تأثَّرت الشخصية اليهودية بالفكر الغربي من الليبرالية والعلمانية والقومية والأساطير الدينية التي جعلت من الشخصية اليهودية «الشخصية الأسطورية».
يعاني المجتمع الإسرائيلي من التنوع السكاني والمكاني والانقسام؛ فهو مجتمع غير
متجانس ومتصدّع، يعاني من الانقسام القومي، الطائفي، الديني، والأيديولوجي. هذا
التصدع الطبقي أدّى إلى تكوين تكتلات اجتماعية داخل الكيان الإسرائيلي لكل واحدة
منها مواقف عملت على تشكيل وتكوين الشخصية اليهودية الإسرائيلية من التأثيرات
الدينية والتوراتية والتراثية.
إن الحديث عن بعض الأساطير والروايات التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالتاريخ
العبراني، علاوةً على العناصر المكتسبة من الحضارات التي عاش في ظلالها اليهود،
سواء كانت المجتمعات العربية أو المجتمعات الغربية التي كان لها الأثر على نفوس
الجماعات اليهودية التي عاشت في ظلالها؛ يحتاج لبحثٍ طويلٍ؛ فالشخصية اليهودية مرت
بتقلبات ساهمت بخلق مُجتمع مُتعدّد التوجهات والاختلافات والتصدُّعات، التي ظهرت
بسبب التنوع السكاني والعرقي للمجتمع الاستيطاني الاحتلالي في الكيان الصهيوني في
فلسطين، هذا التنوع السكاني أبرز وجهًا آخر من أوجه الانقسام في الكيان المحتل، لم
تكن أوجه الانقسام فريدة من نوعها، وإنما يمكن اعتبارها مظهرًا من مظاهر التشظي
الثقافي والاجتماعي في المجتمع الصهيوني، وامتدادًا لتاريخ من الشقاق بين الأعراق
والطوائف، فإمّا صراعات طائفية ومذهبية كالتي بين المحافظين
«الحريديم»
والعلمانيين، وإمّا صراعات عرقية وطبقية كالصراع الأبدي بين الأشكناز
«يهود
الغرب وأوروبا»
والسفارديم
«يهود
الشرق»،
وحديثًا بين الأشكناز والفلاشا
«يهود
الحبشة».
نتج عن هذا الاختلاف تنوع في الحقوق والخدمات وتنوع معيشي وتعليمي، فبينما كان
الأشكناز أفضل تعليمًا وأكثر ثراءً وميلاً نحو الحداثة والعلمانية، كان يهود الشرق
السفارديم -على العكس من ذلك- يعانون من نقص المهارات التعليمية والثقافية، فضلاً
عن الفقر الشديد والجنوح الثقافي عن حداثة أوروبا وعلمانيتها.
ولقد تبنَّى هذا الموقف علنًا أول رئيس وزراء للكيان الصهيوني
«ديفيد
بن غوريون»
الذي كتب في مذكراته، يقول:
«إن
يهود أوروبا شكّلوا شخصية الشعب اليهودي في العالم بأسره. والصهيونية هي في الأساس
حركة اليهود الغربيين».
وشبّه بن غوريون يهود البلاد العربية بـ«الزنوج
الذين أُحضروا إلى أمريكا كعبيد».
انعكست هذه الفوارق بدورها على التمثيل السياسي لكل من الفريقين في المناصب
السيادية والعسكرية؛ إذ استحوذ
«الأشكناز»
على كل شيء
«السلطة،
المال، الإعلام»؛
حيث ظهر دورهم المركزي في رسم وتنفيذ السياسة الخارجية الإسرائيلية -الأمريكية،
وخصوصًا في الشرق الأوسط. وأيضًا هم يُمثلون أكبر الشركات المالية والاقتصادية التي
تتحكم في مفاصل الكيان الإسرائيلي.
بينما وجد السفارديم نصيبهم في بعض الفتات، الأمر الذي عمَّق قناعات السفارديم بأن
الدولة هي دولة
«الأشكناز»
وحدهم، وأنهم مجرد مواطنين من الدرجة الثانية لا أكثر من ذلك.
وفي الجانب المقابل، فإن عدد السكان العرب في إسرائيل -وفق الإحصائية الصادرة عن
دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية في أبريل/نيسان 2023م- يبلغ 2 مليون و48 ألفًا،
بينهم 400 ألف في الأراضي المحتلة. ويمثل عرب 48 نسبة 21% من سكان الكيان
الإسرائيلي البالغ عددهم 9 ملايين و727 ألفًا، يتم تصنيفهم على أنهم مواطنون درجة
ثالثة، ليس لهم الحقوق التعليمية نفسها أو التمثيل السياسي أو حتى العسكري؛ فلا يتم
ترقيتهم لمناصب عسكرية مهمة داخل الجيش.
وفي عام 2018م أقرَّ الكنيست الإسرائيلي قانونًا بأغلبية 62 نائبًا، ينص على أن
إسرائيل هي
«الدولة
القومية للشعب اليهودي»،
وأن حق تقرير المصير فيها
«يخص
الشعب اليهودي فقط»،
الأمر الذي يستثني فلسطينيي 48، ويهمّش دورهم السياسي والاجتماعي في البلاد. ويُقيم
أكثر من 60% من العرب في شمال الكيان الصهيوني في مجتمع مُنعزل ومُفكّك تسوده
الجريمة.
تأثَّرت الشخصية اليهودية بالفكر الغربي من الليبرالية والعلمانية والقومية
والأساطير الدينية التي جعلت من الشخصية اليهودية
«الشخصية
الأسطورية».
وفي ضوء ذلك يتضح لنا مدى الحاجة إلى التعرف على سمات الشخصية اليهودية الإسرائيلية
في المُجتمع الإسرائيلي، مُجتمع مُتعدّد التصدُّعات والتكوينات الأيديولوجية.
فمثلاً المُجتمع التقليدي: مجتمع تشكّل من مجموعة تعتبر نفسها تقليدية، وفقًا
للنتائج الصادرة عن المكتب المركزي للإحصاء التعداد السكاني في الكيان الإسرائيلي،
يشكل المجتمع التقليدي-المحافظين 30-40% من مجموع اليهود في الكيان الإسرائيلي، وهو
مجتمع نشأ من جماعة حديثة نشأت في الولايات المتحدة، أواخر القرن التاسع عشر وأوائل
القرن العشرين، في محاولة من جانب اليهودية للاستجابة لوضع اليهود في العصر الحديث
في العالم الجديد. كما أن التقليديين يعتبرون الديانة اليهودية دمجًا بين الدين
والقومية.
جدير بالذكر أن المُجتمع التقليدي، ومكونه الرئيسي اليهود المحافظون، هم من صفوف
اليهود الأمريكيين البرجوازيين، الذين أتوا إلى الكيان الإسرائيلي من خلفيات دينية
أرثوذكسية. ويمكن القول بأن اليهود المحافظين هم يهود ابتعدوا عن أصولهم الإثنية
الأوروبية، وأصبحوا أمريكيين، ولكنهم مع هذا يودون الاحتفاظ بهوية إثنية يهودية.
أيضًا هناك قسم منهم يؤيد التشريع الديني في مسائل الأحوال الشخصية كالزواج
والطلاق، سواء كان ذلك بسبب ارتباطه بالتراث اليهودي أو بسبب رغبته في الحفاظ على
وحدة وسلامة الشعب اليهودي.
وبناءً على ما سبق يجدر الإشارة إلى الخلفية الفكرية لهذا المُجتمع التقليدي من حيث
المعايير ينقسم إلى ثنائية فكرية:
1- النموذج الانقسامي أو النموذج الثنائي: هذا النموذج ينصّ على مجموعة من اليهود
العلمانيين المنحدرين من عائلات برجوازية تتحكم في جزء كبير من أموال الكيان
الإسرائيلي، وفي مقابلهم مجموعة أخرى من اليهود المتدينين المُنغلقين؛ حيث قال
«يوناثان
فريمان»
أستاذ العلوم السياسية في الجامعة العبرية في القدس عن مكانة الحراديم وتأثيرهم في
المشهد السياسي:
«إن
الحريديم -وعلى مدى طويل جدًّا- أصبحوا أكثر أهمية لأيّ ائتلاف حكومي يتم تشكيله».
2- النموذج التسلسلي، وينقسم إلى صنفين: أداء الشعائر والطقوس، وتصنيف الإنسان بشكل
تسلسلي وفقًا لمكانه. ويعد هذا النموذج الأكثر شيوعًا اليوم في العلاقات الاجتماعية
الإسرائيلية. وأيضًا هناك بعض المحافظين يعارضون أي تشريع ديني ﻻ يتصل بالحفاظ على
وحدة وسلامة الشعب اليهودي.
أما المجتمع العلماني: فهو عبارة عن مجموعة تُعرف نفسها بأنها علمانية؛ حيث تشكل
نحو 25-30% حسب بيانات الجهاز المركزي للإحصاء المجالس المحلية في الكيان
الإسرائيلي من مجموع اليهود. هذه المجموعة تشدّد على هويتها اليهودية باعتبارها
قائمة على الأصل، التاريخ، الثقافة والمصير المشترك. يعيش أغلبهم في مناطق ذات
امتيازات معيشية في تل أبيب، في القدس، في بيت شميش في الجنوب، وهذه المجموعة
متفاوتة من حيث تكوينها. وبالنسبة لمعظم العلمانيين فإن الديانة اليهودية هي ثقافة
قومية وليست دينًا، لهذا يمكن تسميتهم علَمانيين قوميين. يقود هذا المُجتمع العديد
من الشخصيات السياسية التي تتحكم في المشهد السياسي الداخلي والخارجي للكيان، مثال
وزير مجلس الحرب
«غانتس»
ورئيس الوزراء
«نتنياهو»
ينتمون لهذا المجتمع العلماني القومي. وهذا يعطي أهمية للمجتمع العلماني المتحالف
بشكل أو بآخر مع اليمين الديني المتشدد؛ حيث تلتقي مصالح اليمين القومي بشكل كبير
مع مصالح اليمين الديني المتعلقة بقومية الدولة.
أما مجتمع الديني المُتشدد
«الحرديم»
والذي يشكل نحو 13.3-16% من عدد السكان اليهود في الكيان الإسرائيلي، فيعيش أغلبية
اليهود الحريديم في القدس ومستوطنات الضفة الغربية في مُجتمع استيطاني مُتشدد.
وتجدر الإشارة إلى أنه رغم قلة عددهم بالمقارنة مع باقي التكتلات الاجتماعية في
الكيان المُحتل وانغلاقهم الاجتماعي، إلا أنهم أصبحوا قوة مؤثرة في الائتلافات
الحكومية، تسعى أغلب الحكومات الإسرائيلية لاسترضائهم. فنظرًا للدور الذي تلعبه
الأحزاب الدينية في الائتلافات الحكومية فقد حصل المتدينون على مزيد من الامتيازات،
وعززوا قوتهم المؤسساتية بشكل يفوق حجمهم الاجتماعي. وتتمثل أهم هذه الامتيازات في
إعفاء طلبة المدارس الدينية
«الييشيفا»
من الخدمة العسكرية خصوصًا المدارس التابعة للحراديم
«أغودات
وشاس»؛
حيث بلغ معدل نسبة المعفيين 7.5% سنويًّا، إلى جانب إعفاء الفتيات المتدينات من
الخدمة العسكرية نهائيًّا، وزيادة دعم الحكومة للعائلات كثيرة الأفراد، وهي شائعة
في الأوساط الدينية، وزيادة المساعدات الاجتماعية للمدارس الدينية وطلابها، وتخصيص
ميزانيات إضافية لمساعدة المتدينين في السكن.
في الحديث عن مخصصاتهم والميزانية، فإن تزايد وجود ممثلين لهم في صنع القرار
الإسرائيلي يجبر الحكومة على تقديم المزيد من المعونات والمساعدات لهؤلاء الأفراد
استجابةً لتشكيلة ائتلافاتهم التي تضمن تحقيق مطالبهم، وذلك ظهر جليًّا في زيادة
مخصصات الطالب الحريدي لما نسبته 40% أكثر من الطالب العلماني، علمًا بأن التعليم
الديني منفصل عن وزارة التعليم الإسرائيلية، ولا يخضع لإشرافها المنهجي في المواد
التعليمية، وهذا ما نشر في الصحف الإسرائيلية تحت عناوين انهيار اقتصاد إسرائيل
بفعل التيار الديني الحريدي.
كما تقوم الرؤية العقائدية لهذا المجتمع على الشريعة اليهودية الأرثوذكسية وحدها،
ويطمحون إلى إقامة دولة الشريعة اليهودية التي تكون فيها الشرائع الدينية هي قانون
الدولة؛ بحيث تؤثر القيم الدينية على أسلوب حياة الأفراد في الدولة وعلى طابع
الدولة.
وقد أفرزت هذه التوجهات العقائدية داخل المجتمع اليهودي الإسرائيلي، سمات كثيرة
للشخصية اليهودية الإسرائيلية ترتب عليها العديد من الصفات التابعة. ومن أهم هذه
السمات:
1- العدوانية:
تتَّصف الشخصية اليهودية الإسرائيلية بالعدوانية والميل للعنف، لا سيما مع غير
اليهودي، الذين يُسمون الأغيار
«غير
اليهودي»،
فهو لا يستحقُّ إلا العنف؛ لأنه مخلوق لخدمة اليهود، وهم يؤمنون بأن القوة وحدها هي
التي تُؤمِّن وجودهم وبقاءهم؛ ولذا يَحرصون على امتلاك كل أشكال القوة، سواء كانت
ناعِمة مثل القوة الدبلوماسية، أو الصلدة مثل القوة الاقتصادية والعسكرية،
ويُركِّزون على تفوقهم النوعي والكمي في التكنولوجيا العسكرية، وتَعتبر هذه الفئة
أن القوة والحل العسكري هو الحل الأمثل لحل أيّ نزاع، كما أنهم لا يحترمون أي
مواثيق أو أعراف أو قرارات دولية أو أممية، لا فيما يتعلق بالإنسان سواء كان
مدنيًّا أو امرأة أو طفلاً أو شيخًا مسنًّا، وللأسف فإن هذا الميل للعنف ناتج عن
الأساطير الدينية التي دائمًا ما نُسِجَت عن اليهودي بأنه البطل الذي يُبيد كل شيء
عن بكرة أبيه بمُجرد أن تَطأه أقدامه.
2- التعقيد السلبي:
يُعدُّ التعقيد سِمة أساسية من سمات الشخصية اليهودية الإسرائيلية التي تكوَّنت من
مزيج من العناصر الدينية والتوراتية، والتراثية، والأساطيرية
«بعض
الأساطير والروايات التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالتاريخ العبراني»،
علاوةً على العناصر المكتسبة من الحضارات التي عاش في ظلالها اليهود، سواء كانت
المجتمعات العربية أو المجتمعات الغربية التي كان لها عظيم الأثر على نفوس الجماعات
اليهودية التي عاشَت في ظلالها، فلقد تأثَّروا بالفكر الغربي من الليبرالية،
والعلمانية، والقومية، هذا علاوةً على أن هذه المصادر مقسَّمة ومتشعِّبة؛ فمثلاً
المصدر الديني مقسَّم إلى التوراة، والتلمود، وغيرها من الكتب الدينية أو التي صار
لها قداسة مثل التوراة، ويظهر التعقيد السلبي في الشخصية اليهودية الإسرائيلية في
مواقف كثيرة؛ منها:
أ- التمييز:
ويُصوَّر هذا الموقف -كما جاء في التوراة على حد زعمهم- بأن اليهود مُميَّزون عن
كافة أجناس العالم، وبأنهم شعب الله المختار، هذا التميُّز المزعوم أنتج شخصية
يهودية في مجتمع إسرائيلي سمتها الرئيسية: الاستعلاء؛ معتبرين أن كُلّ ما غير
اليهودي
«الأغيار»
خُلقوا لخدمتهم، وسُخِّروا لهم كالبهائم، واعتقادهم بأنه الجنس السامي الوحيد،
جعلهم يَستعلون على الآخر سواء كان مسيحيًّا أو مسلمًا، وسواء كان أوروبيًّا أو
عربيًّا، فالكل سواء ما دام غير يهودي، وهذه النظرة الاستعلائية جعلت منهم مُجتمعًا
انعزاليًّا، فهم مُنعزلون عن غيرهم، وقد اشتهر اليهود إلى الميل للانعزال في وسط كل
المجتمعات التي عاشوا في ظلالها؛ حتى عُرف عنهم ما سُمِّي بـ«الجيتو
اليهودي».
ب- التطرف:
يميل اليهود للتطرف في كل شيء؛ فلا توجد وسطية في الشخصية اليهودية في كل شيء، حتى
الاتجاه أو الرأي، فينقسم اليهود إما متطرفون في الإلحاد؛ فمنهم مَن بالغ في
إلحاده، ومنهم مَن يُغالي في التدين حتى إنهم يتمسَّكون بحروف التوراة، ولو خالف
هذا مصالح إسرائيل على أرض الواقع.
يجدر التوضيح مما سبق أن ظهور التصدّع بين المتدينين -الحراديم والعلمانيين-، وهم
أكبر مكونين في الكيان الصهيوني، والقطيعة بين الطرفين هي الأعمق والأقدم تاريخًا
بين سائر حالات القطيعة في صفوف اليهود؛ حيث ظهر أوجه للخلاف الخفي والكبير بين
الجمهور المتدين والجمهور العلماني حول تعريف طابع الدولة باعتبارها دولة يهودية.
بعبارة أخرى، فإن الخلاف يدور حول طابع العلاقة بين الدين والدولة. هناك توجّهات
مختلفة بالنسبة لمسألة الدين والدولة، فبناءً على التصور العلماني يرى أن الدولة
يجب أن تكون دولة يهودية قومية-ثقافية، تستمد قِيَمها من التراث اليهودي، بل يجب أن
تكون في الأساس دولة علمانية. وهناك مَن يرى وفق التصور الديني أن على دولة الكيان
المُخترعة
«إسرائيل»
أن تكون دولة يهودية بالمفهوم الديني-القومي، أو بمفهوم دولة التوراة.
تجدر الإشارة إلى أن التصدّع والخلاف بين المُجتمعين لا ينحصر فقط على تحديد ماهية
الدولة فقط، ليصل إلى العديد من المسائل المثار حولها الخلاف، نذكر منها:
1- مسألة القوانين الدينية:
ويدور الصراع إجمالاً حول مدى الأهمية التي ينبغي أن تُعطَى للدين اليهودي للحفاظ
على الطابع اليهودي لدولة إسرائيل: هل كدولة يهودية أو دولة يهود، وهو يعبّر عن
أزمة هوية واختلاف حول أسسها ودور عامل الدين فيها. وعلى هذا الأساس تطرح شرعية
ومصداقية الدولة والصهيونية أمام الشريعة والتراث الديني اليهودي. لذا تطالب
الأحزاب الدينية بتطبيق ومراعاة القوانين الدينية في الحياة العامة والأحوال
الشخصية.
2- مسألة الإعفاءات والامتيازات:
كما سبقت الإشارة إلى ذلك. وهذا الوضع أخذ يزداد الاعتراض عليه مِن قِبَل الجمهور
العلماني بحجة أنه يكرّس عدم المساواة بين المواطنين الإسرائيليين.
إن الآراء المتباينة حول الموضوعات مثار الخلاف لا تنحصر بين المجتمع المُتدين
والمجتمع العلماني فقط، وإنما نلاحظ وجود اختلاف وتصدُّع للتوجهات داخل مُجتمع
الكيان الإسرائيلي. فمن جهة، المحسوبين على المجموعة التقليدية على سبيل المثال
-حيث نراهم يؤيدون سن قوانين ذات مضمون ديني بناءً على الشريعة اليهودية
«الهلاخاة»
هذه الجهة ترى وجوب علاقة بين الدين والدولة؛ حيث يظهر ذلك من خلال تمويل المؤسسات
الدينية مِن قِبَل الدولة، لكن -من جهة أخرى- هناك متدينون يلتزمون بأسلوب الحياة
الديني، لكنهم يؤيدون فصل الدين عن الدولة، وهذا يعني عدم سن قوانين دينية، ويعني
إلغاء الاعتراف بالمؤسسات الدينية على أنها مؤسسات رسمية
«مؤسسات
تابعة للدولة»،
وبالتالي إلغاء تمويل المؤسسات التي تقدم الخدمات الدينية مثل الحاخامية الرئيسية.
فيما يعتبر الجمهور العلماني التشريع الديني بأنه فرض أسلوب حياة ديني عليهم، مما
يعني المسّ بحق حرية الديانة أو التحرر من الديانة، وهذا يعني المسّ بحق الإنسان في
تحديد أسلوب حياته. زيادة على ذلك فإن الجمهور المتدين يرى أن التشريع الديني وحده
سيتيح له الاندماج في المجتمع الإسرائيلي.
وقد نتجَ عن هذا التصدّع منظومة قِيَم تفصل بين المجتمعين على أساس تحديد هوية كل
طرف على أساس الـ
«نحن»
والـ
«هم»؛
فاليهود المتدينون يعتبرون أنفسهم مجتمع الأطهار، ومجتمع المحافظة على تعاليم
التوراة والتلمود، مقابل مجتمع العلمانيين والأغيار هذا من جهة. ومن جهة أخرى،
فالمنظومة القيمية للعلمانيين تتشكل من اعتبار اليهودية قومية حافظت على وجودها
بفضل التراث الديني اليهودي، ولا أهمية للمضمون الديني العقائدي والشرائعي إلا في
إطار دلالته على ارتباط اليهود بأرض إسرائيل. بل إن هذا التصدع وصل إلى انقسام عميق
داخل مؤسسات الكيان الإسرائيلي؛ حيث يدور الصراع المؤسساتي حول عملية وضع القوانين
الدينية وفرضها على الأجواء القائمة بين الوسط الديني والعلماني، ومدى الحاجة إلى
تغيير هذا الوضع ووفق أيّ اتجاه.
ويتمثل هذا الصراع المؤسساتي في قيام جمعيات ومنظمات من الجمهور العلماني تناهض ما
يسمونه الإكراه الديني، وأن إسرائيل تواجه خطر الخومنة
«نسبة
للخميني»؛
من خلال محاولة تحكم المتدينين في كل مفاصل الحياة، ومحاولة فرض القوانين الدينية
على بقية اليهود؛ حيث يبرز التصدع الديني العلماني على المستوى المؤسساتي بوضوح من
خلال استقلال الجمهور المتدين ضمن نظام من الخدمات والأحياء المستقلة مثل
«مئة
شعاريم»
في القدس و«بني
باراك»،
وبشبكة إعلامية من قنوات إذاعية وتلفزيونية وصحافة.
هذا بالإضافة إلى إقامة مؤسسات اقتصادية مثل بنك
«مزراحي
الديني»،
وهذا ساعد بشكل كبير المُتدينين في خلق جذور تأسيسية لنفوذ ديني مُتصاعد يتحكم في
الأجهزة العسكرية والإعلامية، ويرأس حركات اجتماعية تسيطر على المشهد بالشارع
الإسرائيلي وصولاً إلى المستوى التعليمي الذي يُكرّس لاستمرار التمايز القيمي بين
الجمهور الديني والأغلبية العلمانية، نلاحظ وجود نظامين للتعليم الديني؛ الأول تابع
للدولة، ويشرف عليه تيار الصهيونية الدينية، التي تملك منظومة تعليمية كاملة تصل
إلى الجامعة، مثل جامعة
«بار
إيلان»
التي هي تابعة لهذا التيار.
إن التصدُّع الكبير داخل مُجتمع الكيان أدّى إلى بناء مُجتمع بلا حدود واضحة
سياسيًّا واجتماعيًّا، أفرَز مُجتمعًا احتلاليًّا يواجه فيه الفرد الصهيوني نفسه،
إلى جانب أن التحدّيات كبيرة؛ فقد أفرز هذا التصدع مُجتمعًا مُركَّبًا بدون هوية
أساسية؛ حيث يمثل التصدع الحاصل في مجتمع الكيان الإسرائيلي تأثيرًا كبيرًا في
تعزيز الانقسامات الاجتماعية السياسية الأخرى، مثل التصدع الإثني الحاصل بين
المجموعات اليهودية السيفارادية والأشكنازية والمهاجرين الروس والإثيوبيين، وفي
هيكلة التوجهات الانتخابية لهذه المجموعات، وفي تحديد الميول السياسية على مستوى
النظام الحزبي.
كما يشمل ذلك ميل الأحزاب الدينية والجمهور الديني نحو اليمين واعتناق أفكار اليمين
المتطرف حول أرض إسرائيل الكبرى، وعدم التنازل عن المستوطنات، وتعزيز هذا الطرح من
خلال الفتاوى الدينية.
وكذا على مستوى البرامج الانتخابية لدى الأحزاب السياسية التي أصبحت تدرج المسألة
الدينية والتعايش بين المتدينين والعلمانيين ضمن خطاباتها السياسية لتحقيق مكاسب
سياسية على حساب هذا الصراع المتغلغل في جدور المُجتمع الاستيطاني الإسرائيلي في
فلسطين المُحتلة.