ظل الدور الوظيفي لـ«إسرائيل» هو الفاصل المانع للوحدة الإسلامية والعربية لعقود تلت الإعلان عن الدولة اليهودية، ثم تطوَّر إلى إقامة علاقات متكافئة مع بعض الدول العربية، اقتصادية وعسكرية وأمنية
ما تزال مقاطعة ساكسونيا الألمانية تُتحفنا بقوانينها على مر العصور؛ ففي العصور
الوسطى الأوروبية، ابتدعت المقاطعة قانونًا يميز بين المحكومين من الفقراء و«النبلاء»؛
فيقطعون رأس الفقير، فيما يكتفون بقطع ظِلّ رأس
«النبيل»،
ويجلدون الفقير، وظِلّ
«النبيل»،
ويُحْكِمُون سجونهم على الفقير، فيما يُدْخِلُون
«النبيل»
السجن من باب ويخرجونه من آخر!
عُدَّ قانون ساكسونيا قبل قرون تعبيرًا عن التمييز الطبقي الذي كان سائدًا بشكل
فاقع حينها، وسيُعد قانون ساكسونيا الجديد (أو بالأحرى مرسومها) الذي أقر مؤخرًا في
المقاطعة الألمانية، ويشترط الاعتراف بـ«إسرائيل»
لمنح الجنسية الألمانية لطالبها، تعبيرًا آخر عن هزلية الغرب وجنونه الذي انتابه
مؤخرًا لإبداء المساندة القوية للكيان الصهيوني في محنته الفريدة. يفيد المرسوم
بأنه يتعين على المتقدمين للحصول على الجنسية أن يؤكدوا كتابةً قبل التجنيس
«أنهم
يعترفون بحق إسرائيل في الوجود، ويُدينون أيّ مساعٍ مُوجَّهة ضد وجود دولة إسرائيل».
والمفارقة أن ساكسونيا ليست بدعًا من الغرب، أقاليمه ودوله؛ ففي 5 ديسمبر كان مجلس
النواب الأمريكي يجتمع للتصديق على قانون ينص على أن
«معاداة
الصهيونية هي معاداة السامية»،
وقبلهما هرعت ألمانيا وفرنسا إلى إصدار تعليمات بحظر مظاهرات التضامن مع غزة، قبل
أن تتراجع تحت وطأة الغضب الجماهيري لا سيما من الأقليات: المسلمة، واليسارية.
عشرات بل مئات الشواهد تدلّ على تنادي الغرب وهَلعه لدعم ومساندة
«إسرائيل»،
وربما إنقاذها، إذا لزم الأمر؛ في أعقاب هجوم 7 أكتوبر الذي شنَّته فصائل مقاومة
فلسطينية على ثكنات ومقارّ عسكرية ومغتصبات سكانية في
«غلاف
غزة»،
كان أبرزها إرسال الولايات المتحدة الأمريكية حاملة الطائرات
«جيرالد
فورد»
الأقوى والأحدث بعد الهجوم بيومين إلى منطقة قريبة جدًّا من سواحل فلسطين، ثم
انضمام حاملة الطائرات
«يو
إس إس أيزنهاور»
ومجموعة السفن الحربية التابعة لها إلى الحاملة الأولى بعد عدة أيام أخرى؛ تحسُّبًا
لأي طارئ قد يجعل
«إسرائيل»
في وضع أكثر صعوبة.
ربما يُرى في ذلك تجسيد تقليدي لعلاقة وثيقة جدًّا تربط
«إسرائيل»،
زادت مظاهرها بشكل طردي وطبيعي مع هذا الهجوم غير المتوقع، لكنَّ الواقع أن تلك
النماذج ونظائرها تعكس أمورًا أعمق من ذلك بكثير؛ حيث إن مئات من الفدائيين
الفلسطينيين قد توغلوا داخل (فلسطين 48) بعمق أكبر مما جازته القوات العربية في حرب
73 في سيناء (خارج فلسطين) بأكثر من عشرة كيلو مترات، قتلوا وأسروا، وعادوا سالمين!
ثم حُوصرت غزة ودُمِّرت، لكن بعد شهرين من الهجوم لم تتمكن
«إسرائيل»
من تحقيق أيٍّ من أهداف عدوانها الدموي الهائل.
عسكريًّا، لم ينقطع الدعم الأمريكي عن خزائن أسلحة
«إسرائيل»
وذخائرها، الطائرات الاستطلاعية الأمريكية، ثم البريطانية تجوب سماء غزة، تُنفِّذ
حرفيًّا ما تُمليه غرفة العمليات في تل أبيب، التي تضم قادة عسكريين واستخباراتيين
من كلٍّ من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا، بالإضافة لـ«الإسرائيليين».
لُبّ القضية ليس هنا، إن الاستنتاج الأبرز من هذا، أن الدور الوظيفي لـ«إسرائيل»
قد تعرَّض لنكسة كبرى، لا يمكن أن يمحوها إلا تدمير حركة حماس تمامًا، وإزالة أيّ
تهديد يُواجه
«إسرائيل»
مستقبلًا من قطاع غزة.
الدور الوظيفي القديم لـ«إسرائيل»:
منذ قرنين ونيّف، كانت فكرة وجود عازل يهودي بين المسلمين (العرب خصوصًا) تجول بعقل
الفرنسيين، يقول الكاتب محمد حسنين هيكل:
«لكي
يضمن نابليون عدم التقاء الضلعين عربيًّا وإسلاميًّا (المصري والسوري)؛ فإنه يزرع
عند مركز الزاوية هذه شيئًا آخر لا هو عربي ولا هو إسلامي (...)، وهكذا تجيء
«ورقة
نابليون اليهودية»
(التي أظهرها أمام أسوار القدس ووُزِّعت على كل يهود العالم) تصوُّرًا للمستقبل
ورؤية -ربما لا تتحقق بسرعة- لكنها قابلة للتحقيق في مستقبل الأيام»[1].
والأمر عينه، ينسحب على البريطانيين؛ ففي الوثائق البريطانية، يُستخلص أن
«حصر
محمد عليّ داخل الحدود المصرية وراء صحراء سيناء، وتحويل هذه الصحراء إلى نوع من
«سدادة
الفلين»
تقفل عنق الزجاجة المصرية التي يمثلها وادي النيل (والتشبيه من خطاب لروتشيلد[2]
موجَّه إلى بالمرستون[3]
بتاريخ 21 مايو 1839م)[4].
الدور الوظيفي الحديث لـ«إسرائيل»
ظل الدور الوظيفي لـ«إسرائيل»
هو الفاصل المانع للوحدة الإسلامية والعربية لعقود تلت الإعلان عن الدولة اليهودية،
ثم تطوَّر إلى إقامة علاقات متكافئة مع بعض الدول العربية، اقتصادية وعسكرية
وأمنية، ثم طوّره مفكرون صهاينة فيما بعد إلى
«التبشير»
بقيادة
«إسرائيل»
للمنطقة العربية برُمّتها وفقًا لمشروع
«الشرق
الأوسط الجديد»[5]؛
الذي وضعه رئيس الوزراء الصهيوني الأسبق شمعون بيريز، والذي لخَّص فيه قيادة
«إسرائيل»
للمنطقة عبر استحواذها على الصناعات المتطورة، وقيادتها للمنظومة الأمنية
الاستخباراتية في المنطقة، وتوظيفها الدول العربية كلها لتُنَفِّذ مشروعًا
اقتصاديًّا تتكامل فيه اقتصادات الدول العربية، لكن تحت زعامة
«إسرائيلية».
نجحت
«إسرائيل»،
وأخفقت في تنفيذ مشروع بيريز، إلى أن قادت مجموعة من الظروف الدولية والإقليمية إلى
وضع إطار أمني جديد في المنطقة يَقْضِي بأن تُشكِّل
«إسرائيل»
مع دول عربية حلفًا عسكريًّا يضمن ترتيب الأوضاع الأمنية لحماية تلك الدول من مخاطر
التهديد الإيراني الذي تعاظم منذ احتلال العراق في العام 2003م، والذي سيطرت عليه
طهران عبر أحزابها وميليشياتها التابعة لها، ثم بسطها هيمنتها على دول عربية أخرى،
هي سوريا ولبنان واليمن، وممارستها نفوذًا أكبر على دول أخرى في المحيط العربي كله.
قبل 7 أكتوبر، كانت
«إسرائيل»
تُحرز تقدمًا غير مسبوق في تحقيق شراكات كبيرة مع دول عربية مؤثرة، وسعت لتسويق
نفسها كحامية محتملة للمنطقة العربية أمام الخطر الإيراني المتصاعد؛ وإذ أوشكت
طهران على حيازة قنبلة نووية بعد تقدُّمها الواضح في برنامجها النووي؛ فإن
«إسرائيل»
هي المرشَّحة لتحقيق معادلة الردع في المنطقة، وفقًا للتقديرين الأمريكي و«الإسرائيلي».
هذا إلى جانب مشروعات ضخمة للطاقة والسياحة والنقل والطرق، تقاطعت فيها المصالح
الظرفية لدى بعض الدول العربية مع المشروعات
«الإسرائيلية».
كان تصور التعاون الإقليمي يمتد إلى عدة نواحٍ:
1- البناء على الجهود التي أسفرت عن إقامة
«إسرائيل»
علاقات دبلوماسية مع الإمارات والبحرين والمغرب والسودان، في ضمّ المزيد من الدول
إلى تحالف
«إسرائيلي»/عربي
أوسع.
2- إقامة مشروعات مشتركة نفطية، وطرق سريعة دولية، وسكك حديدية تربط الدول العربية
بـ«إسرائيل»
عبر مشروع كبير يمتدّ من الهند حتى أوروبا، وتقع
«إسرائيل»
في مركزه الحيوي.
3- توقيع اتفاقات متقدمة في التعاون التقني والتبادل التجاري وإقامة مناطق تجارة
حرة.
4- اشتراك
«إسرائيل»
بمشاركة 60 دولة في أول تدريب بحري تقوده الولايات المتحدة، ويضم دولًا عربية لا
تقيم علاقات دبلوماسية مع
«إسرائيل»،
إلى جانب دول أخرى أقامت علاقات دبلوماسية معها للتوّ، وذلك في فبراير 2022م، ثم في
أول مناورة بحرية في البحر الأحمر في الشهر التالي مباشرة.
5- إقامة العديد من الفعاليات المُرسّخة لفكرة نمو العلاقات بين دول عربية و«إسرائيل»،
منها فعاليات رياضية وثقافية، وغيرها.
تغيُّر دراماتيكي للدور الحديث
والحق أن كل ما تقدم، وغيره لم يكن فحسب مجرد تثبيت لاتفاق
«إبراهام»،
الذي رعته الولايات المتحدة الأمريكية بين
«إسرائيل»
وعدد من الدول العربية، التي تحمَّست لإقامة علاقة أكثر دفئًا من علاقات أخرى
أقامتها
«إسرائيل»
مع دول عربية أخرى منذ عقود، وهي مصر والأردن، التي لم تشهد مثل هذه القفزات في
العلاقات في السنوات الأخيرة، وفي ظل حكومة معلوم داخل وخارج السياج السياسي
«الإسرائيلي»
وفي العالم كله أنها الأكثر تطرفًا في تاريخ حكومات
«إسرائيل»،
إنما كان تجسيدًا لاستراتيجية أمريكية جديدة بدأت في عهد الرئيس الأمريكي باراك
أوباما، وسار عليها كلّ من ترامب وبايدن، تقضي بأن تتفرغ الولايات المتحدة
الأمريكية للتحدي الأكبر لها الآن، وهو الصعود الصيني الهائل، اقتصاديًّا وتقنيًّا
وعسكريًّا، والذي تبيّن لواشنطن أن تورطها في الصراعات، كأفغانستان، والعراق، وكذلك
في صراعها مع روسيا في أوكرانيا (بالوكالة)، قد أضرَّ كثيرًا بتفوقها على الصين،
وجعل من الأخيرة عصية على الاحتواء، وأنذر بعواقب وخيمة على السياسة الأمريكية
الخارجية التي سعت لإحلال
«إسرائيل»
كوكيلة موثوقة عنها في الإقليم، بعد أن أدرجت واشنطن،
«إسرائيل»
ضمن قيادة منطقة القيادة المركزية الأمريكية (سنتكوم)، بدلًا من التبعية للقيادة
الأوروبية، وذلك في يناير 2021م.
الولايات المتحدة بعد أن اطمأنت إلى استقرار
«إسرائيل»
أكثر من أيّ وقتٍ مضى، وبعد أن طُمرت القضية الفلسطينية تمامًا تحت رمال المصالح
الإقليمية المشتركة، وبعد سلسلة من الترتيبات الإقليمية اللافتة والمتسارعة، والتي
أفضت إلى تحسين العلاقات بين إيران والدول الخليجية، وتجسير الهوة بين اليمن
وجيرانها، وحل المشكلة القطرية، وتحسين العلاقات التركية/الخليجية،
والتركية/المصرية، وإعادة العلاقات والتعاون بشكل واضح بين أنقرة وتل أبيب، وبعد أن
قامت واشنطن بتبريد كل الملفات الشائكة في الإقليم تقريبًا؛ جاءت زلزلة 7 أكتوبر،
التي وضعت القضية الفلسطينية في صدر الأولويات مجددًا، واستدعت البحث عن الحلول
جنبًا إلى جنب مع جلب الأساطيل؛ تحسُّبًا لتصاعد الأمور!
* * *
لم تضع الحرب أوزارها (على الأقل حتى كتابة تلك السطور)، وسيناريوهاتها التي وُضعت
لها في تقدير الخبراء، واردة، إما اجتياحًا كاملًا للقطاع وإعادة ترتيب حُكمه من
جديد، ضمن معادلة لا تبقى فيها حماس حاضرة، وإما صمودًا وفرضًا للإرادة الحمساوية،
وإما خليطًا من الحل يجمع بين هذا وذاك.. لا يمكن الجزم حقيقة، لكن ما يمكن
استشرافه فيما يخص دور
«إسرائيل»
الوظيفي في المنطقة، وفي ضوء ما حصل في 7 أكتوبر، ثم ما تلاه من تعثر العسكرية
والاستخبارات
«الإسرائيلية»،
وغرقها في بحر رمال غزة المائع، أن
«إسرائيل»
قد تلقَّت صفعة هائلة، تطيح بها عن مركز قيادة المنطقة إن خالجتها الأوهام
بتسَنُّمه؛ فحاصل ما يقرأه
«الجيران»
أن سمعة العسكرية والاستخبارات، بل والتقنية السيبرانية العالية، قد تلطخت
بالأوحال، ولم يعد من المقبول أن يقال: إن تلك
«الدولة»
(مجازًا)، التي صمدت أمامها، بل نالت منها كثيرًا جدًّا، منظمة تعمل تحت الأرض،
وأهانت عسكريتها وأسلحتها الأمريكية المتقدمة؛ تظل قادرة على حماية غيرها من
البلدان؛ فلا راداراتها رصدت، ولا قنابلها فجَّرت أنفاقًا، ولا دبابتها صمدت، ولا
جنودها ثبتوا، ولم يَعْدُ جيشها أن يكون
«قاتلًا»
لا
«مقاتلًا».
وعليه؛ فقد هرعت الدول التي أوكلت لها مهمة الإقليم لإنقاذها، وشكَّلت غرفة
عملياتها في قلب
«عاصمتها»،
وأرغت وأزبدت، بل وتشنَّجت أمام كل مَن يحاول نقد هذه
«الدولة»؛
خشيةً من أن تعلو موجة الرفض والاستنكار العالمية؛ فترغم الحليفة على الإذعان..
لقد أُريد لـ«إسرائيل»
أن تشبّ عن الطوق، وأن تنفطم عن الحماية الأمريكية؛ فأرغمها شباب لا يرتدون حتى
ملابس العسكرية، وبعضهم قاتل حافيًا عاري الصدر، بدائي التسليح، على الاحتماء
بالدولة الحامية الراعية (الولايات المتحدة الأمريكية)، والدولة المُؤسِّسة
(بريطانيا)، فحضرا.. وغابت.
إن حقيقة ستظل ثابتة، وإن تغيرت بالمنطقة الأحوال والأهوال: إنَّ ما جرى لم تشهده
«إسرائيل»
على مر
«تاريخها»
(إن كان لها تاريخ)؛ فحتى الأرقام تشهد بالوجع: لقد قُتل من
«الإسرائيليين»
في حرب 1967م، (803 جنود)، وفي حرب الاستنزاف 1967-1970م، (3239 جنديًّا)، وحرب
أكتوبر 1973م، (2812 جنديًّا)، وحرب 2006م، (184 جنديًّا)، أما في
«طوفان
الأقصى»
فستبقى خسائر
«إسرائيل»
في قلب حدودها المزعومة، ثلمة لن يمحوها التاريخ أبدًا، ومهما كان من ناتج لحرب
ضروس، وعدوان دموي غاشم غشيم؛ فإن دور
«إسرائيل»
بدأ بالأفول، وتقدُّمها إلى تراجُع، وعَملها إلى حبوط -بإذن الله-.
[1] هيكل،
«المفاوضات
السرّية بين العرب وإسرائيل»،
ص 37.
[2] أحد أكبر أغنياء يهود الغرب.
[3] رئيس وزراء بريطانيا في ذلك الوقت.
[4] هيكل، المصدر السابق، ص40.
[5] أوضحه في كتاب يحمل هذا الاسم.