالي الأصوات، بعد حصوله على رئاسة بلدية 36 مدينة ومحافظة، منها 15 مدينة كبرى، و21 محافظة، مسجلًا بذلك إنجازًا لم يُحقّقه منذ انتخابات عام 1997م، بل إن بعض المراقبين يعتبرون تلك النتائج الأفضل له منذ أكثر من 47 عامًا.
ويليه في المركز الثاني حزب العدالة والتنمية، والذي يرأسه الرئيس أردوغان، والذي حصل على ما يقرب من 35.5 بالمائة، بعد أن حصد رئاسة بلدية 23 مدينة ومحافظة، منها 11 مدينة كبرى، و12 محافظة، وفي المركز الثالث حزب الرفاه من جديد بنسبة 6.2 بالمائة، وبعد ذلك حزب الشعوب الديمقراطي الكردي الذي حصل على 5.6 بالمائة، والحركة القومية المتحالفة مع حزب العدالة على 5 بالمائة، وحزب الجيد على 3.7 بالمائة.
شكَّل انخفاض نسبة المشاركة في الانتخابات من 84.6% إلى 78%، أحد العوامل المهمة التي أثَّرت في نتائج الانتخابات. ويكاد يُجْمِع المراقبون أن أكبر عدد من الناخبين الذين لم يذهبوا إلى الصناديق الانتخابية هم من ناخبي العدالة والتنمية، ويُعدّ هذا أدنى معدل مشاركة منذ عام 2004م.
وعند استعراض الأرقام في انتخابات البلدية السابقة عام 2019م، سنجد أن حزب العدالة قد حصل على نسبة 44.3 بالمائة، بينما كانت حصة حزب الشعب الجمهوري حينذاك 30 بالمائة فقط، أي أن حزب العدالة قد تراجع تقريبًا بنسبة 10%، ففي عام 2019م، حصل الحزب على 18 مليون صوت، بينما في هذه السنة 2024م، تراجع الحزب إلى 15.7 مليون صوت، أي أنه فقد أكثر من 2 مليون صوت.
وبذلك فإنه لأول مرة منذ تأسيسه عام 2001م، يتراجع حزب العدالة في الانتخابات البلدية للمركز الثاني.
ولكنَّ خسارة حزب العدالة في معاقله -التي كانت من بين محاضن الحزب الشعبية في منطقة الأناضول- لها دلالتها الأبرز في تبيان سبب تلك الخسارة التي مُنِي بها الحزب؛ فقد خسر الحزب ولايات وبلديات كثيرة كانت تُعتَبر من معاقله الأساسية، مثل ولايتي طرابزون وريز، ويقعان في شمال شرق البلاد، كما خسر العدالة والتنمية بورصة وكيلس وزنجولداغ وبلدية كيرك قلعه.
ولأول مرة منذ 30 عامًا يخسر حزب العدالة بلدية أسكودار التي تُعتبر من الأحياء المُحافِظة في إسطنبول، وهي مكان إقامة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وعائلته. كما خسر حزب العدالة لأول مرة منذ 2014م ولاية شانلي أورفا لصالح حزب الرفاه الجديد.
أما في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والتي كانت منذ عشرة شهور، فقد حصل أردوغان على ما يقرب من نسبة 49.5% من الأصوات، بينما حصد حزب العدالة على أعلى الأصوات في البرلمان بنسبة 35.5%، ولكنّ تحالفه مع أحزاب أخرى (الحركة القومية والذي حصل على 10%، والرفاه الذي حاز 2%، وغيره) رفع نسبة تمثيله في البرلمان إلى ما يقرب من 50%، وفي المقابل، فقد حصل حزب الشعب الجمهوري على 25.37% من الأصوات، ولكن ارتفعت نسبته بتحالفه مع أحزاب أخرى (أبرزها حزب الجيد القومي 10%)، لتصل نسبته إلى 35%.
وعند مقارنة نتيجة الانتخابات البلدية تلك بنظيرتها الرئاسية والنيابية؛ نجد أن حزب العدالة قد حصل على نفس النسبة (35.5%) في كلٍّ من الانتخابات التشريعية والبلدية، ولكنّ التقدم في نسبة التصويت كان من نصيب حزب الشعب الجمهوري المعارض، والذي ارتفعت نسبة التأييد له في خلال العشرة شهور الأخيرة بما يقرب من 12%، وفي نفس الوقت ارتفعت نسبة التأييد لحزب الرفاه الإسلامي من 2% في الانتخابات البرلمانية، إلى 6% في الانتخابات المحلية.
هذه النتيجة تدل على أن نسبة الكتلة الشعبية التي تؤيد حزب العدالة ما زالت كما هي منذ عشرة أشهر، ولكن عند النظر إلى انخفاض نسبة الحاضرين في هذه الانتخابات سنجد أن هناك بالفعل نسبة من مؤيدي العدالة قد أحجموا عن الحضور من الأساس، بينما تزايدت الكتلة المؤيدة لكلٍّ من حزب الشعب العلماني، وحزب الرفاه الإسلامي.
ولهذا فإنه يمكن الاستنتاج بلغة الأرقام، أن جرائم الاحتلال الصهيوني في غزة، والتي حدثت من سبعة شهور لم تؤثر على نسبة التأييد لحزب العدالة من بين إجمالي الذين حضروا الانتخابات، ولكنّ خسارته لبعض الولايات التي يغلب عليها الانتماء الإسلامي، واتجاهها للتصويت لصالح الحزب الإسلامي الآخر، وهو حزب الرفاه، وهو الذي انتقد الحكومة لموقفها من حرب غزة، وكذلك تراجُع أعداد المصوّتين، يؤيد جزئيًّا فكرة تأثير الحرب على التصويت لحزب العدالة.
فتحالفات حزب العدالة كانت السبب الأبرز لخسارته؛ فإستراتيجية العدالة والتنمية الحاكم كانت تقتصر على تحالفه مع حزب الحركة القومية وعدم التوسع في التحالفات.
وفي الوقت نفسه، فإن ارتفاع الكتلة المؤيِّدة لحزب الشعب الجمهوري المعارض، إنما كانت خصمًا من التيار القومي والممثّل في أحزاب: الحركة القومية المؤيدة للعدالة، وحزب الجيد المنشق عنه بزعامة ميرال أكشينار. وهذه الكتلة الشعبية التي تركت تلك الأحزاب، وصوَّتت لصالح حزب الشعب الجمهوري، إنما صوَّتت له بدافع اقتصادي، خاصةً أن حملات الحزب تميّزت بتركيزها على هموم الناس وأزماتهم اليومية.
الاقتصاد المتهم الأول
بعد إعادة انتخابه في مايو 2023م؛ عمل أردوغان على تكليف فريق اقتصادي جديد بقيادة محمد شيمشك الذي يتمتع بمصداقية كبيرة في الداخل والخارج، من أجل خفض التضخم الذي شكَّل أولويةً بالنسبة إليه.
أدت هذه التغييرات في السياسة المالية، إلى جانب زيادة إيرادات العملة الصعبة التي تجاوزت 54 مليار دولار من السياحة في نهاية موسم الصيف، إلى تحسُّن نسبي في رصيد الحساب الجاري لتركيا العام الماضي.
لكن، على الرغم من هذه التطورات الإيجابية؛ فإن قدرة شيمشك على فرض إجراءات لكبح جماح التضخم كانت محدودة، فعمد الوزير إلى رفع نسبة الفائدة، وقام البنك برفع أسعار الفائدة بمقدار 500 نقطة، ثم رفعها مرة ثانية في مارس إلى 50٪.
وبالرغم من ذلك ازداد ارتفاع معدل التضخم الذي وصل إلى ما يقرب من 70% (بعض الدراسات توصلها إلى 85%)، وتباطأ النمو بسبب سياسة التشديد النقدي والناتجة عن خطة وزير المالية التي انعكست سلبًا وبشكل كبير على حياة الناس.
ولكنّ رجل الشارع العادي لا يهمه تلك الخطط، ولا تلك الأرقام، فالوضع المعيشي في تراجع، والمتمثل بشكل خاص في ارتفاع تكاليف الحياة الأساسية؛ مثل: الإيجارات، والتي وضعت ضغوطًا كبيرة على ميزانيات الأُسَر، لا سيما في المدن الكبرى، مثل: إسطنبول وأنقرة.
ومن ضمن ما يرتبط بتراجع الاقتصاد، كانت شريحة المتقاعدين، والتي لم يُرْضها الزيادة الحكومية على راتبها التقاعدي، في ضوء تجاوز عدد المتقاعدين في البلاد 15 مليون نسمة.
وعلى ما يبدو، فإن خطة وزير المالية محمد شيمشك في الإصلاح الاقتصادي، ستأخذ وقتًا، فهو لم يضع في حساباته الانتخابات المحلية، ولكنّ الانتخابات الرئاسية والبرلمانية القادمة الآتية بعد أربع سنوات، ولذلك صرح في أعقاب ظهور نتائج الانتخابات المحلية، بأن تركيا ستواصل تطبيق برنامجها الاقتصادي متوسط الأجل بشكل حاسم، مع التركيز بشكل رئيسي على خفض التضخم، وتحقيق النموّ المستدام.
كما كتب في منشورٍ على منصة إكس للتواصل الاجتماعي أن الحكومة ستُعطي أولوية لتوفير النفقات من خلال وضع ضوابط للإنفاق العام، بالإضافة إلى سياسة التشديد النقدي والقروض الانتقائية وسياسة الدخل، من أجل الهبوط بالتضخم لما دون 10%.
وهذا ما أكَّد عليه أردوغان نفسه في خطابه بعد الهزيمة، حين ذكر أن حكومته ستُواصل تنفيذ برنامجها الاقتصادي، وتجنُّب الخطوات الشعبوية، والتركيز على خفض التضخم، مع عودة البلاد إلى وضعها الطبيعي.
تأثير حرب غزة
أكثر المؤشرات التي تدل على أن القاعدة الشعبية لحزب العدالة والتنمية -والتي كانت دائمًا تُصوِّت له على أساس عقيدي- قد أحجم قسم منها عن التصويت للعدالة، هو حصول حزب الرفاه على المركز الثالث، وهو حزب إسلامي.
وعلى الرغم من أن نسبة حزب العدالة لم تتأثر كثيرًا بالحرب -كما بينّا بمقارنة الأرقام بين الانتخابات البرلمانية منذ عشرة شهور والانتخابات الحالية-؛ إلا أنّ نسبة تصويت الشعب التركي في هذه الانتخابات قد تراجعت عن سابقتها بحوالي 10%؛ مما يعني أن هناك أيضًا نسبة تقترب من هذا الرقم من مؤيدي العدالة أحجمت عن الذهاب الى الانتخابات، أو قد يكون جزء منها قد اتَّجه للرفاه، وهذا يُفسِّر حصوله على هذا المركز المتقدم.
وقد انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي صور لناخبين كثيرين أبطلوا أصواتهم بكتابة شعارات داعمة لغزة ومنتقدة لموقف الحكومة، والذي اعتبروه تراجعًا عن تأييد فعلي وحقيقي لأهل غزة.
فقبل الانتخابات شهدت تركيا حملات ضغط شعبي تدعو الحكومة إلى قطع التبادل التجاري مع إسرائيل بشكل فوري، والتدخل بكافة الوسائل الممكنة لدعم أهالي قطاع غزة.
ولا يثير التبادل التجاري بين الكيان الصهيوني والقطاع الخاص التركي الحنق في أوساط المتدينين الأتراك، بل أيضًا التبادل التجاري غير المباشر مثل تدفُّق النفط الأذربيجاني إلى ميناء أشدود في دولة الاحتلال عبر تركيا.
كان الغضب من الموقف السلبي للحكومة التركية إزاء العدوان على غزة ليس مستهجنًا فقط في أوساط المتدينين الأتراك، وهم الحاضنة الشعبية لأردوغان، بل امتد إلى أنحاء شتى في الأوساط الشعبية للعالم الإسلامي، وهم الذين كانوا يعقدون الآمال على تركيا ومشروعها لإحياء دور الأمة الإسلامية من جديد.
ولكنَّ مشروع الإحياء لأردوغان -مع ما فيه من الأخطاء والعيوب- لا يخضع لاعتبارات عاطفية، بل يسير وفق خطوات مدروسة، ويصعد سُلّم الارتقاء ببطء وتؤدة، وقد يتوقف في درجة معينة أو يهبط إلى درجة أسفل عندما يُوقِن أن صعوده كان متعجلاً أو خشية من السقوط.
عودة الدور التركي
لم تكن تركيا بعيدة عن حرب غزة، ففي الأيام التي تلت طوفان الأقصى بادَر أردوغان، وأرسل وزير خارجيته في جولة بين دول المنطقة.
حاول وزير الخارجية تقديم تركيا نفسها وسيطًا، وطرحت تركيا وقتها وقف إطلاق النار والإفراج عن الأسرى الصهاينة، بل اقترحت على عدة دول عربية، بما فيها مصر، نشر قوات مشتركة، لكنّ المبادرة لم تلقَ قبولاً عربيًّا، بينما الكيان الصهيوني حينها لم يكن يقبل بأيّ شيء قبل الانتقام من غزة ومقاومتها، وسرعان ما تراجعت تركيا بعد أن شعرت أن واسطتها غير مُجدية.
ولكن بعد انتهاء الانتخابات بدأ موقف أردوغان في التحول مرة أخرى؛ نتيجة عدة عوامل:
- منها: محاولة استمالة الحاضنة الشعبية المتعاطفة مع حزب العدالة، والتي غضبت بسبب موقفه من حرب غزة.
- ومنها أيضًا: زوال ضغوط الانتخابات عن حكومة أردوغان، فأمامه أكثر من أربع سنوات حتى الانتخابات القادمة.
- ومنها أيضًا: تَغيُّر الظرف الخارجي، والمتمثل في تعثر المفاوضات، وعقم الحل العسكري، واحتمالات انسحاب قطر كطرف وسيط.
وفي الوقت نفسه فإن تركيا تريد استغلال الطلب الأمريكي منها بالقيام بدور الوسيط بينها وإيران؛ حيث نقلت تركيا رسائل بين إيران والولايات المتحدة أثناء الضربات المتبادلة بين الكيان الصهيوني والإيراني.
فتركيا تريد مدّ دور الوسيط ليشمل حماس وأمريكا مع انسداد الأفق العسكري والسياسي، خاصةً قبل الزيارة المرتقبة للرئيس أردوغان إلى واشنطن في مايو المقبل، والتي يُعوِّل عليها الرئيس التركي بشكل كبير.
فخطة أردوغان تعتمد على أن تركيا ستستخدم علاقتها بحماس لإقناعها بقبول شروط الهدنة، في مقابل أن تقنع واشنطن إسرائيل بعدم الشروع في عملية عسكرية في رفح ووقف إطلاق النار.
وخلال زيارته الأخيرة إلى قطر، تناقلت وكالات الأنباء تصريحات وزير الخارجية التركي حقان فيدان، والتي قال فيها: «إن دولاً غربية ترغب بإحياء حل الدولتين»، مشيرًا إلى استعدادهم للقبول بحركة حماس «كحزب سياسيّ منزوع السلاح»، ولكن أخطر ما صرّح به وزير الخارجية التركي قوله: «إن قادة حماس أعربوا عن قبولهم بحل الجناح العسكري للحركة في حال تم إنشاء دولة فلسطينية على حدود 67، مشيرًا إلى موافقة حماس على تحوُّل الحركة إلى حزب سياسي».
والملاحظ أن فيدان توجَّه الى الدوحة، وقابَل رئيس حركة حماس إسماعيل هنية، وبعد اللقاء أطلق تصريحات قبول قادة حماس حل الجناح العسكري، وبعدها ذهب هنية الى أنقرة ليقابل أردوغان، وكأن مقابلة فيدان لهنية في الدوحة انتزعت منه موافقة على شيء ما، ربما يكون موضوع نزع السلاح مقابل الدولة، وبناء عليه مضت تركيا في وساطتها؛ فتم الارتقاء بالمفاوضات ليقابل هنية أردوغان.
وقبل الزيارة تحدث أردوغان عنها دون أن يكشف عن هدفها، وقال للصحفيين: «دعونا نحتفظ بجدول الأعمال لنا وللسيد هنية».
والملاحَظ أيضًا أن وفد حماس الذي قابَل أردوغان كان وفدًا غير عادي؛ حيث شمل قياداتٍ من كل أقاليم الحركة الثلاثة؛ فقد ضم الوفد خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي السابق في الحركة، ورئيس إقليم الخارج في الحركة حاليًّا، بالإضافة إلى خليل الحية، والذي رسميًّا يشغل نائب قائد حماس في غزة يحيى السنوار، والذي يُمثّل غزة، كما ضمَّ الوفد زاهر جبارين، القائم بأعمال رئيس إقليم الضفة الغربية الذي استلم مؤقتًا مكان الشيخ صالح العاروري رئيس إقليم الضفة السابق بعد استشهاده.
وفي أول رد فعل إسرائيلي على اللقاء؛ هاجم وزير الخارجية يسرائيل كاتس الرئيس التركي، في خطاب شديد اللهجة؛ حيث قال موجهًا كلامه لأردوغان: «عار عليك».
ولكن يبدو أن الوساطة التركية لا تتعلق بوساطة بين حماس ودولة الكيان الصهيوني، بل بين حماس والولايات المتحدة، والتي تشعر أن الوضع في غزة قد وصل الى حائط مسدود؛ فجيش الكيان رغم المساعدات الأمريكية الهائلة عاجز عن حسم المعركة مع المقاومة الفلسطينية، ولا تقتصر هذه المساعدات على تزويد جيش الكيان بأحدث الأسلحة والذخائر، بل تمتد المساعدات إلى الدعم الاستخباراتي والدبلوماسي.
وفي نفس الوقت فقد عجز الوسطاء الحاليون عن الوصول إلى حل سياسي يُحقّق الحد الأدنى للمطالب الصهيونية، كما يتهم الكيان صراحة قطر، بينما يتهمها المسؤولون الأمريكيون مواربة وبطريقة غير مباشرة بأنها لا تضغط على حماس.
لذلك، فإن الحل على ما يبدو أمريكيًّا جاء عبر إحياء الدور التركي من جديد، والنظر إلى نتائج ما سيقوم به وما سيصل إليه.
وطبقًا للتصريحات التركية المقتضبة؛ فقد تجاوَز الحل المقترح موضوع الهُدَن المؤقتة إلى حل نهائي، يعتمد على إحياء فكرة الدولة الفلسطينية، والتي يمكن لحكومة تلك الدولة إمساك زمام الأمور السياسية والاجتماعية والعسكرية في الضفة وغزة.
ولكن هل يمكن تصوُّر أن تقبل حماس وبقية الفصائل الفلسطينية التخلي عن سلاحها بعد كل تلك التضحيات التي تمت، والاكتفاء بحزب سياسي، خاصةً أنها لا تزال صامدة، ولا يُوجد أيّ مؤشر على هزيمتها أو إعلان استسلامها؟
يبدو أن حماس يمكن أن تقبل -كما يقول وزير الخارجية التركي- بتفكيك جناحها العسكري، بل وتستطيع الحركة إقناع بقية الفصائل بتلك القضية، ولكن ما لم يقله الوزير التركي أن حماس قد تقبل بذلك، إذا تم إدماج الأجنحة العسكرية في جيش مُوحَّد للدولة الفلسطينية المقترحة، أي من الناحية العملية بقاء قوات المقاومة، ولكن بشكل جديد.
ولكن ما مدى قبول دولة الكيان والإدارة الأمريكية بوجود دولة فلسطينية لها جيش قادر على تحدّي الحيش الصهيوني كما أظهرت حرب غزة ذلك؟
الجميع يراهن على المفاوضات لتحقيق حلول لهذا الطرح، ولكن ما تؤكده حماس دائمًا وتُصِرّ عليه أنها لن تقبل في المفاوضات بتنازلاتٍ عجَز الكيان عن فرضها عسكريًّا.
ولكن بصرف النظر حول الدور التركي في غزة؛ فإنه تبقى الحقيقة التي لا يستطيع أحد إنكارها، وسيظل الدور الذي لا يمكن تجاهله، وهي النقلة التي انتقلت إليها تركيا، والتي قام بها أردوغان وحزبه على مدى أكثر من عشرين عامًا، من أنه تحوَّل بتركيا من حُكْم علماني عسكري ديكتاتوري، إلى نمط حُكْم أعاد الاعتبار للهوية الدينية للأتراك، وأيضًا من خلال هذا الحُكم بات الشعب يختار مَن يحكمه، ويتسابق فيه السياسيون على خدمته وتلبية طموحاته وأحلامه.