تتم توجيه الاتهامات للنُّخَب السياسية في الدولة العبرية بعد تحقيقات تقوم بها وحدة لاهاف 433، وهي منظمة لمكافحة الجريمة تتبع للشرطة الصهيونية تم إنشاؤها عام 2008م على يد وزير الأمن الداخلي آنذاك آفي ديختر.
حينما أقدم رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو على تشكيل حكومة من عناصر اليمين المتطرف؛ بتسلإيل سموتريش، وإيتمار بن غفير، عميحاي إلياهو الذي طالَب بضرب قطاع غزة بقنبلة نووية، باعتبار ذلك أحد الخيارات الحكومية؛ أراد «الملك بيبي» الاستعانة باليمين لإشغال الجمهور الصهيوني عن أزمة الفساد الكبرى التي تعصف بالدولة العبرية منذ نشأتها.
فالرجل الذي شغل منصب رئيس وزراء للكيان لست مرات؛ يسعى -بالاستعانة بمسرح العرائس الذي شكَّله من نُخَب اليمين- لإعادة صياغة هوية الدولة السياسية التي كانت تتأرجح بين اليمين واليسار واليمين الوسط؛ من خلال التعديلات القضائية التي تُقيِّد دور القضاء وتزيد من أوتوقراطية صناعة القرار الذي يهيمن عليه نتنياهو، وبذلك يكون قد نجح في تحصين نفسه وحكومته من أيّ مُساءَلة قضائية.
فقد شبَّه رئيس المحكمة العليا السابق في الدولة العبرية، أهارون باراك -في مقابلة أُجريت معه- مجموعة مشروعات القوانين التي سنَّها نتنياهو بـ«انقلاب الدبابات». ووفقًا لباراك، فبمجرد إقرارها، ستفتح الأبواب لمزيد من الفساد الذي لا نهاية له مِن قِبَل الحكومة وأعضاء الكنيست (البرلمان).
عقب استقالة رئيسة وزراء الدولة العبرية غولدا مائير عام 1974م؛ كان حزب ماباي الاشتراكي يرأس الحكومة الصهيونية لمدة 26 عامًا، وهنا يمكن تفسير أحد أهم محاضن الفساد داخل الحكومة الصهيونية، بحسب أهارون باراك؛ الذي يرى أن استمرارية هيمنة حزب معين داخل الحكومة تعني زيادة الفساد والمحسوبية، فبعد استقالة مائير قام النائب العام مشير شمغار بسلسلة تحقيقات مع كبار المسؤولين بشأن قضايا فساد، إلى أن تمت الإطاحة به لصالح تعيين أهارون باراك عام 1975م.
كانت أُولى مهام باراك التحقيق مع آشر يادلين الذي كان مرشحًا لمنصب مدير بنك إسرائيل؛ بشبهة تلقّي رشاوى، تمت إدانة يادلين وإرساله إلى السجن، ثم بعدها تم التحقيق مع الوزير أفراهام عوفر بتُهَم فساد، لكنَّه انتحر عام 1977م قبل انتهاء التحقيقات، كما تمَّت مقاضاة ليا رابين زوجة إسحاق رابين بتُهَم فساد تتعلق بحسابات مصرفية خارجية أثناء عمل زوجها سفيرًا لدولة الاحتلال في واشنطن الذي اضطر للاستقالة بسبب هذه الفضيحة.
أحد مبرّرات استمرار فساد النُّخب في المجتمع الصهيوني أظهرته بوضوح استطلاعات الرأي المتعلقة بالانتخابات الصهيونية، فغالبية المجتمع تغفر للفساد الشعبوي القومجي العدواني ضد الفلسطينيين، لذلك أظهرت نتائج استطلاع لمعهد «مأغار موحوت» أن غالبية المُستطلَعين لم يتأثروا بقرار المستشار القانوني للحكومة تقديم نتنياهو للمحاكمة. وقد أكد 75% من المستطلعة آراؤهم بأن موقفهم في التصويت لنتنياهو لم يتأثر بملف محاكمته، لذلك حصل نتنياهو على أعلى نسبة تصويت، وهي 42%، بينما حصل غانيتس على 38%.
في عام 2019م أعلن المستشار القانوني للحكومة الصهيونية؛ أفيحاي مندلبليت، نيّته توجيه لائحة اتهام إلى رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بشُبُهات تلقّي الرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة. بالإضافة إلى ذلك، واجَه وزيران في حكومته آنذاك احتمال اشتباههما بارتكاب مخالفات فساد، وهما وزير الداخلية أرييه درعي، رئيس حزب شاس الحريدي، الذي سبق له أن أمضى فترة في السجن بسبب إدانته بتُهَم فساد، ووزير الصحة يعقوب ليتسمان، من حزب يهدوت هتوراة الحريدي. واضطر وزير الرفاه حاييم كاتس (الليكود) إلى التنحي من منصبه بعد اتهامه بشبهات فساد، وسحب عضو الكنيست دافيد بيتان من الليكود الذي يخضع للتحقيق أيضًا بشبهات فساد ترشيحه لمنصب وزير الأسبوع الفائت. وذكرت تقارير إعلامية أن الشرطة قامت الأسبوع الماضي باستجواب نائب وزير بشأن شبهات متعلقة بالفساد.
هذا، وتتم توجيه الاتهامات للنُّخَب السياسية في الدولة العبرية بعد تحقيقات تقوم بها وحدة لاهاف 433، وهي منظمة لمكافحة الجريمة تتبع للشرطة الصهيونية تم إنشاؤها عام 2008م على يد وزير الأمن الداخلي آنذاك آفي ديختر.
لقد استوعب نتنياهو جيدًا أن تحصين نفسه بكتلة يمينية متطرفة تجعله يتخطى التأثير الشعبوي في الانتخابات العامة، لذلك حاول أيضًا تحصين نفسه من الناحية القضائية، وبذلك يصبح عمليًّا «بيبي الملك» كما تُسمّيه الصحافة العبرية، ويحاول التَّهرُّب من محاكمته عبر تقديم مِنَح سياسية لليمين عبر دعم مشاريع الاستيطان والهجمات المتواصلة على الفلسطينيين؛ فهو جزء من مجموعة كبيرة من النُّخب السياسية الصهيونية التي غرقت في الفساد للحفاظ على مصالحها السياسية، وهذا الأمر يؤكده الدكتور دورون نافوت الباحث في جامعة حيفا؛ الذي يقول: إن عدد أعضاء الكنيست الذين تم رفع الحصانة عنهم لمحاكمتهم بسبب جرائم ومخالفات صُنِّفت على أنها قضايا فساد يتضاعف كل 20 عامًا.
ويضيف: إن الأعوام 2008م و2010م شكَّلت نقطة تحوُّل عقب إدانة وزير الرفاه الاجتماعي شلومو بنيزري، ووزير المالية أفراهام هيرشسون، والنائب عن حزب الليكود تساحي هنغبي.
ويضيف نافوت الذي كان أحد أعضاء اللجنة التي حقَّقت مع هذه المجموعة: بأن ما جرى لا يعكس ثقافة جديدة في المجتمع الصهيوني، بل إنه يشير إلى أنهم ذهبوا أبعد من المعايير الأخلاقية المتدنية في المجتمع.
في كتابه «الفساد السياسي في إسرائيل»؛ حدّد نافوت ثلاث فترات زمنية؛ أولها الخمسينيات؛ حيث كان جزء كبير من الفساد يتعلق بمحاولات تعزيز الحزب الحاكم قبضته السياسية، والثمانينيات والتسعينيات كان الفساد محفِّزًا لمحاولات الحصول على السلطة؛ من خلال انتهاك القانون وتمويل الانتخابات وتوزيع الوظائف. أما في السنوات الأخيرة فقد ركّزت حواضن الفساد على الرشوة وغسيل الأموال واختلاس الأموال العامة. ويعلل الباحث الصهيوني بأن النظام السياسي الأمريكي هو من بين أكثر الأنظمة فسادًا في العالم المتقدم، ويسيطر عليه كبار رجال الأعمال والشركات؛ إلا أن النُّخَب لدينا تنظر إليه على أنه نموذج يُحتَذى به.
يمكن أيضًا الإشارة إلى تأثير الحالة السياسية على تطوُّر الفساد في الدولة العبرية على أنه أحد أدوات حماية النخب السياسية، فعلى سبيل المثال تم تقسيم حزب الليكود من أجل إنشاء حزب كاديما الذي كان يتزعمه رئيس الوزراء الراحل أرييل شارون، ولتبرير حماية شارون وأرييه درعي من الفساد من خلال استحضار دورهما الأمني في معاقبة الفلسطينيين؛ لذلك تم تطبيق مقولة يديشية شهيرة عليهم، وهي: «عندما تحتاج إلى لصّ، عليك أن تُنزله من حبل المشنقة».
الغريب في الحراك المجتمعي الصهيوني أنه يستطيع تقبُّل الفساد بصورة كبيرة من الفاسدين؛ فقد خرجت المظاهرات ضد نتنياهو عقب التعديلات القضائية، لكنّها لم تخرج سابقًا للمطالبة بمحاكمته بسبب الفساد.
وفي كتاب «الفساد السياسي في إسرائيل» يُشار إلى أن الفساد السلطوي تطوّر تبعًا للتغيرات السياسية وأثر عليها، بمعنى أن الفساد أثَّر على مبنى القوة في المجتمع وتأثر به.
كما لفت إلى أن بعض أنماط الفساد مرتبط بشكل مباشر باتجاه النيوليبرالية الاقتصادية، والمَسّ بحيّز الحياة العامة؛ ممَّا يُشكِّل خطرًا حقيقيًّا على الديمقراطية. لذلك يقول الخبير القانوني الصهيوني موشيه نغبي، بأنه ليس متفاجئًا من أن اللغة العبرية لا تمتلك مصطلحًا ملائمًا لكلمة Accountability (القابلية للمحاسبة)؛ فهو ليس أحد أولويات الدولة.
بينما يرى عضو الكنيست شيلي يحيموفيتش أن الدولة العبرية قاب قوسين أو أدنى من أن تكون «دولة تسيطر عليها الميزتان الأبرز لجمهورية الموز»، وهما: المستوى المتردّي لنزاهة الحكم، والفجوات الهائلة بين الفقراء والأغنياء.
تتربع الدولة العبرية في مؤشر الفساد العالمي عند المرتبة 35، بينما حصلت على المرتبة 24 ضمن الدول الـــ36 في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية؛ أي أن 65 بالمئة من الدول المتقدمة أفضل من الدولة العبرية على صعيد الفساد.
لذلك يجب هنا الإشارة إلى عدد من رؤساء الحكومات والوزراء الذين تمَّت إدانتهم في قضايا فساد؛ منهم: إيهود أولمرت الذي اتُّهم بخيانة الأمانة، وقضى مدة عقوبته في السجن، أما بنيامين نتنياهو الذي يحاول الهرب من التحقيقات عبر ما وصف بـــ«انقلاب الدبابات»؛ فقد لاحقته تُهَم الفساد منذ عام 1997م خلال فترته الأولى في رئاسة الوزراء. كذلك تم توجيه تهمة اغتصاب وتحرش للرئيس الصهيوني موشيه كاتساف الذي تم سجنه سبع سنوات.
وأدان القضاء الصهيوني تساحي هنغبي بتهمة حنث اليمين، وتم تجريده من مقعده في الكنيست، أما وزير المالية أبراهام هيرشسون فقد تم سَجنه خمس سنوات في عام 2009م؛ بسبب جرائم مالية تشمل السرقة. وكذلك شلومو بنيزري وزير سابق وعضو في حزب شاس اليميني؛ فقد تم سجنه أربع سنوات بتهمة تلقّي رشاوى، أما بالنسبة لوزير العدل السابق حاييم رامون؛ فقد أُدين بسوء السلوك الجنسي لتحرُّشه بجندية كانت تخدم في مكتب رئاسة الوزراء.
وسجن القضاء الصهيوني كذلك جونين سجيف أثناء شغله منصب وزير الطاقة والبنية التحتية؛ بتهمة تهريب أكثر من 30 ألف قرص مُخدّر، مستغلًا بذلك جوازه الدبلوماسي.
أما المتطرف أفيغدور ليبرمان الذي شغل منصب وزير الدفاع في الحكومة السابقة؛ فقد تم استجوابه بتُهَم الاحتيال وغسيل الأموال وخيانة الأمانة، كذلك اتُّهم وزير الدفاع السابق إسحاق مردخاي بالاعتداء الجنسي، وحكم عليه بالسجن 18 شهرًا. وكذلك تم اتهام أرييل شارون بتلقّي رشاوي فيما عُرف بقضية «الجزيرة اليونانية»، أما الرئيس الصهيوني السابق عيزر وايزمان فقد اتُّهم مِن قِبَل المدعي العام بتلقّيه هدايا نقدية بقيمة 300 ألف دولار من رجال أعمال، وأُجبر على الاستقالة.
وكذلك اتُّهم زعيم حزب شاس آرييه درعي بتُهَم فساد سُجِن على أثرها ثلاث سنوات.
ما سبق يمكن إيجازه بالقول: إن الفساد في هرم السلطة في الدولة العبرية لا يمكن حَصْره في حزب أو دائرة حكومية معيّنة؛ فقد أظهرت استطلاعات رأي سابقة لمقياس الفساد العالمي، أن 58 في المائة من الصهاينة يشعرون بالفساد في حياتهم اليومية، بينما يرى 81 في المائة منهم أن الفساد يؤثر على الأعمال التجارية.