عن مَن الذي أعطى الولايات الحق أو الإذن ببناء الميناء في غزة؛ إذ إن تلك الأرض لا هي للولايات المتحدة ولا للكيان الصهيوني وفقًا حتى للرؤية التي تطرحها الإدارة الأمريكية ذاتها بشأن حل الدولتين.
أعلنت الولايات المتحدة عن بناء ميناء -وقيل: جسر بحري سريع الإنشاء- في غزة، وأشارت إلى أن الهدف هو إيصال المساعدات الإغاثية للفلسطينيين في القطاع. وحمل الإعلان درجة عالية من الأهمية؛ إذ إنَّ مَن أعلن القرار هو الرئيس الأمريكي نفسه.
وكان مسؤول كبير في الإدارة الأمريكية، قد مهَّد لإعلان بايدن قرار تشييد الميناء بالقول: «الليلة، سيُعلن الرئيس في خطاب حالة الاتحاد أنه يُوجّه الجيش الأمريكي لقيادة مهمة طارئة لإنشاء ميناء في البحر المتوسط على ساحل غزة، يمكنه استقبال السفن الكبيرة التي تحمل الغذاء والماء والأدوية والملاجئ المؤقتة». (كما أوردت فضائية سي إن إن في 7 مارس الماضي).
وقال مسؤول أمريكي كبير آخر -حسب نفس الفضائية-: إن الميناء سيشمل رصيفًا مؤقتًا، «سيوفر إمكانية استيعاب مئات الشحنات الإضافية من المساعدات يوميًّا»، ليتم تنسيقها مع إسرائيل والأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية الإنسانية.
وقال الرئيس الأمريكي جو بايدن في إعلانه: «إن الجيش الأمريكي سيبني ميناء مؤقتًا على ساحل قطاع غزة على البحر المتوسط لاستقبال المساعدات الإنسانية عن طريق البحر».
وشدَّد بايدن على أن الخطة لا تتضمن نشر عسكريين أمريكيين في غزة. وهو ما بدا محاولة للفصل بين قيام الجيش ببناء الميناء، وبين وجود أو نشر قوات أمريكية على الأرض في غزة.
وقد جاء الإعلان الأمريكي عن تشييد الميناء، في مرحلة تصاعدت فيها حملات استنكار وتنديد دولية بسبب حرب الجوع المبرمجة وعمليات القتل والتدمير الممنهجة التي يشنّها الجيش الصهيوني في غزة، وبعد أن تكرَّرت جرائم قصف المواطنين الذين يتجمعون للحصول على المساعدات الإنسانية.
كما جاء الإعلان مترافقًا مع تصاعد الحملة السياسية والتهديدات العسكرية الصهيونية باجتياح رفح، التي يمثل معبرها مع مصر الممر الأساسي لوصول الإغاثة للقطاع المحاصر؛ إذ خشي الجميع عدم وصول أيّ مساعدات في حال الاجتياح.
وإذ بدا أن فكرة وقرار تشييد الميناء أمريكية، فقد تغيرت تلك النظرة بعد أن سارع الجانب الصهيوني بإطلاق تصريحات تؤكد أن الميناء جزء من خطة الحرب التي يشنّها الجيش الصهيوني على غزة.
لم يمنح وزير الدفاع الصهيوني، الولايات المتحدة، فرصة ترسيخ للادعاء بأن الجسر أو الميناء فكرة أمريكية. كما تناثرت تقارير صهيونية تفيد بأن فكرة الميناء سبق أن عملت عليها قيادات صهيونية منذ سنوات طويلة.
أدلى يوافي جالانت بتصريحات من شواطئ غزة، أكَّد فيها أن الميناء ضمن خطة إنهاء سيطرة حماس على القطاع. ظهر جالانت وهو يسير مع قواته على شاطئ غزة، لمعاينة التحضيرات للمر البحري، وقال: «إن الوصول المتوقع للسفن، سيُسهّل إيصال الإمدادات للمدنيين وليس لحماس».
وقال: «إن خطط تقديم المساعدة لقطاع غزة عبر ميناء مؤقت أقامته الولايات المتحدة ستساعد في انهيار حكم حماس». وأضاف أن «العملية مصمَّمة لتقديم المساعدات مباشرة إلى السكان، وبالتالي مواصلة انهيار حكم حماس في غزة» (بحسب ما نقل موقع «تايمز أوف إسرائيل»).
وعبَّر الوزير بوضوح عن أن الميناء مشروع أمريكي إسرائيلي؛ إذ قال: إن إسرائيل «ستقوم بإيصال المساعدات عبر طريق بحري بالتنسيق مع الولايات المتحدة في الجانب الأمني والإنساني».
وبعدها، ظهرت تقارير تتحدث عن أن فكرة الميناء كان قد طرحها رئيس الموساد مائير داجان في عام 2008م، ضمن خطط الحرب والسيطرة على غزة. وعن أن مَن طرح فكرة الميناء في المرحلة الحالية هو رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو.
وهكذا تغيرت النظرة للميناء من الإغاثي، إلى السياسي والأمني-العسكري.
ويثير بناء الولايات المتحدة لهذا الميناء الكثير من الأسئلة الشائكة، بعضها يتعلق بمَن له الحق في اتخاذ مثل هذا القرار؛ إذ جرى التساؤل عن مَن الذي أعطى الولايات الحق أو الإذن ببناء الميناء في غزة؛ إذ إن تلك الأرض لا هي للولايات المتحدة ولا للكيان الصهيوني وفقًا حتى للرؤية التي تطرحها الإدارة الأمريكية ذاتها بشأن حل الدولتين.
وبعضها يتعلق بتداخل إنشاء الميناء مع فعاليات المعركة الجارية وخطط الحرب؛ إذ طرحت تقديرات بأن خطوة الميناء تستهدف -أو سينتج عنها- فتح الطريق أمام القوات الصهيونية لاجتياح رفح، وأنها خطوة ضمن سياق إنفاذ مشروع تهجير الفلسطينيين عبر البحر.
كما طرحت أبعاد إقليمية ودولية خلف القرار الأمريكي؛ إذ نُظِرَ له كخطوة أولية لتوفير الحماية لإطلاق لاحق للممر البديل لقناة السويس الذي سيشمل حفر قناة صهيونية تخترق الأراضي الفلسطينية في غزة -قرب رفح الفلسطينية-، وهو ممر يجري العمل عليه ضمن الخطط الأمريكية لربط الهند بأوروبا -الممر الاقتصادي-، ولقطع الطريق على خطة الصين التي يطلق عليها «الحزام والطريق».
أهمية قضية الميناء.. فلسطينيًّا
كان رئيس السلطة الفلسطينية السابق ياسر عرفات يتوقع أن تُفضي اتفاقية أوسلو إلى إقامة ميناء ومطار في غزة، لكن الأمر انتهى إلى سراب، وبعد انسحاب القوات الصهيونية من غزة في عام 2005م -وفق خطة فك الارتباط-، وعقب سيطرة حماس على القطاع صعَّدت العمل والمطالبة بإنشاء المطار والميناء، واعتبرتهما أساسًا لاكتمال التحرير. وكان الأمر يظهر ويختفي ارتباطًا بالحروب وتشديد الحصار الصهيوني، إلا أنه ظل مطلبًا ثابتًا دائمًا.
وقد أبدى الاتحاد الأوروبي استعداده لإعادة تطوير ميناء غزة القديم قبل أكثر من 10 سنوات، لكن لم يتم تنفيذ تلك الخطة، خاصةً بعدما قصفت القوات الصهيونية الموقع في وقت لاحق.
وفي كل ذلك، كان الصهاينة لا يردون على المطلب والرؤية الفلسطينية، ويكتفون بتشديد حصار غزة جوًّا وبحرًا ومن البر كذلك، وكانوا يذهبون في ردودهم إلى متاهات الانقسام الفلسطيني، وعن أن غزة لا تخضع لسلطة معترف بها... إلخ.
وفي حرب طوفان الأقصى، بات مطلب بناء ميناء ومطار فلسطيني ضمن شعارات ومفاوضات حماس. وقد نُظِرَ للميناء باعتباره أحد أبرز معالم التحرير الحقيقي لغزة، وكذلك المطار. وفي المقابل اعتبر الصهاينة أن إنشاء الميناء والمطار إعلان بهزيمة إستراتيجية حصار وعزل غزة.
لكن ما أعلنت عنه الإدارة الأمريكية أمر مختلف؛ فهو ميناء أمريكي صهيوني، وهو يُبْنَى وسيُدَار تحت الإشراف المباشر لهما، وليس ميناءً فلسطينيًّا، وبذلك بات طبيعيًّا أن يَنظر الفلسطينيون للخطوة الأمريكية باعتبارها إحدى خطوات الاحتلال، وأنه ميناء غير شرعي وفقًا للقانون الدولي؛ إذ يقام على أرض فلسطينية دون موافقة أو مشاركة من سلطات فلسطينية، لا من سلطة حماس والمقاومة، ولا من السلطة الفلسطينية.
وهنا كان لافتًا أن أعلنت السلطة الفلسطينية معارضتها لإجراءات تشييد هذا الميناء؛ حيث قالت الخارجية الفلسطينية في بيان لها (6-3-2024م): «إن تركيز إسرائيل على إعطاء الموافقات على فتح ممرات بحرية، ومنع مرور المساعدات بريًّا عن طريق المعابر، هدفه تطبيق خطة حكومة الاحتلال الإسرائيلي بتكريس الاحتلال والفصل بين الضفة الغربية وقطاع غزة وتهجير أبناء الشعب الفلسطيني».
وقالت الخارجية الفلسطينية: «إن الممر (البحري) تترتب عليه مخاطر تستهدف الوضع الديموغرافي في قطاع غزة، في ضوء عمليات القتل والتجويع وقطع شريان الحياة عن القطاع».
وإذ جرت تساؤلات عن سبب عدم إعلان حماس رفض القرار الأمريكي بإنشاء الميناء، فالأغلب أنه موقف تكتيكي لتفادي ظهور المقاومة بمظهر الرافض لإيصال الغذاء للجوعى في ظل اشتداد حرب التجويع الضارية.
الميناء أمريكي-صهيوني
حسب الإعلان الأمريكي فما يجري هو بناء ميناء -أو جسر بحري- لإيصال مواد الإغاثة الإنسانية، وهو ميناء يقوم بتشييده الجيش الأمريكي المتدخل في الحرب إلى جانب الجيش الصهيوني؛ عبر الإمداد بالسلاح، ومراجعة وإدارة خطط الحرب على الأقل.
وإزاء الموقف الأمريكي المُعْلَن بضرورة تدمير حماس -وهي التي تحكم غزة-، ولأن الولايات المتحدة لم تعلن أن الميناء سيُسلّم للسلطة الفلسطينية، ولأنه لن يكون حتى تحت إشراف الأمم المتحدة؛ فالميناء أمريكي-صهيوني.
وإن خطوة الميناء بمثابة إعلان بدخول الولايات المتحدة على خط العمليات العسكرية لإعادة احتلال غزة؛ إذ الجيش الصهيوني تحدث عن الميناء باعتباره جزءًا من خطة الحرب.
وقد بات واضحًا أن الإعلان الأمريكي عن الميناء بمثابة تمهيد ميداني للخطة الصهيونية لاجتياح واحتلال رفح، وهو إعلان وتمهيد للتأكيد على عدم أهمية معبر رفح، وعملية ممنهجة للتأكيد على أنه ليس شرطًا أن تمر المساعدات عبر رفح؛ فالميناء هو البديل.
فإذا كانت النقطة التي توقَّف عندها الجميع في رفض اجتياح رفح، هي قضية عبور المساعدات الإغاثية؛ فقد قدّمت الولايات المتحدة الميناء كبديل بحري لمرور المواد الإغاثية، وهو إعلان أمريكي ضمن تلك الخطة من زاوية أخرى.
وإذا كان البعض قد تصوَّر أن الإلحاح الأمريكي على ضرورة وجود خطة لإجلاء سكان رفح قبل الاجتياح هو إلحاح على إجراء إنساني؛ فقد ظهرت تقديرات -أو تخوفات- من أن يكون تشييد الميناء خطوة ضمن مخطط التهجير، وهذه المرة عبر البحر. (وهو ما أشار إليه بيان الخارجية الفلسطينية).
وقد جرت تقديرات بأن للخطوة أبعادًا إستراتيجية؛ فقد ذكرت بعض الكتابات أن القرار يجري ضمن أهداف أمريكية، تتعلق بالسيطرة على احتياطيات الغاز المكتشَفة في الواجهة البحرية لغزة، وأن الميناء خطوة أمريكية أولى في مشروع يتعلق بالوجود والسيطرة الأمريكية على بحر غزة لحماية الشركات الأمريكية التي ستعمل على استخراج الغاز.
وذكرت كتابات أخرى، أن الخطوة الأمريكية مرتبطة بمشروع الممر الاقتصادي -من الهند إلى أوروبا مرورًا بالشرق الأوسط-، وإن الولايات المتحدة تتدخل الآن على الأرض بعد أن بات مؤكدًا لها أن الكيان الصهيوني لا تتوفر له القدرة الكافية لإنفاذ المشروع.
وهناك من قرأ في الخطوة الأمريكية قرارًا إستراتيجيًّا أمريكيًّا بالوجود في شرق البحر المتوسط؛ لمواجهة الوجود العسكري البحري الروسي في طرسوس السورية.
انخراط عسكري أمريكي
لقد حرص الرئيس الأمريكي على التأكيد بعدم نشر قوات أمريكية على الأرض في غزة، غير أن ذلك لا يعني أن الولايات المتحدة لم تقرر الانغماس في الحرب، وأنها لا تشارك عسكريًّا في الميناء، وذلك أن تجارب التدخلات الأمريكية في العالم بدأت دومًا مع تشديدات بعدم الانخراط في حروب طويلة، وهو ما ثبت عكسه فيما بعد، كما أن تدخلاتها تجري دومًا تحت ذرائع الأهداف الإنسانية.
والحقيقة أنها قاعدة عامة في أعمال التدخل العسكري للدول الكبرى، وقد رأينا روسيا تعتمد ذات الطريقة في إعلان الحرب على أوكرانيا. قالت روسيا: إنها بصدد عملية خاصة، لكن ما حدث أن العملية الخاصة تواصلت لأكثر من عامين، بل باتت تُهدّد بالتحول إلى حرب عالمية.
لا يجب الحكم على التدخلات العسكرية من إعلاناتها الأولى، فلطالما كانت الإعلانات الأمريكية عن تدخلاتها العسكرية لطيفة، وكأنها استجابة لنداء إنساني، أو كأنها ضرورة للرد على اعتداء جرى ضد المصالح أو القوات الأمريكية تنتهي بعدها. والتاريخ الأمريكي حافل بالتدخلات التي كانت نهاياتها مأساوية.
لقد جرى التدخل العسكري الأمريكي في العراق، تحت شعارات تحقيق الديمقراطية وإنهاء الديكتاتورية، ووصلت الدعاية الأمريكية حد الحديث عن إنقاذ البشرية من احتمالات استخدام السلاح الكيماوي، لكن الأمر انتهى إلى تدمير العراق.
وقد جرى التدخل العسكري في أفغانستان تحت عنوان الحرب على الإرهاب، وجرى التدخل العسكري في لبنان في الخمسينيات من القرن الماضي وبعدها في السبعينيات تحت عنوان إنقاذ البلاد من الحرب الأهلية. وكل تلك تجارب يجب استدعاؤها الآن حين النظر في الإعلان الأمريكي عن تشييد الميناء في غزة.
وتشير الكثير من المواقف الدولية إلى عدم الاقتناع بالأسباب التي طرحتها الولايات المتحدة. لقد سارع الاتحاد الأوروبي إلى الإعلان عن أن الميناء لا يجب أن يكون بديلاً عن فتح المعابر البرية.
وقالت منسقة الأمم المتحدة للمساعدات في غزة سيغريد كاغ، ورئيس مكتب الأمم المتحدة لخدمات المشاريع خورخي موريرا دا سيلفا، في بيان مشترك: إنهما «يرحبان بفتح ممر بحري... لكن لتوصيل المساعدات على نطاق واسع، ولا يوجد بديل فِعْليّ للطرق البرية».
وكان الأشد وضوحًا في إظهار عدم القناعة بالأسباب الأمريكية ما صرّح به المقرر الأممي الخاص المعني بالحق في الغذاء مايكل فخري، الذي ذهب حد وصف مقترح بايدن بأنه «خبيث»، لافتًا إلى أن واشنطن تقدّم في نفس الوقت القنابل والذخائر والدعم المالي لتل أبيب. وقال: «للمرة الأولى أسمع أحدًا يقول: إننا بحاجة إلى استخدام رصيف بحري. لم يطلب أحد رصيفًا بحريًّا، لا الشعب الفلسطيني ولا المجتمع الإنساني». (فرانس 24 بتاريخ 11-3-2024م).
وفي كل ذلك، فما بات مؤكدًا هو أن الولايات المتحدة ترى أن الحرب ستطول بحكم أن تشييد الميناء سيأخذ وقتًا، وكذلك فإنه ليس مستبعدًا -في وقت ما- أن تتدخل الولايات المتحدة عسكريًّا تحت عنوان حماية الميناء من هجمات الرافضين للوجود الأمريكي في غزة.