ويتوقع المراقبون أن يكون تحرير بعض القواعد في أم درمان، وتصاعُد حركة تشكيل مجموعات المقاومة، وقتالها إلى جانب الجيش، مقدمة لبدء زحف الجيش لتحرير مواقع ومعسكرات أخرى في داخل العاصمة خلال الفترة القادمة.
شهد الصراع الجاري في السودان تغييرًا نوعيًّا في الفترة الأخيرة؛ إذ تحوَّل الجيش
من الدفاع من داخل معسكراته المحاصَرة في الخرطوم -منذ اندلاع انقلاب حميدتي-، إلى
حالة الهجوم لتحرير المحاصَرين في داخل تلك القواعد، ولتغيير معادلات السيطرة على
أحياء العاصمة.
كما بات ظاهرًا حدوث تحوُّل في الموقف الشعبي؛ إذ تشكَّلت مجموعات شعبية مساندة
لقوات الجيش. وكذا، بات واضحًا أن الدولة باتت تستعيد زخم حركتها على الصعيدين
الداخلي والخارجي.
وقد جاء هذا التغيير النوعي نتيجة لخطة طال انتظارها، حتى قيل: إن بعض القوات
تململت -إن لم يكن قد نفد صبرها-، وراجت شائعات في العاصمة عن بوادر ومؤشرات على
انقلاب جديد داخل الجيش. وهو ما نفته القيادة العسكرية.
كما جاء هذا التغيير النوعي بعد مرحلة أصاب اليأس المجتمع، وباتت الهجرة وترك
البلاد خيارًا لأعداد متزايدة من المواطنين.
تلك الخطة ظهرت ملامحها في تحرير حركة رئيس مجلس السيادة؛ إذ زار العديد من مناطق
سيطرة الجيش خارج وداخل العاصمة، كما ظهرت في زياراته وتحركاته على الصعيد
الإقليمي، وكان الهدف واضحًا: إفشال خطة إسباغ الشرعية على التمرُّد، والتصدي
لمحاولة إظهار المعركة الجارية باعتبارها حالة حرب بين مجموعتين عسكريتين، بل على
أنه صراع بين جيش الدولة ومتمردين على الشرعية.
كما بدا أن حركة رئيس مجلس السيادة استهدفت التأكيد على استقرار سيطرة الدولة، وأن
الدولة تحوَّلت إلى نمط هجومي ورافض للدور الخارجي الداعم لحركة المتمردين.
كما ظهر، وكان لافتًا في تلك الخطة، أنها لم تَعُد تكتفي بحالة الحشد الجماهيري
العام حول الدولة، بل تخطَّتها إلى فكرة تشكيل مجموعات عسكرية داعمة للجيش، أطلق
عليها توصيف «المقاومة الشعبية»، ومن هذه المجموعات «كتيبة البراء»، و«كتيبة
غاضبون»، وكتيبة «البنيان المرصوص»، وغيرها.
وهي مجموعات منتشرة الآن في معظم أنحاء المناطق التي تشهد قتالاً، ولا تقتصر على
العاصمة وحدها. وبعض منها يعمل في مجال جمع المعلومات عن أماكن انتشار مجموعات
المتمردين، والبعض الآخر يقوم بأعمال قتالية إلى جانب الجيش.
وهي توجُّهات احتشدت جميعها لتنتج المشهد الجديد الذي تابَعه الجميع في أم درمان،
وفي كثير من أنحاء العاصمة، وفي ولايات عديدة.
ويتوقع المراقبون أن يكون تحرير بعض القواعد في أم درمان، وتصاعُد حركة تشكيل
مجموعات المقاومة، وقتالها إلى جانب الجيش، مقدمة لبدء زحف الجيش لتحرير مواقع
ومعسكرات أخرى في داخل العاصمة خلال الفترة القادمة.
ولقد بدا أن الجيش قد استعاد زمام المبادرة، بعد ما حصل بالفعل على بعض الأسلحة
النوعية من جهة، وبعد أن نجح في تغيير معادلة قلة أعداد الجنود التي طالما عانَى
منها مقارنةً بقوات المتمردين.
غير أن مشوار الوصول إلى تغيُّر كيفيّ في توازنات الحرب ما يزال طويلاً؛ إذ المعركة
الجارية متوسعة بتوسع أرجاء السودان، ولأن المتمردين يحاصرون معسكرات ومواقع وقواعد
عسكرية أساسية في داخل الخرطوم، كما أنهم يسيطرون فعليًّا على مناطق واسعة في
ولايات أخرى.
والأهم أن قوات التمرد لا تُشكّل حالةً من حالات التمرد الداخلي المحدود؛ إذ أدرك
الجميع الآن أنها تخوض تلك المعركة بدعم خارجي كبير، بات الفريق البرهان يتحدث
صراحةً عنه في الفترة الأخيرة.
فكيف حدث هذا التحوُّل؟ وهل يمكن المراهنة بجدية على تحوُّل الانتصارات الأخيرة في
أم درمان إلى انتصارات أعمّ -على الأقل في العاصمة-؟ وكيف تحوَّل الجيش إلى الهجوم؟
وما المتوقع أن تقوم به قوات المتمردين في الفترة القادمة؟
هجوم المتمردين وتثبيت المعادلات
إن كان هناك من سوء تقدير لدى الجيش ومجلس السيادة، فهو أنهم لم يتوقعوا أو يستعدوا
للحظة انقضاض قوات التمرد المتمثلة في الدعم السريع على معسكرات الجيش، وأن فِطنتهم
السياسية لم تذهب بهم إلى قراءة المشهد على نحو دقيق، وعلى وجه الدقة فإنهم لم
يدركوا أن التحركات السياسية الخارجية والشروط التي وُضعت -خاصةً توحيد المؤسسة
العسكرية-، وتلك التي قامت بها بعض القوى السياسية في الخرطوم لعدة شهور متوالية،
لم تكن سوى مقدمة لتحرك قوات الدعم السريع للانقضاض على الجيش.
لقد بدا واضحًا أن ما حدث في اليوم الأول لانقلاب قوات التمرد كان مفاجئًا أو غير
متوقع؛ إذ تمكَّنت قوات الدعم السريع من تحقيق نتائج خطرة على صعيد حصار العديد من
قوات الجيش في معسكراتها وقواعدها وكذلك المقرات الرسمية لإدارة الدولة، وكذا أن
تمكَّنت قوات التمرد من احتلال والسيطرة على مناطق وأحياء كاملة في الخرطوم، بل حتى
على جسور وممرات حيوية تربط أطراف العاصمة.
لقد استفادت قوات الدعم السريع من عدم اليقظة وعدم توقع انقلابها، ونجحت في فرض
وقائع لا تزال تحكم مشهد التوازنات حتى الأيام الأخيرة. لقد حاصرت قوات الدعم
معسكرات ومواقع للجيش -التي كانت مسؤولة عن حراستها-، بما منع الجيش من حسم المعركة
لمصلحته، وفق نمط الحرب السريعة.
وكان لوقع ما تحقّق نتائجه على الصعيد السياسي الإقليمي والدولي؛ إذ قلّل من حركة
الدعم التي كان يُفتَرض أن تقدّمها كثير من الدول لمجلس السيادة والجيش لتخوُّف
العديد من تلك الدول من عدم قدرة الحكم على مُواجَهة الانقلاب.
كان الاعتماد كبيرًا في أمن العاصمة وحراسة المواقع السيادية، بل حتى المواقع
العسكرية على دور قوات الدعم السريع. وهي حالة لم تتغير حتى اللحظة الأخيرة حين وقع
الانقلاب أو محاولة الاستيلاء على السلطة، وهو ما مكَّن قوات الدعم السريع من
الانقضاض على جميع المؤسسات والمواقع دون جهد، وبدون تحركات عسكرية لافتة.
إعادة توصيف الصراع
لقد بدا الفريق البرهان رئس مجلس السيادة في الأشهر الأخيرة واضحًا في تأكيداته على
تلقي المتمردين دعمًا خارجيًّا. ولقد تحدَّث بجلاء عن هذا الدعم، فقال: «إن قوات
الدعم تتلقَّى دعمًا خارجيًّا كلما تلقت هزائم». وقال: «إن بعض الدول الإقليمية
والعالمية تقدّم الدعم لقوات حميدتي، تحت مظلة دعاوى زائفة»، على الرغم من توثيق
قيام تلك القوات بارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية بشهادة دول العالم
والمنظمات الدولية.
كما دعا البرهان الدول التي تستضيف قوات الدعم السريع إلى التخلّي عنهم، وعدم
التدخل في شؤون السودان الداخلية، محذرًا من أن بلاده يحقّ لها اتخاذ التدابير
الضرورية لحفظ سيادتها وأمنها.
تلك التصريحات ليست مجرد تبرير لاستمرار قوات الدعم في القتال طوال الفترة الماضية،
ولا يقتصر هدف إطلاقها على التشهير بالمتمردين، بل هي تصريحات تحمل في طياتها
تحولًا باتجاه إعادة توصيف الأزمة.
لقد بدت الحرب بين الجيش ومتمردي الدعم السريع -حين اندلعت-، وكأنها حالة خلاف حول
دور ونصيب كلٍّ منهما في السلطة، وبدا أيضًا أنها حالة فرضتها تداعيات الارتباك
والفوضى التي أحدثتها حالة الاضطراب في الشوارع وفي مؤسسات الدولة. كما نُظِرَ لتلك
الحرب باعتبارها حالة ناتجة عن إفشال الجيش لتجارب الحكومات التي تشكَّلت واحدة تلو
الأخرى بعد سقوط نظام البشير.
باختصار كان التوصيف لما يجري أن الدعم السريع انحاز إلى حركة الشعب والمتظاهرين في
مواجهة سيطرة وسطوة الجيش.
غير أن تصريحات البرهان، ومثلها ما يتردَّد على ألسنة السياسيين الداعمين للحكم؛
باتت تشير إلى توصيف مختلف، وإلى النظر لما يجري باعتباره صراعًا لا يمكن فصله عن
الذي جرى من قبل من استهداف السودان جغرافيًّا ومجتمعيًّا وحضاريًّا.
لقد بات ظاهرًا أن الموقف الرسمي السوداني، وبشكل أكثر تحديدًا موقف الجيش
السوداني، بات مبنيًّا الآن على إدراك كلي بأن رأس الجيش مطلوبة، لا بسبب سيطرته
على الحكم، بل بسبب دوره في الحفاظ على الجغرافيا والهوية السودانية، وأن الدولة
السودانية لم تعد تنظر لما يجري باعتباره مجرد حالة تمرُّد من جماعة تختلف مع قيادة
الجيش حول النظام السياسي أو حول المصالح والأدوار.
بات واضحًا أن الدولة والجيش في موقع الإدراك الآن بأن الجيش أصبح في طليعة
المواجهة مع حالة تستهدف تفكيك السودان. وهو أمر تأكَّد لتلك الجهات بعد ما ظهر
واضحًا في إفصاح دول مجموعة «الإيجاد» عن مواقفها، -وهي من وكَّلها الغرب في إدارة
الصراع-؛ إذ حاولت المساواة في الشرعية بين الجيش والدعم السريع، كما سعت لفرض حظر
طيران في الخرطوم.
كما تأكد من خلال مطالعة الأفكار التي طرحها المبعوثون الغربيون، والتي كان على
رأسها ضرورة تسليم الجيش للحكم، وأن يتم تسليم السلطة إلى تلك المجموعات النَّشِطَة
التي لا أغلبية شعبية لها، دون انتخابات، بل جرى التشديد على رفض الذهاب إلى بناء
سلطة -أو تشكيل حكومة- عبر إجراء انتخابات حرة تحدد الأوزان الشعبية.
وكل ذلك أظهر الطبيعة الانقلابية لما يجري، وأكد أن السودان هو المستهدَف، وأن
إطاحة الجيش من الحكم دون تشكيل حكم عبر انتخابات عامة لا يعني سوى تمرير مخطط
تفكيك السودان.
لقد تأكد الأمر وصار شائعًا الحديث عنه بعد أن ظهرت مواقف دولية وإقليمية داعمة
لحركة التمرد.
مرحلة مختلفة شعبيًّا وعسكريًّا
تتحرَّك عجلة الصراع في اتجاه مختلف عن ما ساد في المرحلة التي تلت إطاحة نظام حكم
الرئيس البشير. وإذا كان البعد «الديمقراطي»، وفكرة منع مَن كانوا في سلطة البشير
من المشاركة في الحياة السياسية، وإنهاء دور الجيش في الحكم قد سيطرت على حركة
الصراع خلال التظاهرات الجماهيرية وأعمال الحشد والتعبئة، فما يشهده السودان في
المرحلة الحالية، هو سطوة البعد الوطني في فهم الصراع، والسعي لتحقيق الاستقرار.
حين اندلعت التظاهرات، وما ارتبط بها من أعمال عنف وقتل ضد المتظاهرين، كانت حركة
الصراع تجري في اتجاهين؛ الأول: إنهاء سيطرة الجيش على الحكم، والثاني: إنهاء
واستبعاد دور المجموعات الإسلامية من الحياة السياسية في السودان عبر إجراءات
ثورية، وبالدقة عبر إجراءات وقرارات إدارية.
وقد دار الصراع، وتجدد بين مرحلة وأخرى تحت تأثير هذين العاملين.
لكن اندلاع التمرد، وما لحق بمؤسسات الدولة ومرافقها من تدمير، وما لحق بالمواطنين
من خسائر قاسية، ووصول الأمر حد اعتماد نظريات تتحدَّث عن تغيير ديموغرافي في
البنية السكانية للخرطوم، قد حرَّك قطاعات جماهيرية، وغيَّر مواقفها من دعم
التحركات التي كانت مسيطرة على المشهد تحت عناوين الديمقراطية، إلى الوقوف ضدّها،
والسعي نحو الاستقرار.
وهكذا، فبعد ظهور مواقف خارجية داعمة ومساندة لحركة التمرد وتبنّي شعارات التفكيك
للدولة والجغرافيا، حدث تحول آخر؛ إذ دخل عنصر المشاعر الوطنية على المشهد، وأصبح
طاغيًا على الصراع.
وبذلك دخل الصراع في السودان مرحلة أخرى مختلفة كليًّا.
المتمردون وخيارات الحركة
كانت إشكالية المتمردين عسكريًّا، أنهم لا يمتلكون طائرات أو وسائل دفاع جوية قادرة
على شل فعالية قصف الطائرات الذي استعاض به الجيش عن الزحف لتحرير المناطق
والمعسكرات.
في تلك المواجهة اعتمد المتمردون خطة للانتشار والاختباء في المساكن والأحياء،
واستثمار خفة حركة قواتهم -باعتبارها قوات مُعدَّة لمثل هذا النمط من التدخل-؛
لاستمرار سيطرتهم على الأرض.
وكان الجيش يكثّف ضرباته الجوية لتعويض النقص العددي لقواته من جهة، ولاستنزاف قوات
ومعدات المتمردين. وكانت مشكلة الجيش تتعلق بثِقَل معداته، وعدم تمتُّعه بخفة
الحركة، وبطبيعة الحال كان يَحُدّ من قدرته على الهجوم تبنّيه لضوابط قيمية تعرقل
قدرته على ممارسة التدمير خلال أعمال القتال.
والآن، وإذ بدأ الجيش حركته البرية لتحرير قواعده، أو لفكّ حصار قواته المحاصَرة
داخل قواعدها، وبعد أن تكاثرت المجموعات الشعبية الداعمة للجيش، وحدث تحوُّل في
شعارات الصراع، فلا شك أن المتمردين سيُعيدون حساباتهم، ويُغيّرون وسائل حركتهم في
الصراع.
ويُتوقَّع أن يبدأ المتمردون في التحرُّك على مسارين؛ الأول سياسي بتوسيع التحالفات
مع قوى سياسية ومجموعات رافضة للحكم القائم؛ لمواجهة عُزلتهم المتنامية. والثاني
عسكري، ويتمثل في السعي للحصول على أسلحة تُمكِّن تلك القوات من مواجهة الطائرات،
خاصةً المسيَّرة منها، والتي أدى دخولها الحرب إلى متابعة ورصد حركة مجموعات
المتمردين، وتوجيه ضربات مؤثرة لهم.
والأغلب أن الميلشيات باتت ترتّب من الآن لمرحلةٍ قد تضطر فيها إلى مغادرة الخرطوم،
وفي ذلك لن يكون أمامها إلا الانسحاب إلى المناطق التي توجد فيها حواضن قبلية
وجهوية لتلك القوات.