• - الموافق2024/11/05م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
بوشكين والقرآن: تأثير الثقافة الإسلامية في خيال الأديب الروسي

كان بوشكين يرى أنّ هناك علاقة وثيقة بين الشعر والمجتمع، وبين الفن والحياة؛ فالفن يجب أن يكشف عن حقيقة الحياة، وأنْ يمتلك علاقة عميقة بإبداع الشعب، بل وأن يكون له طابع وطنيّ.

 

يُعدّ الشاعر والكاتب الروسي الشهير ألكسندر بوشكين (1799-1837م) من أبرز الشخصيات الأدبية في القرون الوسطى في روسيا، وقد اشتهر بأسلوبه الأدبي الراقي وقُدرته على التعبير عن المشاعر بشكلٍ عميقٍ ومؤثّر، وكان متأثّرًا بالآداب الشرقية، ومُهتمًّا بالثقافة الإسلامية، وتأثَّر بها حضاريًّا وتُراثيًّا وروحيًّا، وتأثّر بالقرآن الكريم، واستلهم من آياته في أشعاره وكتاباته، واستطاع أنْ يَمزج بين الأدب الروسي وتأثيرات الثقافة الإسلامية حتي أصبح يُمثّل ظاهرةً أدبيةً فريدةً في تاريخ الأدب الروسي الحديث في الشعر والقصة القصيرة والرواية والمسرح، واعتبره المؤرّخون أمير شعراء روسيا، ومؤسِّس الأدب الروسي الحديث، وسُميت فترة إنتاجه في القرن التاسع عشر الميلادي بالعصر الذهبي للشعر الروسي.

نشأته وحياته

هو ألكسندر بوشكين  Alexander Pushkin وُلِدَ ونشأ في موسكو في السادس والعشرين من شهر يونيو عام 1799م، وينحدر من ناحية الأب لعائلة أرستقراطية من النبلاء المُثقّفين التي تعشق الفنون والآداب، وقد كانت له أصول إفريقية من ناحية الأم؛ فجذوره ترجع إلى أصلٍ حبشيّ من مسلمي إفريقيا؛ فأُمّه حفيدة إبراهيم هانيبال Abram Hannibal (1696-1781م) الجد الأكبر لبوشكين الذي تمَّ إهداؤه إلى القيصر بطرس الأول قيصر روسيا الخامس، وأصبح من ضُبّاطه المُقرّبين، ولتأثُّره بتاريخ جدّه المسلم حكى قصته نثرًا في روايته المعروفة (عبد بطرس العظيم) عام1827م، والتي تُعدّ من أعظم الروايات التاريخية في الأدب الروسي.

التحق بوشكين بأرقى المؤسّسات التعليمية في روسيا الخاصة بأبناء النبلاء، وجذب بوشكين انتباه زملائه ومُعلّميه بموهبته الشعرية، وكتب عددًا من القصائد الشعرية، وبعد تخرُّجه أُسندت إليه وظيفة في وزارة الخارجية، وكان كثيرًا ما يرتاد مجتمعات بطرسبرج (ليننجراد حاليًّا) وأنديتها الأدبية والعِلمية.

حبّه ونبوغه في الشعر

تفتّحت موهبة بوشكين الشعرية مُبكرًا، فكتب أولى قصائده عندما كان عمره 14 عامًا، ونشرتها الصحافة الروسية في العام التالي. لقد بزغت موهبته بشكلٍ عجيب جعلت شعراء عصره يرون أنّه سيُصبح شاعرًا عظيمًا، وقد ابتدأت اهتماماته السياسية بعد تخرُّجه؛ فاهتم بقضايا المجتمع من حوله، وأخذ يكتب قصائد وأشعارًا سياسية ذات طابع ثوري، والتي سرعان ما انتشرت بكثرة، وتناقلها الناس؛ فأثارت غضب القيصر ألكسندر الأول؛ الذي نفاه إلى مستعمرات روسيا الجنوبية (منطقة القوقاز والقرم) عام1820م. وكانت فترة النفي نقلةً كبيرةً في مَسيرته الشعرية وإنتاجه الأدبي، وأتاحت له هذه الفترة فرصة رائعة للاطلاع على الثقافة العربية الإسلامية للشرق، فشاهَد المسلمين وعاش بين جنباتهم، وجالَسهم ورآهم كيف يُصلّون، وقرأ ترجمة فيريوفكين لمعاني القرآن الكريم، وأصغى إلى القرآن مُرتلاً، وتعرّف على سيرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، ورأى فيه مثال القائد الحكيم والمحارب والمقاتل[1].

وخلال عامين من إقامته في منفاه كتب بوشكين أكثر من سبعين قصيدة وقصة شعرية وملحمة، وقد نُفي مرةً ثانية لبلدة والدته بشمال غربي روسيا، واستغل بوشكين سنين الوحدة والعزلة في دراسة التاريخ الروسي، والتعرُّف على حياة الفلاحين وتُراثهم الشعبي، وهو ما أثَّر بوضوح في أعماله وكتابته التي عبّرت عن الوضع الاجتماعي والسياسي في البلاد[2].

أسلوبه الشعري وموضوعاته الفنية

 كان بوشكين فنانًا شاملاً؛ فقد تطرّق في إنتاجه إلى فنون أدبية متنوعة، وعُرف عن بوشكين حبّه للتجديد في الشعر، ولذلك تنوّعت موضوعاته فكتب القصيدة العاطفية والحماسية، والقصة الشعرية الرومانتيكية والمسرحية القصيرة والقصة والرواية الشعرية، وتميَّز أسلوبه بالوضوح المتناهي، وإيجاز العبارة ودقتها مع ثراء أحاسيسه ووجدانه وحدَّة طبعه وحبّه وتعاطفه وتفاعله مع عامة الناس؛ فكان نصيرًا للفقراء والضعفاء كارهًا للظلم والاستبداد، ولذلك جاءت موضوعاته تُعبِّر عن قضايا مجتمعه، وتحمل رسالةً تهدف للقضاء على مظاهر الاسترقاق وإذلال الفلاحين، وتُطالب بالحرية والعدالة للجميع. ولذا يُعدّ من أوائل الذين نادوا بالحرية للشعب باعتباره المرجع الوحيد للسلطة.

وكان بوشكين يرى أنّ هناك علاقة وثيقة بين الشعر والمجتمع، وبين الفن والحياة؛ فالفن يجب أن يكشف عن حقيقة الحياة، وأنْ يمتلك علاقة عميقة بإبداع الشعب، بل وأن يكون له طابع وطنيّ.

أمّا عن أسلوبه الأدبي فتنقّل بوشكين بين الرومانتيكية والواقعية حتى أصبح من روّاد الأدب الواقعي في روسيا، فتأثّر في بداياته بالشاعر الروسي الشهير فاسيلي جوكوفسكي (Vasily Zhukovsky  1783-1852م)، والذي يُعدّ أحد مُؤسِّسي مذهب الرومانسية في الأدب الروسي، وقد انضم بوشكين إلى الرومانتيكين في نضالهم ضد دعاة التمسُّك بالقديم، كما توجّه لاحقًا صوب الأدب الإنجليزي؛ حيث أراد إحداث تغيير جوهري في المسرحيات الروسية، فتأثّر بالشاعر الإنجليزي الشهير وليم شكسبير William Shakespeare (1564-1616م)، فوجد في مسرحياته الانطلاق والخلاص والأهداف السامية، ورأى أنّ المسرح الروسي يتلاءم ومسرحيات شكسبير الشعبية[3].

إعجاب بوشكين بالشرق وتأثُّره بالثقافة الإسلامية

 يتبوأ الشرق مكانةً مرموقةً في دائرة معارف بوشكين ومصادر ثقافته، ويعود ذلك لعدة أسباب؛ منها أنّه عاصَر فترة ازدهار الاستشراق في روسيا، وأنّه قرأ ترجمة ميخائيل فيريوفكين لمعاني القرآن عام1790م، وذلك خلال فترة منفاه في الجنوب في شبه جزيرة القرم والقوقاز، والتي مكَّنته من البقاء على اتصالٍ مباشر بالشعوب الإسلامية، هذا فضلاً عن أصول بوشكين الإفريقية، والتي كانت دافعًا كبيرًا لغوصه في أعماق الشرق.

ولقد تأثّر أمير شعراء روسيا بالقرآن والسيرة النبوية بشكلٍ كبير، فقال عن القرآن الكريم: «إنَّه هو الكتاب الديني الوحيد الذي أذهَل مخيلته، فأراد نقل تعاليمه وآدابه إلى قرّاء شِعْره»، وانعكس هذا على أعماله وإنتاجه الشعري الذي يفيض بالروح المُحِبَّة للإسلام وتعاليمه، وأخرج للمكتبة الروسية والعالمية قصيدتين رائعتين: الأولى بعنوان (محاكاة القرآن)، والثانية بعنوان (الرسول)؛ والتي تحدّث فيها عن الصعاب التي واجهت النبي صلى الله عليه وسلم  قبل فترة الدعوة وخلالها، وهو ما تلامَس مع الحسّ الثوري الذاتي عند بوشكين، ليتناول ما حدث في غار حراء وليلة القدر في صورةٍ شعرية أسقطها على نفسه، فعندما كتب بوشكين عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنما كان يرى فيه رسالة عظيمة كالتي يحملها هو لروسيا، ورأى في صفاته كقائد عسكري ما حمله على الإعجاب به لِمَا رأى في شخصيته صلى الله عليه وسلم  من قوةٍ وصبر على الظلم والأذى، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم  مرشد بوشكين في محنة المنفى التي تعرّض لها، مُتلامسًا مع سيرة جده إبراهيم هانيبال الذي كافَح حتى أصبح من أعظم القادة العسكريين في جيش القيصر الروسي، فجاء توظيفه لهذه العناصر مُعبِّرًا عن تفتُّحه الثقافي وقدرته على استيعاب واستخدام مختلف التأثيرات الثقافية في أعماله الأدبية[4].

مؤلَّفات بوشكين المتأثرة بالشرق والإسلام

انعكس حبّ بوشكين للشرق وللإسلام في أعماله الروائية والشعرية المُستمَدَّة من الأدب العربي، ومن القرآن الكريم والسُّنة النبوية، فقد أكّد النُّقَّاد عِشقه لكل ما هو عربي أو إسلامي، فاستلهم عَمله الأدبي الرِوائي الشهير بعنوان (روسلان ولودميلا)، و(ليالي مصرية) من قراءته لرائعة الأدب العربي (ألف ليلة وليلة) بعد ترجمتها من العربية. وفي الواقع إنّ قصة ألف ليلة وليلة تُعتبر أشهر مُؤلَّف عربي أثار خيال الشعراء الأوروبيين عامةً والرومانتيكيين خاصةً، وقد بدأ في ذلك العصر التقارب بين الأدب الروسي والآداب الشرقية والعربية.

ومن أشهر أعمال بوشكين المُستوحاة من القرآن الكريم: تسع قصائد جمعها بوشكين في مُؤلَّفه الشهير (قبسات من القرآن)، أو(محاكاة القرآن)، والتي كتبها عام1826م، وتُظْهِر تأثُّره الكبير بالقرآن وبالتُّراث الروحي للمسلمين وللشرق العربي، وكبرهانٍ دامغٍ على قدرة القِيَم القرآنية على عبور آفاق الزمان والمكان والتغلغل في نفوس أناس لا يؤمنون بعظمة القرآن الكريم؛ وجد بوشكين في نصوص الآيات القرآنية وبأشكال صياغتها خير مساعدٍ في رفع صوت الاحتجاج ضد الشّر وأشكال القهر والظلم، وفي التأكيد على حب الإنسانية، والميل نحو الخير والطبيعة والجمال، وفي احترام الكلمة الشريفة المنادية بصوت الحق[5].

وفي قصيدته الأولى من قبساته؛ استهل بوشكين بالقسم القرآني المُميَّز للعديد من السور، ثم أتبعه بمقطعٍ استلهم منه آيات من سورة الضحى، فيقول بوشكين واصفًا معاناة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وحزنه لفتور الوحي عنه فيقول فيها: «أقسم بالشفع والوتر، وأقسم بالسيف وبمعركة الحق، وأقسم بالنجم والصباح، وأقسم بصلاة العشاء؛ لا، لم أودعك».

ومن أمثلة اقتباساته القرآنية: استلهامه للآيات 17-31 من سورة عبس، ونصها: {قُتِلَ الإنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ 17 مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ 18مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ 19 ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ 20 ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ 21 ثُمَّ إذَا شَاءَ أَنشَرَهُ 22 كَلَّا لَـمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ 23 فَلْيَنظُرِ الإنسَانُ إلَى طَعَامِهِ 24 أَنَّا صَبَبْنَا الْـمَاءَ صَبًّا 25 ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا 26 فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا 27 وَعِنَبًا وَقَضْبًا 28 وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا 29 وَحَدَائِقَ غُلْبًا 30 وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 17 - 31]. وهذه الآيات تدعو إلى التأمُّل في الكون، فيقول بوشكين: «علام يتغطرّس الإنسان؟! على أنّه جاء إلى الدنيا عاريًا، على أنه يستنشق دهرًا قصيرًا، وأنه سيموت ضعيفًا، مثلما وُلِدَ ضعيفًا، ألا يعلم أنّ الله سيُميته، ويبعثه بمشيئته؟، وأنَّ السماء ترعى أيامه، في السعادة وفي القدر الأليم؟ ألا يعلم أنّ الله وهبه الثمار، والخبز، والتمر، والزيتون، ثم بارك جهوده، فوهبه البستان، والتل والحقل؟».

ويسترعي الانتباه أنّ القصيدة الثانية من قبساته أعلى فيها بوشكين من قِيمة العفة وحشمة المرأة في القرآن، فقد أتى على ذِكْر الحجاب وآدابه مستندًا إلى سورة الأحزاب والنصح بعدم الاتجاه إلى تبرُّج الجاهلية الأولى، وكان ذلك بسبب نفور بوشكين من البهرجة والتبرُّج السائد في طبقته الأرستقراطية، ومَيله إلى النموذج الإسلامي للعِفّة[6].

ومن الاقتباسات التي تناولها بوشكين أيضًا: جوانب من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم  وتبتُّله وطاعته وقيامه في صلاة الليل؛ فاستلهم آيات من سورة المزمل آيات 1-10: {يَا أَيُّهَا الْـمُزَّمِّلُ 1 قُمِ اللَّيْلَ إلَّا قَلِيلًا 2 نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا 3 أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا 4 إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا 5 إنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا 6 إنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا 7 وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلًا 8 رَّبُّ الْـمَشْرِقِ وَالْـمَغْرِبِ لا إلَهَ إلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا 9 وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [المزمل: 1 - 10]؛ فيقول بوشكين في ذلك: «انهض أيها الوَجِل! ففي كهفك مصباحٌ مقدس، يضيء حتى الصباح. وبصلاةٍ خالصة تُنحِّي يا رسول الأفكار الشجية، والأحلام الشيطانية، وأقم الصلاة في خشوعٍ حتى الصباح، والكتاب السماوي اقرأه حتى الصباح»، وغيرها الكثير.

وأخيرًا رحل بوشكين في10 فبراير 1837م وهو في عُمر الثامنة والثلاثين، وهو في قمة نُضجه وقدرته على العطاء الأدبي تاركًا إرثًا ثقافيًّا كبيرًا، وبقيت أشعاره عزيزة على وطنه شامخة فوق حدود الزمان والمكان. ولقد أضاف التأثير الإسلامي في شِعْر بوشكين بُعدًا مُميِّزًا لأعماله الأدبية؛ فقد كان اهتمامه بالثقافة الإسلامية له تأثير إيجابي في توسيع آفاق الأدب الروسي وإثراء محتواه، ونجح في تجسيد بعض المفاهيم الدينية والثقافية الإسلامية بأسلوبه الشعري الراقي، مِمَّا أضْفَى على قصائده لمسةً فريدة وعُمقًا إضافيًّا.


 


[1] محمد عبدالعزيز الدريد، حركة الترجمة الروسية لمعاني القرآن الكريم، ص60.

[2] ألكسندر بوشكين، القصائد الشرقية، ترجمة طارق مردود، منشورات دار علاء الدين، 1999م، ص21.

[3] ناصر أحمد سنة، أمير الشعراء الروس وقبسات من القرآن، 9 مايو2022م، منشور على موقع المقالة الإلكترونية، على الرابط التالي:  https://almkala.com/

[4] وليد رمضان، بوشكين: أمير شعراء روسيا.. كيف تأثر بالإسلام، مجلة الرافد، حكومة الشارقة- دائرة الثقافة، ع242، 2017م، ص ص67-70.

[5] يوسف بكار، في الأدب المقارن.. مفاهيم وعلاقات وتطبيقات، ص104.

[6] للمزيد: مكارم الغمري، مؤثرات عربية وإسلامية في الأدب الروسي، مجلة عالم المعرفة، ع155، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، نوفمبر1991م، ص ص59-138.

أعلى