• - الموافق2024/11/23م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
المنهجية الأصولية في التفسير والبيان للنص الشرعي

قواعد علم أصول الفقه، قواعد مُعِينَة على تفهُّم وفَهْم النصوص الشرعية، وعلى استنباط الأحكام الشرعية منها، وهو ما يساعد على تمديد النصوص الشرعية حتى تفي بالمستجدات وتفي بالنوازل الجديدة والطارئة،


مقدمة

من أبرز المحاور التي اشتغل عليها علماء أصول الفقه في سياق عنايتهم واهتمامهم بالتفسير، والبيان والاستمداد للنص الشرعي: محور الفهم والتفسير وتلقّي المعنى، واستمداد الدلالة من النص الشرعي؛ من حيث هو المدار للعلوم الإسلامية، وَفق الطرق المخصصة، والمسالك المتعارف عليها في هذا الاستمداد.

وهذا يدلّ على أن العناية بالمعنى من مقدماته الأساسية، ومن شروطه ومداخله الرئيسة: العناية باللفظ، والعمل على رَصْد وتحقيق دلالته في عدد من الجهات والمستويات والزوايا. من أبرزها -كما نص على ذلك معظم علماء الأصول-: جهة الوضع والاستعمال والتداول، دون أن يُهملوا دَوْر وأثر السياق، والمقتضيات المحيطة بالنص في هذه العملية المتصلة بتلقّي واستخلاص المعنى، فهذه الجهة لها أهمية خاصة في توجيه المعنى وتلقّي الدلالة من النص، وهو ما جعَل البحث في المعنى يُشكِّل محورًا أساسيًّا، ومطلبًا رئيسًا في مُدارسة الأصوليين للغة بشكل عامّ.

 فالتحقُّق من اللفظ من حيث الوضع والاستعمال والتداول والمقتضيات التي يَرِد فيها هذا اللفظ في النص، يجد سنَده واعتباره في أن اللغة في المنظور الأصولي هي الألفاظ المبينة للمسميات، علمًا بأن الألفاظ هي أدوات وأوعية حاملة للمعاني الدالة على القصد المحمول في النص[1].

علم أصول الفقه: الموضوع والمنهج

يُعد علم أصول الفقه من أهم العلوم التي أنتجتها الحضارة العربية الإسلامية، فهو من مفاخر هذه الحضارة؛ إذ دلَّ هذا العِلْم على التطور التشريعي الكبير الذي عرفه العالم الإسلامي في امتداده التاريخي البعيد، وعادةً ما يُدرج هذا العلم ضمن علوم المناهج؛ لكونه عبارة عن مجموعة من القواعد والمسالك الكلية المجردة التي تُعين المستدِلّ في بناء استدلاله الفقهية، وفي ضبط تخريجاته في بناء الأحكام للأقضية الجديدة، والاستجابة مع مختلف النوازل المستحدثة والطارئة التي تقع في المجتمع.

فقواعد علم أصول الفقه، قواعد مُعِينَة على تفهُّم وفَهْم النصوص الشرعية، وعلى استنباط الأحكام الشرعية منها، وهو ما يساعد على تمديد النصوص الشرعية حتى تفي بالمستجدات وتفي بالنوازل الجديدة والطارئة، والغاية من هذا العلم هو الوصول إلى تنزيل المعاني والكليات الشرعية على تصرُّفات وأفعال المُكلّف في الواقع الذي يعيش فيه، طبقًا للمقاصد والكليات والأصول التي جاءت بها الشريعة الإسلامية.

وهذا العلم -أعني علم أصول الفقه- من جهة أخرى، يُعبِّر ويُجسِّد العقلية الإسلامية في تعاملها مع أصناف المعارف، وتواصلها مع العلوم في بناء الاستدلال والاستنباط، ويُجلِّي مدى تفاعل الحضارة الإسلامية مع القضايا والمشكلات التشريعية الجديدة التي عرفها المجتمع الإسلامي في تطوُّره، فهو، بهذا الوصف، يُعَدّ ويُدْرَج ضمن العلوم الاستدلالية الإسلامية التي تشتغل على منهج الفهم والتفهم، وعلى مسالك الاستنباط والاستدلال، وإظهار المعنى في النص.

هذه الاعتبارات تُمْلي علينا الاعتراف بأن العلوم الإسلامية على اختلاف مرجعياتها، وتنوُّع محدداتها ومكوناتها، ورغم وتباين بنائها وأشكالها ومسالكها وأنساقها، وحتى في اختلاف أسمائها، فهي معرفيًّا ومنهجيًّا علوم قائمة ومُؤسَّسة على البيان، والتفهم للنصوص الشرعية.[2]

 المكون اللغوي في علم أصول الفقه

التعامل الأصولي مع اللغة يأخذ هذا البُعْد، وهو أن اللغة نظام متكامل، يقوم على مجموعة من العناصر والمكونات؛ منها المجال الصوتي والتركيبي والدلالي، كلها تشتغل وفق نظام متكامل لأداء وتبليغ المعنى.

وإن كان العنصر الغالب في هذه العناية هو المجال الدلالي؛ بحيث صرَّح الإمام الغزالي (ت505هـ)، بأن قطب الدلالات هو المحور الغالب على الدرس الأصولي.

وتلقّي المعنى في الدرس الأصولي، يدل على أن المكون اللغوي في علم أصول الفقه يظل من أبرز المحاور والمكونات المشيدة للبناء العام في هذا العِلْم، وهذا المحور محدّد في علاقة اللفظ بالمعنى، أحيانًا ينعت بمحور الدلالات، باعتبار أن الدلالة اللفظية هي النسبة القائمة بين اللفظ والمعنى، أو هي العلاقة الجامعة والمتبادلة بين الألفاظ والمعاني في التركيب أو في الاستعمال.[3]

وهذا المحور اللغوي يؤشّر على أن المنهجية الأصولية منهجية تفسيرية، تسعى إلى تفسير النص الشرعي وفق المقتضيات والأصول اللغوية.

علمًا بأن المعنى في علم أصول الفقه، هو القصد من المدارسة اللغوية عند الأصوليين، واللفظ ما هو إلا وسيلة وأداة حاملة للمعنى، فالقصد عند الأصولي من مدارسة الألفاظ، هو الوصول إلى المعاني المحمولة في الخطاب بقسميها اللغوي والشرعي.

وقد أشار الإمام الشاطبي (ت790هـ) في الموافقات إلى ذلك «أن يكون الاعتناء بالمعاني المبثوثة في الخطاب هو المقصود الأعظم، بناءً على أن العرب إنما كانت عنايتها بالمعاني، وإنما أصلحت الألفاظ من أجلها، وهذا الأصل معلوم عند أهل العربية، فاللفظ إنما هو وسيلة إلى تحصيل المعنى المراد، والمعنى هو المقصود»[4].

بناءً على هذه القناعة المنهجية في أهمية تلقّي المعنى من النص؛ عمل علماء الأصول على تأصيل القواعد، وبناء الضوابط، وتقعيد الأصول المُساعِدَة على الفهم السديد، والمُعِينَة على التلقي السليم، والمُوصِّلة إلى البيان وإدراك المقصد في كتاب الله، سواء أكان هذا البيان منصوصًا عليه، آم مستنبطًا من النص القرآني.

وهذا يُشْعِر بأن المقصد الذي كان يحدو علماء الإسلام في هذا الاختيار، هو أن مقصد البيان والفهم والتفسير لكتاب الله، وسنة نبيه -عليه الصلاة السلام-، كان يُعدّ من أبرز المقاصد التي جاءت بها الشريعة الإسلامية، وعملت على تأصيلها، وعلى إبلاغها وحملها في نصوصها ونقولها وشواهدها.

بحيث «لا يتصور أن يتصدى للتفسير والبيان، أو أن يقدم على هذه العملية المتعلقة بتفهم النصوص الشرعية، مَن لا علم له باللغة العربية، وليس مِن المعقول أن يُقدِم على التفسير مَن لا دراية له بعلوم اللغة العربية المختلفة، ولا بأسرار دلالة ألفاظها في جهة الوضع والاستعمال»[5].

 واشتغال واعتماد الأصوليين على اللغة، ومباحثها، يُعرَف عندهم باسم الاجتهاد في النص الشرعي؛ لأن من ثمرة الاستدلال على الأحكام الشرعية -كما قال كثير من الأصوليين عامة، والإمام الشاطبي (ت790هـ) بصفة خاصة في الموافقات «هو تحقيق الفهم الذي هو الثمرة من الاشتغال بالنص»[6].

علمًا بأن الخطاب والنص الشرعي الذي هو محل الاستدلال عند علماء أصول الفقه؛ خطاب عربي في اللغة والألفاظ والتراكيب والصِّيغ والمقتضيات، فهو خطاب محكوم بقواعد اللغة العربية، ومضبوط بأصولها وبمعهودها في الفهم والتفاهم والتخاطب.

قال الإمام الشافعي (ت204هـ) في الرسالة: «فإنما خاطَب الله بكتابه العرب بلسانها على ما تَعرف من معانيها. وكان مما تَعرف من معانيها اتساع لسانها»[7].

بهذا الاعتبار، كانت الإحاطة بمباحث علم أصول الفقه ضرورة منهجية للمستدل على الأحكام الشرعية؛ لأنه من علوم الآلة، أي العلوم المقصودة والمطلوبة لغيرها، ولعل هذا الخيار في وظيفة هذا العلم في الفهم والبيان والتلقي، هو الذي جعل مدونات علم أصول الفقه تحتوي على مقدمات نفيسة، وعلى مباحث مهمة في علم اللغة، قال الإمام الغزالي في مقدمة كتابه: «إن المقدمات اللغوية كعلم اللغة والنحو فإنها آلة لعِلْم كتاب الله، وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-»[8]؛ بحيث إن السلطة الغالبة والحاكمة في الدرس الأصولي، كانت للمباحث اللغوية والدلالية من حيث هي مقدمات أساسية في الفهم والاستدلال.

 جهة اللفظ في الدرس الأصولي

من الإشارات التي ينبغي ذكرها، أن صناعة المعنى واستمداد الدلالة من النص الشرعي، كانت من أبرز المحاور التي اشتغل عليها علماء أصول الفقه في عنايتهم بالتفسير والبيان والتلقي.

وهذه الصناعة متوقفة على ضبط اللفظ في مختلف الجهات والزوايا، وهذا يدل ويفسّر أن العناية بالمعنى، من مقدماته وشروطه العمل على رصد دلالة الألفاظ في علاقته بالمعاني من مختلف الزوايا والجهات، وهو ما جعل البحث في المعنى يشكل قاسمًا مشتركًا في مدارسة اللغويين والأصوليين وعلماء المنطق وعلماء الدلالة.

ولا أدلّ على ذلك من تصريح إمام الحرمين الجويني (ت478هـ) في كتابه «البرهان في أصول الفقه»؛ حيث قال: «اعلم أن معظم الكلام في الأصول يتعلق بالألفاظ والمعاني...»[9].

وهو المعنى الذي نجده عند الإمام الشاطبي (ت790ه) في كتابه الموافقات؛ إذ صرح هو الآخر بقوله: «إن أغلب ما صُنِّف في هذا العلم إنما هو في المطالب العربية...»[10].

من هنا كانت معظم المباحث في علم أصول الفقه، هي للمباحث والقضايا، التي اتجهت نحو جهة اللغة عامة، والتحقق من الدلالة اللفظية خاصة؛ «فالسلطة المرجعية في علم أصول الفقه هي للبحوث اللغوية، والمحور الرئيس الذي ينتظم هذه البحوث هو علاقة اللفظ بالمعنى»[11].

بهذا القصد كان البحث في اللفظ هو مبتغى ومقصد علماء الأصول؛ بحيث تَتَبَّعُوه في جميع الجهات، ومن تلك الجهات: جهة الاستعمال، والوضوح والخفاء.

ومن تداعيات البحث اللغوي عند الأصوليين، أن التفهم للنصوص الشرعية، يجب أن يقوم على الآليات والشروط الصانعة للفهم والضابطة للتلقي[12].

علم أصول الفقه والتفسير

إن التقارب بين أصول الفقه والتفسير في جهة البيان والتفسير هو اعترافٌ صريح بمشاركة القرآن الكريم للغة العربية، وتوافقهما معًا في الجانب الدلالي والتركيبي والأسلوبي والمعجمي، وهذا ما يعني أن القرآن الكريم جرَى فيه التخاطب على سنن اللغة العربية ومنطقها في الخطاب والتخاطب، وعلى معهود تعبيرهم، فالقرآن الكريم يحمل كل خصائص اللغة العربية من وَصْل وفَصْل، وإيجاز وإطناب، وتقديم وتأخير، وهذا أمر مشهود ومُعتَرف به بين علماء اللغة العربية[13].

فهذه القرابة بين التفسير واللغة تُؤخَذ من هذا التصريح الذي يقول فيه المفسر الطاهر ابن عاشور: «إن القرآن الكريم عربيّ، فكانت قواعد اللغة العربية طريقًا لفهم معانيه، وبدون ذلك يقع الغلط ويسوء الفهم لمن ليس بعربي بالسليقة»[14].

خاتمة

من الإشارات السابقة؛ ندرك أن صناعة المعنى واستمداد الدلالة من النص الشرعي، كان من أبرز المحاور التي اشتغل عليها علماء أصول الفقه في عنايتهم، واشتغالهم بالتفسير والبيان والتلقي.

وهذا يدل ويفسر أن العناية بالمعنى، من مقدماتها وشروطها ومقتضياتها، العمل على رصد دلالة الألفاظ في علاقتها بالمعاني من مختلف الزوايا والجهات والنواحي، وهو ما جعل البحث في المعنى يشكل قاسمًا مشتركًا في مدارسة الأصوليين واللغويين وعلماء المنطق.

وإن كانت الجهة اللغوية هي الغالبة التي اشتغل عليها علماء الأصول، وهي من أبرز الجهات التي ميَّزت الدرس الأصولي.

إن القناعة التي ترسَّخت عند الأصوليين، أن «الولوج إلى النص، والدخول إلى معانيه؛ طريقه وبدايته معرفة الألفاظ، والتحقق من العبارات، وتحصيل معانيها ووجوهها، وإدراك مقاصدها ومقتضياتها، وهذا الدخول مشروع، بل هو واجب على مُفسِّر النص بصفة عامة، مادام مفسِّر النص ممتلكًا، وحاملاً للآليات والشروط الصانعة للفهم»[15].


 


[1] الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم، دار الكتب العلمية، بيروت، ط: 1، السنة 1994م، 3/38.

[2] أصول الفقه وتداخل العلوم لمحمد بنعمر. مجلة التفاهم، العدد: 32، صيف: 2011م، ص: 132.

[3] دراسة المعنى عند الأصوليين لطاهر سليمان حمودة، الدار الجامعية للطباعة والنشر، مصر، ص: 34.

[4] الموافقات للإمام الشاطبي، تحقيق الشيخ عبد الله دراز، 4/117.

[5] القرآن والتفسير العصري، للدكتورة عائشة عبد الرحمن، بنت الشاطئ، ص45.

[6] الموافقات للإمام الشاطبي: 1/117.

[7] الرسالة للإمام الشافعي: ص52.

[8] إحياء علوم الدين للإمام الغزالي: 1/22.

[9] البرهان، إمام الحرمين الجويني: 1/132.

[10] الموافقات: 4/117.

[11] الخطاب الشرعي وطرق استثماره، للدكتور إدريس حمادي، ص: 56.

[12] الحوار أفقًا للفكر، لطه عبد الرحمن، ص164، إصدار الشبكة العربية للأبحاث والنشر لبنان بيروت: 2014م.

[13] مجاز القرآن لأبي عبيدة معمر بن المثنى: 1/17. ويراجع: المقاصد اللغوية بين التقصيد الدلالي وفهم الخطاب الشرعي، للدكتور عبدالحميد العلمي: ضمن كتاب مناهج الاستمداد من الوحي. إصدار الرابطة المحمدية للعلماء، 2008م، ص 67.

[14] مقدمة تفسير الطاهر ابن عاشور: 1/18.

[15] الحوار أفقًا للفكر، لطه عبد الرحمن، ص164، إصدار الشبكة العربية للأبحاث والنشر لبنان بيروت: 2014م.

أعلى