إن أولئك الذين تعاملوا هكذا مع الأنبياء، ما بين قتل وتعذيب وعناد واستكبار وجدل وخبث وتآمر وتحريف وتزوير والتفاف، هم هم الذين رفضوا الإذعان لأيّ قرار دولي، أو أيّ اتفاق مكتوب، أو أيّ عهد أقسموا على تنفيذه جهد أيمانهم في احتفالات «السلام» السرابية
كتاب الله -عز وجل- زاخر بقصص الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم-، وتجاربهم مع
أقوامهم؛ تثبيتًا لأفئدة المؤمنين، وتربيةً، وتذكيرًا، وتعليمًا عبر نماذج متكررة
عبر القرون، واجهها الأنبياء -عليهم السلام-، وسيواجهها المسلمون بأقوالها وأفعالها
ومؤامراتها التي تُشبه إلى حد بعيد مشاهدها السابقة.
بيد أن مَن يقرأ آيات القرآن الكريم التي تتحدث عن اليهود، يلحظ ملمحًا عجيبًا، عن
تواصل واضح بين الماضي والحاضر عند بني إسرائيل في زمن موسى -عليه السلام-، ثم
اليهود في زمن النبي #؛ فمن يتدبر القرآن لا يكاد يفلت هذا الاتصال الزمني،
والانتقال السلس بين ماضي موسى، وحاضر النبي محمد -عليهما الصلاة والسلام-، بل قد
يفاجئه حديث القرآن عن يهود المدينة، وقوم موسى، كحالة واحدة!
وأنتم تنظرون!
فتقرأ: {وَإذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} [البقرة:
63]،
وتقرأ: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُم} [البقرة:
64]،
وتقرأ: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ} [البقرة:
91]،
وتقرأ {وَإذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ
فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} [البقرة:
50]،
فكأن الخطاب واحد للأسلاف والأخلاف، وكأن السلوك سيكون واحدًا من التنكر والتمرد
واللجاج والعناد والاستعلاء، وكأنهم سيظلون من بعد النبي # على هذا المنوال.. وقد
كانوا! بينما يتحدث القرآن عن قرى ظَلمت وأُهلكت، تشابهت أحيانًا لكنّها لم تكد
تُخاطب كقوم واحد على هذا النحو السائد عن اليهود ككتلة متسلسلة في طبائعها
ومسالكها!
إنه السلوك النَّكِد منذ أن أرهقوا نبي الله موسى -عليه السلام-، إلى أن تنخرط
بقيتهم في زمرة أتباع الدجال في آخر الزمان {يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن
تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ
مِن ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ
بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ
الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُّبِينًا}
[النساء:
153]
.
إنها عقيدة مستقرة، وسلوك مستمر، وفطرة منتكسة، وجِبلّة قديمة، غارقون أبدًا في
المادة والمحسوسات، لا تلين قلوبهم التي قُدَّت من حجارة، ولا تخشع لآيات الله، ولو
التمستها لطلبتها كتابًا منزلًا مرئيًّا محسوسًا، تمامًا مثلما لا يعبدون غير المال
في معاملاتهم ودنياهم! يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله- في تفسير تلك
الآية:
«لما
ذكر اعتراضهم الفاسد أخبر أنه ليس بغريب من أمرهم، بل سبق لهم من المقدمات القبيحة
ما هو أعظم مما سلكوه مع الرسول الذي يزعمون أنهم آمنوا به؛ من سؤالهم له رؤية الله
عيانًا، واتخاذهم العجل إلهًا يعبدونه، من بعد ما رأوا من الآيات بأبصارهم ما لم
يره غيرهم.
ومن امتناعهم عن قبول أحكام كتابهم وهو التوراة، حتى رُفِعَ جبل الطور من فوق
رءوسهم، وهُدِّدوا أنهم إن لم يؤمنوا أُسْقِطَ عليهم، فقبلوا ذلك على وجه الإغماض
والإيمان الشبيه بالإيمان الضروري.
ومن امتناعهم عن دخول أبواب القرية التي أُمروا بدخولها سُجَّدًا مستغفرين، فخالفوا
القول والفعل.
ومن اعتداء من اعتدى منهم في السبت فعَاقبهم الله تلك العقوبة الشنيعة.
وبأخذ الميثاق الغليظ عليهم فنبذوه وراء ظهورهم، وكفروا بآيات الله وقتلوا رسله
بغير حق.
ومن قولهم: إنهم قتلوا المسيح عيسى ابن مريم وصلبوه، والحال أنهم ما قتلوه وما
صلبوه، بل شُبِّه لهم غيره، فقتلوا غيره وصلبوه. وادعائهم أن قلوبهم غُلف لا تفقه
ما تقول لهم ولا تفهمه، وبصدّهم الناس عن سبيل الله، فصدّوهم عن الحق، ودَعَوهم إلى
ما هم عليه من الضلال والغي.
وبأخذهم السحت والربا مع نهي الله لهم عنه والتشديد فيه. فالذين فعلوا هذه الأفاعيل
لا يُستنكر عليهم أن يسألوا الرسول محمدًا أن يُنزِّل عليهم كتابًا من السماء»[1].
إنه عناد حتى اللحظة الأخيرة، وعند انهيار قوتهم على مناهضة الحق، تمامًا مثلما
يفعلون اليوم في عالم السياسة!
إن أولئك الذين تعاملوا هكذا مع الأنبياء، ما بين قتل وتعذيب وعناد واستكبار وجدل
وخبث وتآمر وتحريف وتزوير والتفاف، هم هم الذين رفضوا الإذعان لأيّ قرار دولي، أو
أيّ اتفاق مكتوب، أو أيّ عهد أقسموا على تنفيذه جهد أيمانهم في احتفالات
«السلام»
السرابية، {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ
قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا
ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إلَّا قَلِيلًا
مِّنْهُمْ} [المائدة:
13]،
وهم الذين جعلوا حدود دولتهم مائعة كميوعة عهودهم ومواثيقهم الغادرة! وهم من أنكروا
كل شِرْعة، حتى تلك التي قفزت بهم إلى قلب العالم الإسلامي؛ فطالت اغتيالاتهم أول
مَن طالت، البريطانيين أنفسهم في فندق الملك داود في فلسطين، وهم الحبل البشري الذي
تعلّقوا به لإنشاء كيانهم الغاصب! تفضحهم الآيات؛ فإذا هم قوم بُهْت وأهل غدر وكفر
وافتراء.. وهم أولئك المتشبثون بالحياة، أيّ حياة ولو كانت ذليلة، وهم المفتخرون
دومًا بأنهم
«شعب
الله المختار»!
{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:
96].
صفات
«أصيلة»:
لا جرم أن ما نشهده الآن، مما قد يصعب علينا تفسيره في سلوك اليهود، نجده بيِّنًا
جليًّا لا تخطئه التفاسير، ولا تعوزه الشروح، في كتاب الله -عز وجل-، ثم في شدة ما
لاقاه النبي # من عَنَت اليهود في المدينة ومؤامراتهم ودسائسهم، بل ومحاولتهم
اغتياله في أكثر الأوقات سِلْمًا معهم؛ حين جاءهم يستعينهم في دية قتيلين من بني
عامر؛ وفقًا للاتفاق بين المسلمين واليهود في المدينة، فقالت اليهود:
«نعم
يا أبا القاسم! نُعينك على ما أحببتَ»،
ثم خلا بعضهم ببعض، فقالوا:
«إنكم
لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه -ورسول الله # إلى جنب جدار من بيوتهم قاعد-،
فَمَنْ رجل يعلو على هذا البيت، فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه؟»؛
فأخبره الوحي بخبرهم، فقفل راجعًا، وعاد إليهم بجيش أجلاهم[2].
إن مَن يتأمل مثل هذا المشهد الذي يضم خير البشر #، بكل ما تحمله شخصيته من وفاء
بعهود، ودماثة خُلق، وقوة حضور، وتمثُّل لقرآن كريم، واتصال بوحي السماء، وطرف آخر
في المدينة يحمل كل الصفات الخبيثة، التي تجرّده من وفاء بعهد، أو وفاء لمعروف، أو
التزام بجِيرَة داخل مجتمع المدينة، بما يفرضه ذلك من أدبيات الوطن الواحد، لا
يفاجئه سلوك يهود اليوم، من انفلات من كل قانون دولي، أو اتفاق مكتوب، أو ضمانات
وسطاء، أو التزامات سياسية، إلى غير ذلك.
ومن يتأمل مشهد نبي الله موسى -عليه السلام-، وهو ينقذ بني إسرائيل من بطش فرعون،
ويفرق لهم -بأمر الله- البحر، فيستحيل جبلين من ماء أمامهم، ثم هم يمرون بوثنيِّين،
فيطالبونه بتعبيدهم لوَثَن يرونه محسوسًا أمامهم، أو ينبهرون بعِجْل السامري
الذهبي؛ لا يتعجّب من وَلعهم بالماديات المحسوسة، وعبادتهم للذهب أكانت في شكل
عِجْل أم تجسَّدت في شكل بنوك وشركات عملاقة.
ومن يتأمل نفرتهم من النبي #، وصحبه الكرام -رضوان الله تعالى عليهم-، كحَمَلة دين
تقوده إليه توراتهم، وحسدهم أن يُؤتَى العرب من قريش وغيرهم هذا الكتاب من دونهم،
وإخفاقهم في تحقيق أي صيغة
«تعايش»
داخل المدينة المنورة، أو في ضواحيها، أو حتى على بُعْد مائتي كيلو متر منها، كيهود
بني قينقاع، أو بني النضير وبني قريظة، أو خيبر، وتأليبهم كل عدو، ودسّ كل دسيسة،
وتنفيذ كل مؤامرة، لا يعجب من سلوكهم اليوم، وإخفاقهم في صيغ
«التعايش»
هذه مع جيران فلسطين المحتلة؛ فتارةً يدمّرون لمن سالموهم جهرًا، زراعةً، وتارة
يجلبون لهم المخدرات، وتارة يُضعفون قدراتهم... إلى غير ذلك.
إنها صفات أصيلة، لم تتبدل، ولم تتغير، لآلاف السنين، متصلة من لدن موسى -عليه
السلام-، وحتى قيام الساعة، مرورًا بحياة النبي #؛ حيث أبرز القرآن والسنة، هذه
الجِبِلّة التي التصقت بهم على مر السنين، كحالة متصلة على نحو ظاهر بجلاء في كتاب
الله، وسُنّة النبي #، ما يشي بأن هذه الجِبِلّة لا تتغير أبدًا مهما تغير المناخ
حولها؛ فيهود التيه والشتات، هم هم يهود السلطة العالمية بعنفوانها الظاهر، سياسة
واقتصادًا وإعلامًا...
سمات الشخصية اليهودية
إن كثيرًا من المسلمين، بل مِن الناس جميعًا، قد يظنون أن التطورات الهائلة في شكل
العالم اليوم، وتداخلاته الاقتصادية، وذوبان اليهود في العالم في عالم الاقتصاد
والمال والشهرة، قد حَدَت بهم بعيدًا عن سلوكيات الماضي وأخلاقه؛ فظنوا أن يهود
الجيتوهات الأوروبية والعربية، والحياة المذلة في ظل الإمبراطوريات الأوروبية، قد
فرضت أنماط حياة مختلفة عما يعايشه اليهود اليوم في حالة
«العلو
الكبير»
التي يقودون فيها اقتصادات وسياسات، وينتقلون فيها من حالة سادت أوروبا على مدى
القرنين قبل الماضيين من ذيوع حالة ما يُسمى بـ«معاداة
السامية»،
ووجود تيارات
«مسيحية»
أوروبية تنادي بفرض مزيد من الإذلال على اليهود، إلى الحالة التي يعاني منها العالم
اليوم من تسليط سوط
«معاداة
السامية»،
كجريمة كبرى ينأى عنها كل حكم في العالم، بل ويزيد الطين بلة، بمساواة بعض الدول
الأوروبية، والولايات المتحدة كذلك، بين
«معاداة
السامية»،
و«معاداة
الصهيونية»[3]،
ويتوقعون من اليهود سلوكًا غير الذي يجدونه -إن قرأوه- في كتاب الله!
هؤلاء في الحقيقة، لم يفهموا أن جمود هذه الصفات، وتناقض أحوالها كلها، إنما هو
نابع من الأصل، من التوراة المحرَّفة ذاتها، ومن التلمود أيضًا، وهو كذلك عقاب من
المولى -عز وجل- لهم أن مسخهم على تلك الجِبِلَّة البغيضة. ومن يقرأ يجد تناقضًا
هائلًا في الشخصية اليهودية تجمع بين صفات ونقيضها.
ودعونا نضرب مثالًا في عدوان
«إسرائيل»
على غزة..
لقد حار البعض، حين انتظر من اليهود أن ينسحبوا سريعًا في معركتهم الأخيرة، من دون
أن يضطروا إلى دفع هذا الثمن الباهظ من القتلى والجرحى اليهود، استنادًا إلى تأويل
استباقي يصم اليهود بالجبن الدائم والفرار السريع.
وحاروا حين لاحظوا تشنجًا شديدًا، حادَ بساستهم عن جادة الدبلوماسية والرصانة
السياسة؛ فغاصوا كثيرًا في أوحال التعصب والتورط القانوني؛ إذ وُضعوا في خانة
المتهمين في محاكم دولية لم تكن لتُسمن أو تغني من جوع المحاصرين، واتخذوا لغة
عقدية متعالية، ومنفلتة، ومضطربة.
وحاروا حيث لاحظوا الاستعلاء بكل صلف على العالم كله، وفي ذات الوقت، استجداءه
للنظر إليهم بشفقة، وبعين الرحمة، كضحايا، وهم يدمرون 85% من مباني قطاع كامل يضم
مليوني ونصف المليون إنسان، يمكن أن يمثل دولة كاملة في عرف
«المجتمع
الدولي»
لو أراد. وهم يقتلون الأطفال بكل بشاعة وخسَّة، ويستهدفون المدنيين الأبرياء،
والنازحين رافعي الرايات البيضاء!
إن هؤلاء يحملون إرثًا يجمع ما بين الخيرية السابقة، الذي جعلهم يَفترضون أنهم
«شعب
الله المختار»،
ويفترضون أيضًا أنهم خاضعون لعقاب إلهي فرض عليهم التيه والشتات في الأرض، فتتحقّق
فيهم صفات الكِبْر والاستعلاء، مع المذلة والمسكنة!، يقول مالك بن نبي:
«نفسية
اليهود المعقدة تفاجئ التحليل السطحي الذي يقف عاجزًا عن التوفيق بين معطيين
متعارضين في نفسيته؛ تكبُّر بغير حدود، وقدرة لا تحتمل على ابتلاع الإهانة والإذلال».[4]
تحمل الشخصية اليهودية تناقضات عدة، أفرزتها عقيدتهم المتناقضة، الجامعة ما بين
الكِبْر والمذلة، الخيرية المظنونة ورثًا، والاستمساك بحبل من الناس تزلفًا وتوسلًا
وتسللًا للوصول إلى القمة عبر حبال الناس لا من ذاتية نُبْل الدم الأصيل! هي تلك
التي تقدس مقام النبوة ثم تهاجمه، وتحاول قتل الأنبياء؛ لأن طريقهم لم يمر عبر
اليهودية، أو لم يذعن لدسائسها! يستفتحون على الذين كفروا، فإذا جاء النبي وسط
البيئة العربية حاربوه مثلما حاربوا المسيح -عليه السلام-، وحرَّضوا على قتله؛ لأنه
أيضًا جاء من طريق لا يرغبون به.
ثم هي الشخصية التي انحازت في الشرق في
«جيتوهات»
منغلقة، لم تكد تنظر للعالم من خلالها إلا من ثقب الاستنزاف لمصلحة هذا الجيتو الذي
ما تلبث أن تخرج منه إلا لتعود إليه.. وهي في الغرب منفتحة كثيرًا، بل قائدة، لكن
من وراء حجاب! قادت الحركة المالية العالمية من وراء حجاب، وفجَّرت حروبًا عبر
وزرائها البريطانيين والأمريكيين والفرنسيين وغيرهم، من دون أن تُدْمَغ بخاتمها أو
تُمْهَر باسمها!
حسدها المتأصل في كينونتها الداخلية حدا بها قبل 3000 آلاف سنة إلى أن تحرّض روما
على تدمير مملكة قرطاجة، وليس هزيمتها فقط على النحو الذي فعلته روما مع أثينا؛
لأنها وضعت يهود روما في مقابل تجار قرطاجة،
«وتكررت
هذه الظاهرة مرة أخرى في التاريخ الحديث ما بين أعوام الحرب العالمية الثانية
39-44، حينما هبَّت سائر جموع أوروبا صارخة
«اهدموا
ألمانيا»،
وهم يظنون أنهم يعبّرون عن المشاعر الوطنية وحتى الأوامر الدينية، وقد اندفعوا
بإيحاء من اليهود ضد الهتلرية التي هي في الحقيقة أضحت خطرًا على نفوذهم في العالم»[5]،
وهي ذاتها التي دفعتهم لتحريض روما على محاولة قتل المسيح -عليه السلام-[6]،
وهي التي دفعتهم إلى محاولة قتل النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، الذي بدا لهم أنه
مُؤسِّس سوق المدينة المُنافِس الأبرز لسوق بني قينقاع، علاوةً على أسباب يدركونها
جيدًا ستحول لاحقًا بينهم والتفرد بـ«الخيرية
المطلقة»
والنفوذ الاقتصادي الهائل. ومِن ثَم، سيعملون على تدمير مفاصل حَمَلة هذا الدين
«المنافس»،
وليس المُتمِّم لما جاء به موسى -عليه السلام-، بزعمهم! وستدفعهم لاحقًا لتدمير كل
مَن يقف في طريقهم، وغزة شاهد مرئي على ذلك.
إن الشخصية اليهودية مبدعة في مجال الأفكار التي قادت العالم كله عبر نظريات جديدة
في الاقتصاد والسياسة، لكنها لم تُبدع لتبني، بل لتهدم نُظمًا لتؤسِّس مملكتها
الخاصة، وتهيمن اقتصاديًّا لا للنفع، وإنما للامتصاص والاستنزاف، والإمساك بلجام
الشعوب ودولها، وهي في هذا تمضى منفلتة من كل عقال.. حتى دينها ذاته، ابتدعت فيه
عقيدة مشينة جدًّا، اسمها
«تصحيح
أخطاء الرب»،
تعالى الله عما يقول اليهود علوًّا كبيرًا.
وهي مبدعة في عالم المال، لكنَّه إبداع الاستعباد؛ فقد عادت يهود لتنتقم من العالم
كله على سنوات الاستعباد والإذلال، فاستمسكت بحبل من الناس لِلَفِّه حول أعناقهم!
إن نظرة اليهود كانت على الدوام للعالم كله، نظرة عداء وكراهية؛ فهي لم تخرج من
الجيتوهات لتندمج أو لتحقّق
«المواطنة»
في دول العالم، بل لتستنزفها وتنتقم منها، حتى صار العالم، بقيادة اليهود الحقيقية
له، بائسًا محطمًا، فعلوّ اليهود الاقتصادي العالمي هذا اقترن بواحدة من أكثر
معادلات الاقتصاد العالمي غرابة.. لقد صيَّرته اليهود كله مدينًا بتريليونات
الدولارات، لمن؟ لا أحد يجيب!
ونحن نستطيع أن نرى الشخصية اليهودية، كشخصية مغلولة في كل شيء، فهي تعبد المال،
وتلوي عنق التوراة لتفتح للعالم
«المسيحي»
ثغرة للتعامل بالربا المحرم، فتركّز المال بيدها المغلولة، وهي شحيحة عن أيّ خير
يتعلق بالبشرية، فتحيك المؤامرات، وتهدم دولًا، وتبني أخرى، وتطلق نظريات لتحقيق
تفوقها، والإمساك بلجام الدول والشعوب، (باطنية، شيوعية، رأسمالية، أصولية لوثرية..
إلخ)، وهي مغلولة عن بسط الخير في العالم، ميَّالة لنشر العنف والفوضى والقتل
والدمار؛ {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْـحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} [المائدة:
64].
ويشير مالك بن نبي إلى
«يهودي
وُلِدَ في جيتو مغربي، وأصبح عبر تغيير مزدوج للاسم والجنسية يدعى فدوف كوبر
الشهير، وزير الحرب في الحكومة البريطانية، هو الذي أعلن الحرب على ألمانية
الهتلرية عام 1939م»[7]!
الشخصية اليهودية ميّالة للإفساد، لا سيما بين الشعوب الأخرى، قصد إخضاعها والتحكم
بها، يقول ابن كثير في تفسير تلك الآية:
«من
سجيتهم أنهم دائمًا يسعون إلى الإفساد في الأرض»[8].
وهذا الميل إلى التحريض على الأمم الأخرى، لا سيما تلك التي يَعتبرها اليهود عائقًا
كبيرًا في سبيل هيمنتهم على العالم، ولا أهم من أمة الإسلام لتنصبّ عليها مكائد
اليهود، فنجد كلّ مصيبة تحلّ بالمسلمين تقريبًا خلفها تحريض يهودي، ونحن نجد ذلك في
سلوك بنيامين دزرائيلي رئيس وزراء بريطانيا اليهودي الأصل الذي مهَّد لقيام
«إسرائيل»،
وصاحب رواية
«الصليبية
الجديدة»،
والذي أسَّس من خلالها للحلف بين اليهود الراغبين في العودة إلى فلسطين وبين
بريطانيا
«الاستعمارية»
الراغبة في بسط سيطرتها على تلك المنطقة المهمة من العالم، ونجدها الآن في الحلف
الجديد الذي نسجته اليهود مع حزب بهاراتيا جاناتا الهندي الحاكم، الأشد تطرفًا
وإرهابًا وتنكيلًا بالمسلمين، وكذا في علاقة النظام الحاكم في ميانمار بـ«إسرائيل»
المُحرِّضة له دومًا على تهجير الروهينجيا المسلمين، المزوِّدة له بأحدث أسلحة
القمع الشرطية، نجدها في التحريض ووضع البرامج للتنكيل بالدعاة المسلمين في كثير من
بلدان العالم الإسلامي؛ بغية كبح جماح الصعود الإسلامي، الذي يمثل خطرًا وجوديًّا
على
«إسرائيل»
من جهة، وأذرع اليهود الاقتصادية والسياسية في العالم؛ وذلك لأن الإسلام بنظرته
الرحبة للناس وسعيه لنشر العدالة يتصادم كليًّا مع الرغبة اليهودية في استنزاف
الشعوب والسيطرة عليها وسَوْقها كالأنعام خلف شهواتها وأنماطها الاستهلاكية،
واستدراجها نحو النظام الربوي العالمي.
* * *
في كلمة مختصرة، ربما كانت الشخصية اليهودية -على تناقضها- ناجحة جدًّا في مسعاها
للهيمنة على العالم، بشتى الطرق الإبداعية، وربما لا يمكننا نكران ذلك
«التفوق»
في الإفساد والسيطرة. لكن هذه السيطرة وذاك
«التفوق»
كان دومًا رهينَ تراجُع المسلمين عن مكانتهم العظمى التي تُلجئ المفسدين دومًا إلى
الجحور.
لقد تلقى اليهود في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- ضربات موجعة جدًّا، يستحقونها
بلا ريب، استهدفت حصونهم العسكرية، وقلاعهم الحربية، تمامًا مثلما استهدفت منظومتهم
الربوية والاقتصادية المتينة، ثم بنى النبي -صلى الله عليه وسلم، بوحي من السماء،
لم يزل هاديًا إلى قيام الساعة-، نظامه العالمي الخاص به، فكان اليهود في أطرافه،
بل لم يفلحوا إلا حينما استقوا بعض الوسائل من المسلمين أنفسهم، مثلما فعل ابن
ميمون في الأندلس ثم مصر بعد ذلك، وأسَّس لاحقًا لكثير من أسباب التفوق عبر سرقة
أفكار إسلامية محضة، تخلَّف المسلمون عن تنسم هداها.
لقد أزاحت حضارة المسلمين العادلة شُذّاذ الآفاق، وعلقات الدم المستنزفة لثروات
الشعوب، وحين تراجعت، تجاسرت شراذمهم من جديد؛ فنسجت لنفسها أسباب الهيمنة
والاستنزاف بحبل من الناس. ونحن نؤمن بسُنّة التدافع التي ستُعيد العدالة يومًا إلى
العالم، مثلما ملأه اليهود ظُلمًا وجَورًا.
[1] عبد الرحمن السعدي، تيسير الكريم الرحمن، ص 192.
[2] ذاك المشهور في كتب المغازي، لا سيما ابن إسحاق، عن سبب إجلاء يهود بني النضير،
لكن بعض أهل الحديث قد ضعَّفه. والمعنى نفسه ثابت في قصة أخرى قوية السند.
[3] مع أن قرار الأمم المتحدة بإدانة الصهيونية لم يزل قائمًا!
[4] مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي – الجزء الثاني (المسألة اليهودية)، ص61.
[5] مالك بن نبي، ص53.
[6] ثم عمدوا إلى التبرؤ منها عبر قساوسة دانوا لليهود في الكنائس البروتستانتية
والكاثوليكية، فجعلوها جريمة رومانية فحسب!
[7] مالك بن نبي، ص56.
[8] تفسير ابن كثير، ص118.