فبكل الأحوال لا يمكن أن تجتمع الصلاة مع {الْفَحْشَاءِ وَالْـمُنكَرِ} في الشخص الواحد، وفي وقتٍ واحدٍ؛ فإمّا {الصَّلاةَ} وإمّا {الْفَحْشَاءِ وَالْـمُنكَرِ}.
يكاد الإنسانُ أن يكون مُحاطًا بالاستدراجات التي تَستدرجه إلى تلويث حالة الطُّهر في فِطرته، وكل إنسانٍ هو طاهِرٌ في فطرته، ولكن يمكن لهذه الفِطرة أن تتلوَّث بحكم عوامل خارجية، فيُصبِح الإنسانُ مُلوَّثًا. ولا يحصل ذلك إلّا عندما يترك الإنسان العنان لأهوائه، ويُستدرَج إلى دَرَكات التلوّث، وقد يبلغ مرحلةً يسعى هو فيها إلى تلك الدركات الملوَّثة من دون أن يُستدرَج.
غواية الاستدراج
لكن لا بدَّ لكل بِدايةٍ مُلوَّثةٍ مِن استدراج، ثم على أساس تلك البِداية يستفحل التلوّث في المرء حتى يُمْسِي أسيرًا له. ومتى ما تمكَّنت نزعة التلوّث مِن الإنسان؛ سعت إلى تجريده مِن كلّ ما هو طاهرٌ ونقيٌّ في فِطرته، ومضت به من تلوّثٍ إلى تلوّث، فيلوّث نفسه بنفسه.
ولكن ما السبيل لتجنُّب ذلك؟ لكي يُحافِظ الإنسان على طُهر نفسه، بل ويرتقي بهذا الطُّهر ويسمو به ويتقدَّم في درجاتِه يومًا إثر يوم، حتى يتحوَّل إلى كتلةٍ مِن طُهر.
هُنا يأتي إرشاد الله -عز وجل- في كِتابه الحكيم: {إنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْـمُنكَرِ} [العنكبوت: 45]. والفحشاء مِن الممارسات الجسدية الفاحِشة، وكل ممارسة جسدية خارِجة عن التشريع الإلهي هي ممارسة فاحشة، ويُصبح الإنسانُ بِها فاحِشًا لا محالة.
والفاحِشة هي نقيض الحِشمة، فهي تنال من خصلة الحِشمة في الإنسان.
{إنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى}؛ أي تمنع، وتُحصِّن الإنسان مِن الاستدراج إلى {الْفَحْشَاءِ}. وهذا بيانٌ مِن الله، وكذلك وعدٌ مِنه -تبارك وتعالى-، بـ{إنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى} بوعدٍ قاطعٍ {عَنِ الْفَحْشَاءِ}؛ سواء أكان الإنسان قَد استُدرِجَ إلى الفحشاء، أو على وشك الاستدراج، أو لم يُستدرَج إليها بعدُ.
ثم بواو العطف: {وَالْـمُنكَرِ} كذلك، فـكما أنّ {الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ} ؛ فإنَّها بذات السويَّة تَنْهَى عَنِ الْمُنكَرِ.
والمُنكَر هو كل ما يَستنكره التشريع الإلهي، وكذلك تستنكره فطرة الإنسان الطاهِرة مِن أقوال وأفعال. والإنسانُ ذاتُه يُصبح مُنكَرًا بممارسة {الْـمُنكَرِ}؛ فإذن هو كلّ ما يَستنكره التشريع الإلهي، وتستنكره فطرةُ الإنسان، وقد اجتمع كل ذلك في كلمة {الْـمُنكَرِ}. كما اجتمعَت كل الممارسات الجسدية البذيئة في كلمة {الْفَحْشَاءِ}.
المثل بالمثل
{إنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْـمُنكَرِ}، ونظير ذلك فإن {الْفَحْشَاءِ وَالْـمُنكَرِ} يؤدّيان إلى إفساد الصلاة إذا كان الإنسان مصلّيًا، هذا في البدء، ومع المُداومة يُؤدّيان إلى الإقلاع عن الصلاة بشكلٍ متقطّع، ثم إلى تركها تركًا نهائيًّا.
فـ{الْفَحْشَاءِ وَالْـمُنكَرِ} يستدرجان المصلّي أيضًا إلى ترك الصلاة ولو بشكلٍ متدرجٍ. وقد يضطر إلى الصلاة بسبب ظروف البيئة التي يكون فيها، ولكنَّه عندما تُتاح له الفُرصة، فإنَّه لا يؤدّي الصَلاة، أو إذا سافر وابتعدَ عن المكان، فإنَّه يترك الصلاة تمامًا؛ لأنَّه يكون غارِقًا في المُداوَمة على {الْفَحْشَاءِ وَالْـمُنكَرِ}. يقول الله -تعالى ذكرُه-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْـمُنكَرِ} [النور: 21].
فبكل الأحوال لا يمكن أن تجتمع الصلاة مع {الْفَحْشَاءِ وَالْـمُنكَرِ} في الشخص الواحد، وفي وقتٍ واحدٍ؛ فإمّا {الصَّلاةَ} وإمّا {الْفَحْشَاءِ وَالْـمُنكَرِ}.
وهذا لا يعني بأن المصلّي يخلو تمامًا من الذنوب، بل يمكن له أن يُذنب، لكنه لا يستمرّ في الذنب ولا يستطيبه، ولا يتحوَّل إلى كائنٍ فاحشٍ ومُنكَرٍ، بل يستقبح ما وقع فيه من ذنب فور الانتهاء من ارتكابه، ويستغفر ربَّه، ويتوب إليه، فلا يؤثّر ذلك على صلاته التي سوف تنهاه عن المُداوَمة على {الْفَحْشَاءِ وَالْـمُنكَرِ}. فإذن: {تَنْهَى} أي يمكن أن يُستدرَج المصلّي أيضًا في وضعٍ ما، أو في نقطة ضعفٍ ما، أو في زلَّةٍ ما. وهُنا يبقى المرء رهن حجم إيمانِه، فإن كان إيمانُه قويًّا، يستنكر الذنب الذي وقع فيه، ولا ينقطع عَن صَلاته ولو في فريضةٍ واحدةٍ.
وقد حصل شيءٌ من هذا مع الصحابي ماعز، وهو ماعز بن مالك الأسلمي -رضي الله عنه-، الذي زلَّ إلى الزنا رغم أنَّه كان مُحصنًا؛ فعن سليمان بن بُريدة عن أبيه قال: «جَاءَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، طَهِّرْنِي.
فَقَالَ: وَيْحَكَ، ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرِ اللهَ، وَتُبْ إِلَيْهِ.
قَالَ: فَرَجَعَ غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، طَهِّرْنِي.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : وَيْحَكَ، ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرِ اللهَ، وَتُبْ إِلَيْهِ.
قَالَ: فَرَجَعَ غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، طَهِّرْنِي.
فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ ذَلِكَ حَتَّى إِذَا كَانَتِ الرَّابِعَةُ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ: فِيمَ أُطَهِّرُكَ؟ فَقَالَ: مِنَ الزِّنَا.
فَسَأَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : أَبِهِ جُنُونٌ؟ فَأُخْبِرَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ، فَقَالَ: أَشَرِبَ خَمْرًا؟ فَقَامَ رَجُلٌ فَاسْتَنْكَهَهُ، فَلَمْ يَجِدْ مِنْهُ رِيحَ خَمْرٍ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : أَزَنَيْتَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ». وبعد ذلك قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ أُمَّةٍ لَوَسِعَتْهُمْ»[1].
وليسَ مطلوبًا من المذنب أن يُخبر بذنبه الذي ستره الله فيه، بل أن يستر نفسه، وحتى لو سُئل ينكر، ويستغفر الله ويتوب إليه. وواضحٌ أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد منه أن يستر نفسه ويتوب. فعندما قال: يَا رَسُولَ اللهِ، طَهِّرْنِي. قال له: «وَيْحَكَ، ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرِ اللهَ وَتُبْ إِلَيْهِ».
وجاء التحذير والوعيد الشديد على المجاهرة بالذنب أو الإصرار عليه؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ: أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولَ يَا فُلَانُ: عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ»[2].
وهذا تحقيقٌ لقول الله -عز وجل-: {وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: ٥٣١].
فدومًا يمكن للإنسان أن يؤوب إلى ربّه ويستغفره ويتوب إليه؛ ويحذر من وساوس الشيطان وصدّه وتخذيله؛ قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: ٨٦٢].
وعن ابن مسعود قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، يَقُولُ: «لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِن، مِنْ رَجُلٍ فِي أَرْضٍ دَوِّيَّةٍ مَهْلِكَةٍ، مَعَهُ رَاحِلَتُهُ، عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَنَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ، فَطَلَبَهَا حَتَّى أَدْرَكَهُ الْعَطَشُ، ثُمَّ قَالَ: أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِيَ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ، فَأَنَامُ حَتَّى أَمُوتَ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى سَاعِدِهِ لِيَمُوتَ، فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَهُ رَاحِلَتُهُ وَعَلَيْهَا زَادُهُ وَطَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَاللهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ وَزَادِهِ»[3].
في حين أن الذي يكون إيمانُه ضعيفًا يستطيب الاستدراج، ويستمر فيه دون أن يتوب، بل ويصر عليه ولا يتزحزح عنه.
ذِكْر الله تبارك وتعالى
لم تكتفِ الآية الكريمة بالتأكيد على {إنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْـمُنكَرِ}، بل استأنَفَت وعَطَفَت عليها كذلك: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ}.
فالصلاة ليسَت حركات آلية، أو رياضيّة، بل هي عبادة وخشوع، وما تلك الحركات سوى تعزيز لحالة الخشوع التي يكون فيها المصلّي بين يدَي ربّه. والصلاة كلّها من بدئها إلى منتهاها ذِكْرٌ في ذِكْر، ولا تخلو حركةٌ من ذِكْر الله -سبحانه وتعالى-؛ فلا يُصلّي الإنسان من خلال الحركات الظاهِرة التي تُظهر بأنَّه في حالة صلاة، بل يُصلّي مِن خلال ما يكون في خشوعٍ، وهو يذكر الله ابتداءً من النيَّة وانتهاءٍ بالسلام.
إذن: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ}؛ فيحصل الإنسان مِن خِلال ذِكْر الله في صلاته، وفي غير صلاته كذلك، على ما هو {أَكْبَرُ} من النهي {عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْـمُنكَرِ}. وهذا الـ{أَكْبَرُ} مهما قدَّرته مُخيِّلاتك من النَّعيم ومن رِضى الله -عز وجل-، فهو {أَكْبَرُ} عند الله. يقول الله -عز وجل-: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 153].
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا 41 وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا 42 [الأحزاب: 41، 42]؛ فعندما تذكر الله في صلاتك، وفي غير صلاتك، فإن الله يَذكرك أكثر، حتى يُحبّك وتُصبح حبيب الله. وعندها قد تنال ما جاء عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ»[4].
نسأل الله أن يرزقنا من واسع فضله ما يجعل الصلاة قرّة أعيننا، وسببًا للتخلص من كل ما لا يُرضي الله عنّا.
[1] صحيح مسلم 1695.
[2] صحيح البخاري 6069- صحيح مسلم2744.
[3] صحيح البخاري 6308- صحيح مسلم 2744.
[4] صحيح البخاري 6502