ولكن كيف نُفسِّر تلك الظاهرة المتعلقة بالشخصية اليهودية؟ وما هي أبعادها؟ وهل تميَّزت عن باقي المجموعات البشرية؟ وهل أصبحت تلك السمات مرتبطةً باليهود باعتبارهم عِرْقًا أم دينًا؟
أعادت حرب طوفان الأقصى جدلية الحديث عن سمات وخصائص الشخصية اليهودية؛ خاصةً بعد
ما ارتكبه الجيش الصهيوني من قتلٍ وهدمٍ وتهجيرٍ، مما اصطلح عليه بأنه
«أعمال
إبادة جماعية»
للسكان في غزة؛ حسب وصف كثير من الدول والمنظمات الدولية.
وثارت تساؤلات عديدة عن طبيعة شخصية الجنود الذين أقدموا على ارتكاب مثل تلك
الجرائم؟!
كيف يمكن مثلًا وصف جنود يحاولون إضرام النار في مساعدات غذائية وكراتين مياه
محمَّلة في جزء خلفي لشاحنة مهجورة في غزة، كما أظهره مقطع تم نشره على منصة إكس؟
وما هي نفسية هؤلاء الذين يركبون دراجات هوائية -تركها أطفال غزاويون- متجوّلين
ضاحكين بين أنقاض المباني التي دمَّرها القصف؟
وفي مشهد آخر، يظهر جندي يأخذ سجاد صلاة إلى الحمام، وآخر يصوّر صناديق ملابس
داخلية عثر عليها في منزل.
وفي فيديو نشره صهيوني يُدعى ينون ماغال على منصة إكس، وهو إعلامي مُحافِظ -كما يصف
نفسه-، يُظهر فيه نَهْب متجر ألعاب؛ حيث قام جندي بتحطيم الألعاب وقطع رأس لُعَب
بلاستيكية!!
يُشار إلى أن تلك المقاطع المسجلة التي انتشرت مؤخرًا كان قد التقطها الجنود أنفسهم
أثناء وجودهم في غزة.
وهذا نَذْر من فَيْض من مظاهر تحتاج إلى أخصائيين نفسيين واجتماعيين يحلّلونها، وهي
بالمناسبة ليست حوادث فردية، بل ارتُكبت بشكل جماعي، مما يمكن تصنيفها علميًّا
بأنها ظاهرة أصبحت تتَّسم بها مجموعة من البشر.
ولكن كيف نُفسِّر تلك الظاهرة المتعلقة بالشخصية اليهودية؟ وما هي أبعادها؟ وهل
تميَّزت عن باقي المجموعات البشرية؟ وهل أصبحت تلك السمات مرتبطةً باليهود
باعتبارهم عِرْقًا أم دينًا؟
ولكي نستطيع الإجابة عن هذه الأسئلة، يجب أن نرجع إلى ما كتبه الدكتور عبد الوهاب
المسيري الذي يُعدّ أكثر المتخصصين العرب الذين اهتموا بالظاهرة الصهيونية، وأشبعها
تناولًا وتحليلًا، مستخدِمًا الأدوات العلمية والمنهجية.
حصل المسيري على درجة الماجستير عام 1964م من جامعة كولومبيا، ثم على درجة
الدكتوراه عام 1969م من جامعة رَتْجَرز
Rutgers،
كما عمل أستاذًا بجامعة عين شمس، وأستاذًا زائرًا في أكاديمية ناصر العسكرية،
وجامعة ماليزيا الإسلامية، وكان عضوًا في مجلس الخبراء بمركز الدراسات السياسية
والإستراتيجية بالأهرام (1970 - 1975م)، ومستشارًا ثقافيًّا للوفد الدائم لجامعة
الدول العربية لدى هيئة الأمم المتحدة بنيويورك (1975 - 1979م)، وعضوًا بمجلس
الأمناء لجامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية بليسبرج، بولاية فرجينيا بالولايات
المتحدة الأمريكية، ومستشارًا للتحرير في عددٍ من الحوليات التي تصدر في ماليزيا
وإيران والولايات المتحدة وإنجلترا وفرنسا.
وكتب الرجل عشرات المؤلفات باللغتين العربية والإنجليزية، تنوَّعت بين الموسوعات
والدراسات والمقالات، ولعل أبرزها كتاب
«موسوعة
اليهود واليهودية والصهيونية: نموذج تفسيري جديد»
(مكون من ثماني مجلدات)، والذي مكث في تأليفه وإعداده ما يقرب من ربع قرن، وتُصنّفه
الجامعات والمؤسسات العلمية كواحد من أهم الموسوعات العربية في القرن العشرين.
وبعيدًا عن تلك الموسوعة؛ فقد تناول المسيري الشخصية اليهودية بالتحليل في العديد
من كتبه.
وإذا أردنا أن ندرك الفروق بين هذه الكتب في تناولها للشخصية اليهودية، فنجد أن
منها ما كانت تلك الشخصية هي محور الكتاب بالكامل، ومنها ما كانت مجرد فكرة أو
محورًا من محاور أفكار الكتاب، ومنها ما جاء في سياق الأفكار ليعزّز الفكرة الأصلية
للكتاب.
كان تناول المسيري للشخصية اليهودية مختلفًا عن التصريحات الصهيونية، ومختلفة في
نفس الوقت عن الصورة التي يُقدِّمها الإعلام العربي وبعض الدراسات الأكاديمية التي
تكتفي بدراسة التوراة والتلمود، في كون أن المسيري اتَّجه إلى تحليل سمات الشخصية
اليهودية من خلال دراسة الواقع الاستيطاني الصهيوني المعاصر بكل تناقضاته وإنجازاته
وإخفاقاته.
تقوم فكرة المسيري عن الشخصية اليهودية بأنها ليست وراء المؤامرات التي تحدث في
الكون، فلا هي تقف خلف أشكال الانحلال المعروفة، العلنية والخفية، في العالم العربي
والغربي، بل في كل أرجاء العالم، ولا هي وراء (المحافل الماسونية) التي أسَّسوها
لمؤامراتهم، ولا هي التي زرعت المذاهب المنحرفة التي تسعى لهدم الإسلام... وغيرها
من المؤامرات.
ففي نظر المسيري أن هذه التصورات عن اليهود تجعل منهم عدوًّا لا يُقهَر، وأنهم
قادرون على كل شيء، ومن المستحيل إلحاق الهزيمة بهم.
ولكنَّ التعامل مع اليهود ووقف تجبُّرهم من وجهة نظر المسيري، يأتي من معرفة خصائص
هذا الشعب، وهذه الأمة بشكل علمي منهجي متوازن يدرك حقيقتهم، كما هي في الواقع،
وليس في الخيال والأساطير.
وقد انتقد بعضهم المسيري في أنه لم يتَّجه في تحليله للشخصية اليهودية إلى التطرق
إلى ما ورد في القرآن الكريم عنها، ولكن الرجل لم يُنكر ما جاء في سمات اليهود كما
وصفتهم الآيات القرآنية، ولكنه -في تناوله للشخصية اليهودية- كان حريصًا على التخصص
في تناول واقع اليهود المعاصر وفكرهم الصهيوني الجديد.
والمسيري لم يكن فقط كاتبًا أكاديميًّا منزويًا في مكتبه يبحث ويحلّل ويؤلّف، بل
كان مناضلًا ينزل إلى الساحات والشوارع متحديًا الظلم والديكتاتورية، مختلطًا بجموع
الشباب، وكان له صالون أسبوعي في فيلته في القاهرة، يناقش فيه مع الشباب سُبُل
التغيير ليس في فلسطين فقط، بل في جميع الوطن العربي والإسلامي.
ومن مقولته التي اشتهر بها، وكان يرددها في أحاديثه التلفزيونية:
«تظل
الجماهير بفطرتها السليمة معادية للصهيونية».
ومن عشق الدكتور المسيري لفلسطين وقضيتها وتعلقه بها؛ فإنه عندما أُصيب في أواخر
حياته بمرض السرطان، أصرَّ على أن يتم علاجه في مستشفى فلسطين بالقاهرة، مع أن هذا
المستشفى لم يكن متقدمًا في العلاج مثل المستشفيات الأخرى، وهي ذات المستشفى التي
تُوفِّي فيها في بداية يوليو 2008م، عن عمر يقترب من سبعين عامًا.
ولكن كيف وصف المسيري شخصية اليهودي؟
بذل الرجل جهدًا بحثيًّا عميقًا في التعريف بالهوية اليهودية، ثم انطلق من
تعريفاتها إلى محاولة استنباط الخصائص النفسية للشخصية اليهودية.
الهوية اليهودية في فكر المسيري
في كتابه
«من
هو اليهودي؟»،
والذي صدرت طبعته الأولى عام 1997م، نظر عبد الوهاب المسيري إلى الهوية اليهودية
بوصفها تركيبًا جيولوجيًّا متراكمًا. فعناصر الهوية اليهودية هي عبارة عن تركيب
جيولوجي تراكمي مُكوَّن من طبقات تراكمت الواحدة فوق الأخرى، ولم تُلْغِ كل طبقة
جديدة ما قبلها. وقد تكون هذه الطبقات متشابهة أو متناقضة. ولكنها تعيش متجاورة
ومتزامنة وغير متفاعلة، ولذلك يؤكد الكاتب أنه لا يرى هوية يهودية عامة مُطلقة،
وإنما يتحدَّث عن هويات يهودية مُتعيّنة متنوعة.
ولم يكن هذا التركيب الجيولوجي التراكمي ملحوظًا؛ حيث يُرجع المسيري السبب في ذلك
إلى انفصال أعضاء الجماعات اليهودية ووجودهم في أماكن متفرقة من العالم.
ويعلل المسيري عدم تجانس الجماعات والهويات اليهودية، في أن انتشار اليهود في كل
أنحاء العالم كان دون وجود سلطة مركزية دينية في فلسطين أو في غيرها من الأماكن.
كما لم تكن تُوجَد في العالم القديم وسائل مواصلات أو إعلام تقرّب بين أطراف
العالم. لكل هذا، تطوَّرت كل جماعة يهودية على حدة، بمعزل عن الأخرى، على المستويين
الديني والقومي. وقد ظلت هذه الفسيفساء قائمة إلى أن انحلت الإمبراطورية الرومانية
وانتشرت المسيحية في الغرب، وانتشر الإسلام في الشرق، وازدادت اليهودية توحيدية
داخل النطاق الإسلامي، ومِن ثَم، ظهر ما يمكن تسميته
«هوية
يهودية عربية إسلامية»،
وهي التي أنتجت أمثال موسى بن ميمون. أما في الغرب فقد ازدادت اليهودية غيبية،
ودخلت عليها عناصر صوفية متطرفة. وازدادت الهُوة اتساعًا بين الهويات اليهودية في
الشرق والغرب.
وبالرغم من تعدُّد تلك الهويات؛ فإن الفكر الصهيوني -والذي يرغب في إنشاء كيان
لليهود في فلسطين- بالرغم من إدراكه لتلك الحقائق، فإنه كان يتغافل عن ذلك؛ أملًا
أن تُقام الدولة الصهيونية، ثم بعدها ستُلغَى كلّ هذه الأوضاع الشاذة حالما يؤسّس
الصهاينة وطنًا قوميًّا تتمكّن فيه الشخصية اليهودية من التعبير عن نفسها. وسيحقق
اليهود من خلال الدولة، وبوصفهم شعبًا، ما فشلوا في تحقيقه بوصفهم أعضاء في
مجتمعاتهم. وهذا ما يُسمى في المصطلح الصهيوني
«تطبيع
الشخصية اليهودية».
وبحسب الرؤية الصهيونية، فقد بدأت هذه العملية بالفعل في عام 1948م، عام إعلان
الدولة الصهيونية.
ولكن بعد تأسيس الدولة الصهيونية، ظهرت الخاصية الجيولوجية التراكمية، وتفجرت قضية:
مَن هو اليهودي؟
فعندما وصل أصحاب هذه الهويات إلى إسرائيل، اتضح للجميع أنهم ليسوا مجرد يهود،
فيهود العالم العربي أصبحوا يهودًا شرقيين في آخر درجات السُّلم الاجتماعي
الإسرائيلي، كما أصبح يهود روسيا أشكنازًا أو غربيين يشغلون قمة السلم الاجتماعي.
ومن هنا ظهرت الهويات اليهودية المختلفة.
وفي بدايات ظهور الدولة الصهيونية، كانت كل جماعة يهودية تمارس تجربتها التاريخية
والدينية بمعزل عن الجماعات الأخرى، وكانت كل منها تُطوّر هويتها الدينية والإثنية
من خلال التشكيل الحضاري الذي تُوجَد فيه. وذلك دون البحث عن خاصية جوهرية ما تربط
كل أعضاء الجماعات معًا، ودون الحاجة إلى تعريف دقيق وعالمي وشامل لليهودي.
فكان الصهاينة اللادينيون، حتى عام 1948م، يتحدثون بحرية شديدة عن
«الشعب
اليهودي الواحد»،
وبالتالي عن الهوية اليهودية الواحدة والقومية اليهودية. وكان الصهاينة المتدينون
قانعين بدورهم الثانوي في الحركة الصهيونية، ولكنهم كانوا يتحينون الفرصة ليفرضوا
تعريفهم الديني الأرثوذكسي. وقد تم إعلان قيام الدولة الصهيونية باعتبارها دولة
مستقلة يهودية ليست مقصورة على اليهود المقيمين في فلسطين، بل هي دولة الشعب
اليهودي بأَسْره داخل فلسطين وخارجها. وترى هذه الدولة أن مصدر شرعية وجودها هو
يهوديتها. ومن هنا محورية تعريف الهوية اليهودية، ومن هنا أيضًا حتمية ظهور
التناقضات الكامنة.
ويلاحظ عبد الوهاب المسيري، أن تعريف الشريعة اليهودية لمن هو اليهودي كان تعريفًا
يعاني من الخلل، فلا هو بالديني ولا هو بالعِرْقي، بل يجمع عناصر دينية وعرقية دون
تعريف حدود كل عنصر.
وزادت الصورة اختلاطًا وسوءًا مع ظهور الفرق اليهودية الحديثة، وظهور اليهودية
الإثنية والإنسانية، وإصرار كل هؤلاء على أن يسموا أنفسهم يهودًا. كل هذا يعني أن
كلمة
«يهودي»
تشير إلى أشخاص يؤمنون بأنساق دينية متعارضة من بعض النواحي، وينتمون إلى تشكيلات
حضارية مختلفة.
ومن هذه الجماعات يهود اليديشية أو الأشكناز، واليهود الشرقيين السفارد، ويهود
الفلاشة. ويوضح الكاتب أن كل التقسيمات السابقة آخِذة في الاختفاء، وأن ثمة ثلاثة
أقسام أساسية الآن للجماعات اليهودية في العالم:
- الأولى خارج فلسطين، فظهر ما يمكن تسميته
«الهوية
اليهودية الجديدة»،
وهي ذات ملامح يهودية إثنية أو دينية وتظهر في المجتمعات الغربية الحديثة.
- أما الثانية فيعبّر عنها في داخل الكيان الصهيوني ما يُطلق عليه المُستوطن
الصهيوني.
- وأما الثالثة فهم اليهود المتدينون الذين يتشبثون حرفيًّا بالتوراة، ويُطلق عليهم
اليهود الأرثوذكس، وهم أقلية صغيرة خارج إسرائيل وأقلية كبيرة داخلها.
ولذلك خلص الدكتور المسيري، إلى أن الواقع العملي أثبت أنه لا يوجد حاليًّا جوهر
واحد للصفات اليهودية، بل هي سمات عديدة متنوعة بتنوع التشكيلات الحضارية
والتاريخية التي يوجد فيها اليهود.
الخصائص النفسية اليهودية الصهيونية
عندما أراد المسيري أن يبحث في سمات الشخصية اليهودية، بدأ من منطلق الفكر الهوياتي
الاستيطاني الصهيوني، ومِن ثَم أخذ يتطرَّق إلى خصائص تلك الشخصية.
أولى سمات الشخصية اليهودية في نظر المسيري هي: العنصرية.
فقد أصبحت الهوية الاستيطانية ليست مجرد مقولة نفسية أو فلسفية أو دينية. بل مقولة
قانونية تحمل مضمونًا سياسيًّا واقتصاديًّا محددًا. فلليهودي في الدولة الصهيونية
مزايا وحقوق لا يتمتع بها غير اليهودي. ويمكننا أن نقول: إن التعريف الصهيوني
للهوية اليهودية هو الأساس النظري للممارسات الصهيونية العنصرية ضد العرب.
وفي نظر المسيري، فقد كان هناك عامل مساعد في ترسيخ الفكر العنصري عند اليهود؛
يتمثل بالتأثر بالغرب المقتنع بفكرة التفوق الحضاري الغربي، وانطلاقًا من هذا
التصور تم طرح الإمبريالية على أنها نشاط نبيل يهدف إلى جلب الحضارة للأجناس الأخرى
التي تعيش في ظلام البدائية والجهل. وظهرت مقولة عبء الرجل الأبيض؛ حيث طرحت
إسرائيل نفسها باعتبارها دولة وظيفية غربية
«بيضاء»
متقدمة، قاعدة للديمقراطية الغربية تحمي المصالح الإستراتيجية الغربية، وتقف بحزم
وصرامة ضد القومية العربية، ثم ضد الحركات الإسلامية.
فالعنصرية الصهيونية يراها المسيري، ليست مسألة عَرَضية، ولا قضية طغيان فرد أو
مجموعة من الأفراد؛ وإنما هي خاصية بنيوية؛ لأنه لكي يتحقق الحلم الصهيوني لا بد أن
يختفي السكان الأصليون، ولو لم يختفوا لما تحقق الحلم. ولهذا، نجد أن الصهاينة (كل
الصهاينة، بغضّ النظر عن انتمائهم الديني أو السياسي، وبغض النظر عن القِيَم
الأخلاقية التي يؤمنون بها) يسهمون في البنية العنصرية ويُنمُّونها؛ فالمستوطن
اليهودي الذي يصل إلى فلسطين سوف يسهم (حتى لو كان حاملًا مشعل الحرية والإخاء
والمساواة، ومُلوّحًا بأكثر الألوية الثورية حمرةً) في اقتلاع الفلسطينيين من
أرضهم، وفي تشويه علاقاتهم الاجـتـمـاعـيـة والاقتصادية والحضارية، وسوف يعمل على
تقوية مجتمع استيطاني مبني على الاغتصاب.
ثاني هذه السمات هي العنف؛
فقد تحدث عنها المسيري في كتابه
«الصهيونية
والعنف: من بداية الاستيطان إلى انتفاضة الأقصى»،
والصادر عام 2002م.
حيث يرى المسيري أنه ثمة عنف أساسي في الإدراك الصهيوني للواقع والتاريخ، ولم يكن
هناك مفرّ من أن يُترجَم هذا الإدراك لإجراءات وعنف مسلح لتغيير الواقع. ولتحقيق
هذا الهدف كان حتميًّا أن تنتج المادة البشرية القتالية القادرة على تحريك التاريخ
من خلال السيف.
فالعنف في الفكر الصهيوني -كما يقول المسيري- أصبح هو الأداة التي يتوسل بها
الصهاينة لإعادة صياغة الشخصية اليهودية؛ فاليهودي في هذا التصور يحتاج إلى ممارسة
العنف لتحرير نفسه من نفسه ومن ذاته الطفيلية الهامشية. وكان الكاتب الصهيوني (بن
هكت) يشعر بسعادة في قرارة نفسه في كل مرة يقتل فيها جنديًّا بريطانيًّا؛ لأنه -على
حد قوله- كان يتحرر من مخاوفه، ويُولَد من جديد. فاليهودي حينما يقوم بهذا الفعل
(ذبح أحد الأغيار)، يتخلص من مخاوفه.
وهذا الجانب من الفكر الصهيوني يتضح بجلاء في كتاب
«الثورة»
الذي ألّفه رئيس الوزراء الصهيوني الشهير والحائز على جائزة نوبل للسلام: مناحيم
بيجين، والذي يَقلِب فيه عبارة ديكارت المعروفة
«أنا
أفكر، إذن أنا موجود»؛
لتصبح
«أنا
أحارب، إذن أنا موجود».
ثم يضيف بيجين في هذا الكتاب:
«من
الدم والنار والدموع والرماد سيخرج نموذج جديد من الرجال، نموذج غير معروف ألبتة
للعالم: اليهودي المحارب».
ويستعرض المسيري تاريخ العنف عند اليهود المعاصرين، ففي عام 1907م تأسست منظمة
عسكرية صهيونية سرية شعارها (لقد سقطت يهودا بالدم والنار، وستنهض بالطريقة نفسها)،
وقد تحوَّل اسم هذه المنظمة عام ١٩٠٩م إلى منظمة الهاجاناه، وهي الذراع العسكري
للوكالة اليهودية وللمنظمة الصهيونية العالمية.
واحتفظت الأرجون (أو هاجاناه بيت) التي كان يترأسها مناحم بيجين بنفس الشعار. وقد
اتخذت الأرجون -رمزًا لها- يدًا تمسك بندقية فوق خريطة فلسطين وشرق الأردن، أيضًا،
نقشت تحته هذه الكلمات: (هكذا فقط)، وفي سنة ١٩٤٨م اندمجت كل من الهاجاناه والأرجون
لتُكوِّنا جيش الدفاع (الإسرائيلي).
ويرى المسيري، أن الإرهاب الصهيوني ما هو إلا محاولة تستهدف فرض الرؤية الصهيونية
على الواقع.
فالصهيونية حركة استيطانية إحلالية، وهو ما يعني ضرورة أن تُخلي الأرض التي سيُنفّذ
فيها المشروع الصهيوني من السكان الأصليين، ولا يمكن أن يتم هذا إلا من خلال أقصى
درجات العنف والإرهاب.
وقد يعبّر العنف عن نفسه بطريقة مباشرة، كما أنه قد يعبّر عن نفسه بطريقة غير
مباشرة عن طريق عشرات القوانين والمؤسسات، وما قانون العودة الإسرائيلي إلا ترجمة
لهذا العنف حين يُعطي أي يهودي في العالم حق العودة إلى إسرائيل في أيّ وقت شاء،
ويُنكر هذا الحق على ملايين الفلسطينيين الذين طُرِدُوا من فلسطين على دفعات منذ
عام 1948م.
وهكذا يرى الدكتور عبد الوهاب المسيري أن العنصرية والعنف هما أكثر السمات التي
يتصف بهما الشعب اليهودي المعاصر.
وفي تصريح له لوكالة رويترز عام 2008م قبل وفاته بأسابيع، قال المسيري:
«إنه
يتوقع نهاية قريبة للدولة العبرية، ربما خلال 50 عامًا»،
ونفى المسيري أن يكون لهذا التوقع علاقة بالتشاؤم أو التفاؤل مُشددًا على أنه يقرأ
معطيات وحقائق في سياقها الموضوعي، ويستخلص ما يمكن أن تُسْفِر عنه من نتائج.
وقال لرويترز:
«إن
الباحثين الإسرائيليين أنفسهم لا ينكرون هذا الخوف حتى أصبحت كمية الكتابات (في
إسرائيل) عن نهاية الدولة الصهيونية مُمِلَّة»،
مضيًفا
«إن
هذا الهاجس لازَم مؤسِّسي تلك الدولة، ومنهم ديفيد بن جوريون أول رئيس للوزراء».
ولعل حرب طوفان الأقصى تكون هي بداية ما توقّعه المسيري من نهاية الدولة العبرية.