• - الموافق2024/11/05م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
انقلاب إستراتيجي على أرض فلسطين

لقد شكّلت معركة طوفان الأقصى نقلةً كبرى؛ إذ تحولت المقاومة إلى إستراتيجية الهجوم -لا الدفاع- على الأرض المحتلة، ومن حرب العصابات ضد جيش نظامي إلى الاشتباك معه على الأرض التي يسيطر عليها وهزيمته في معارك مباشرة


منذ أن انتقلت المقاومة الفلسطينية من أراضي دول الجوار العربي -الأردن ولبنان- لتقوم بدورها من فوق الأرض الفلسطينية؛ تغيَّرت اتجاهات الحركة الإستراتيجية للصراع، وجرى تراكم التغييرات -جولة بعد جولة- على أرض فلسطين، وأصبح الصراع يجري وَفق نَمط صراع بين قوتين على نفس الأرض، حتى جاء طوفان الأقصى ليُحْدِث انقلابًا إستراتيجيًّا في اتجاه حركة الصراع وفي تحديد مآلاته الكلية أو الشاملة.

لقد تغيَّرت التوازنات على الأرض الفلسطينية بعد طوفان الأقصى، إلى درجة تهديد بقاء الكيان الصهيوني؛ ما دفَع الغرب للحضور بقواته العسكرية لإعادة التوازنات إلى ما كانت عليه. وهو ما تطوَّر عند الأمريكيين والبريطانيين والألمان لفكرة وخطة التصدّي للأسباب التي أدَّت إلى تهديد بقاء الكيان، وعلى رأسها دور المقاومة الفلسطينية في غزة، ووصل الأمر حد العمل لتنفيذ عملية تهجير للفلسطينيين من بقية الأرض المحتلة.

لقد مثَّل طوفان الأقصى.. حرب أكتوبر فلسطينية

إذا كانت حرب أكتوبر عام 1973م، قد نتجت وجرت بناءً على تراكمات لحركة الصراع، وجاءت تتويجًا للحروب ونتائجها بين دُوَل الطوق والكيان الصهيوني، بما أدى إلى إنهاء الاحتلال الصهيوني للأراضي المصرية والأردنية؛ فقد مثَّلت عملية طوفان الأقصى، وضربة 7 أكتوبر 2023م، تغييرًا جذريًّا في توازنات الصراع على أرض فلسطين، وهي الأخرى قد جرت نتاجًا وبناءً على تراكمات في حركة الصراع منذ انتقال المقاومة -بمختلف أشكالها- من أراضي دول الجوار إلى الأراضي الفلسطينية.

لقد جاء طوفان الأقصى تتويجًا لحركة المقاومة الفلسطينية عبر الانتفاضات الشعبية وعبر مقاومة كان الأشد قوة فيها ما جرى في غزة، وأدى لانسحاب قوات الاحتلال الصهيوني منها -عام 2005م- وفق ما أطلق عليه شارون، خطة فكّ الارتباط، وعبر معارك المقاومة من غزة مع الاحتلال الصهيوني خاصة معركتي عام 2014، و2021م؛ إذ شهدتا وصول الصواريخ الفلسطينية لمَدًى أوسع، بحيث صارت تُمثِّل قصفًا وتهديدًا لمعظم مناطق فلسطين المحتلة، بما فرَض معادلات جديدة تطورت حتى وصلت إلى ما تحقق في طوفان الأقصى.

لقد شكّلت معركة طوفان الأقصى نقلةً كبرى؛ إذ تحولت المقاومة إلى إستراتيجية الهجوم -لا الدفاع- على الأرض المحتلة، ومن حرب العصابات ضد جيش نظامي إلى الاشتباك معه على الأرض التي يسيطر عليها وهزيمته في معارك مباشرة، ومن تلقّي الضربات من القواعد الصهيونية والمستوطنات في محيط غزة إلى السيطرة على تلك القواعد العسكرية والمستعمرات.

وكان الأهم أن أفقدت الكيان الصهيوني -بمكوناته من حكومة وجيش وأجهزة أمنية ونُخَب- تماسكه وانتظام مؤسساته التي وصلت حد الارتباك الشامل، بل حتى الشعور بالانهيار الشامل.

لقد وصل حجم الاضطراب في الكيان الصهيوني إلى درجة تهديد بقائه؛ ما دفَع الغرب للتحرك العسكري والاقتصادي والسياسي والإعلامي لإنقاذه، وفي ذلك تخلَّى الغرب عن كل حالات التزين بالمساحيق السياسية والإعلان بسفور عن مواقف داعمة لسلوك نازي وفاشيّ وبربري يقوم به الكيان الصهيوني. وهو تطوّر جعَل الدول الغربية في وضع التماهي مع الكيان الصهيوني وإلى العودة للظهور بمظهر الطرف الأصيل في إنشاء كيانه وحمايته، وهو ما أحدث تغييرًا في نظرة الشعوب العربية والإسلامية -وشعوب العالم- للغرب، وأعاد ترتيب أولويات الصراع في الشرق الأوسط.

محطات الصراع.. إستراتيجيًّا

عاش الصراع على الأرض الفلسطينية مراحل تاريخية وإستراتيجية عديدة على مدار أكثر من قرن من الزمان. وكان الدلالات الأبرز في النصف قرن الأخير، وبعد ظهور الدولة الوطنية -المستقلة-، وإعلان قيام الكيان الصهيوني دولةً اعترف بها الغرب -بعد حرب عام 1948م-. وبعدها اتخذ الصراع طابع القتال بين الدول العربية والكيان الصهيوني في صورة حرب الجيوش، أو الحرب النظامية.

ثم انتهت حرب 1948م بإعلان قيام دولة الكيان، فأصبح قاعدةً لانطلاق الحروب الغربية على دول المنطقة. لقد جرى شنّ حرب ثلاثية بريطانية فرنسية صهيونية -العدوان الثلاثي- على مصر عام 1956م، وتلاها وقوع عدوان شامل في عام 1967م على مصر وسوريا والأردن، نتج عنها احتلال أراضٍ من تلك الدول، وهو ما وُصِفَ بالنكسة.

وجاءت حرب أكتوبر 1973م لتُغيِّر اتجاه حركة المعارك بين الدولة الوطنية العربية والكيان الصهيوني المدعوم غربيًّا. لقد سجَّلت تلك الحرب قدرة كل من مصر وسوريا على التحول إلى الهجوم وعلى توحيد هذا الهجوم، كما سجَّلت حضور معظم الدول العربية في المعركة، ولعبت دول الخليج -خاصةً المملكة العربية السعودية- دورًا كبيرًا في إدارة معركة هجومية مؤثرة على العدو وحلفائه في الغرب على الصعيد الإستراتيجي وخاصةً الاقتصادي في مجال الطاقة. وكذا سجَّلت تلك الحرب قدرة وكفاءة العرب في إدارة معارك تحرير الأراضي المحتلة؛ مقارنةً بما جرى في حربي 56 و67.

وأيًّا كانت النتائج الكلية لمعارك أكتوبر؛ فقد شهدت تلك الحرب تحولاً في الأوضاع العربية من الدفاع والهزيمة إلى الهجوم والانتصار. وقد أنتجت جلاء القوات الصهيونية عن الأرض المحتلة عام 67، وفق اتفاقيات -كامب ديفيد ووادي عربة- وفتح الطريق أمام توقيع اتفاقيات أوسلو، فيما ظلت الجولان السورية وحدها محتلة.

وخلال تلك المرحلة وما تلاها، كانت تطورات أخرى قد بدأت في اتجاه آخر، أصبح هو المحتوى الإستراتيجي للصراع فيما بعد، وأوصلنا إلى طوفان الأقصى. لقد شهدت تلك المرحلة بداية حالة اشتباك فلسطينية صهيونية انطلاقًا من قواعد في الأراضي العربية لدول الطوق.

كانت قواعد المقاومة ونشاطها قد انطلق من الأردن، لكن جرت احتكاكات خطرة بين المقاومة والدولة المضيفة انتهت إلى خروج المقاومة إلى لبنان. وهناك جرت معارك بين المقاومة وجيش الاحتلال على الأرض اللبنانية، استمرت عدة سنوات، لكنها انتهت إلى خروج المقاومة من لبنان وتوجُّه قيادة منظمة التحرير إلى تونس، بما أحدث فراغًا خطيرًا وفجوةً في النضال الفلسطيني.

هنا تحرَّك الطرف الأصيل ليُعيد تحديد اتجاه بوصلة الصراع الفلسطيني.

تحرك الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة متخطيًا ما جرى في الساحات الخارجية واتفاقيات أوسلو وسلطتها، وظهرت مقاومة شعبية وفصائل منظمة عسكريًّا، لكن من نمط جديد، أعاد القضية إلى جذورها العقائدية.

لقد ظهرت تنظيمات فلسطينية إسلامية الرؤية بما أعاد تشكيل الرؤية حول طبيعة الصراع عقائديًّا وإستراتيجيًّا. وكان أن أُجبرت قوات الاحتلال الصهيوني على الهروب من غزة في عام 2005م. كما جرت انتفاضات شعبية فلسطينية استمرت كل واحدة منها لعدة شهور، وخلالها تجسَّدت حالة وحدة الشعب الفلسطيني بين غزة والضفة، وفي ما يُوصَف بأراضي عام 48.

لقد قامت خطة شارون لفك الارتباط في عام 2005م، على الانسحاب من غزة مع الاستمرار في حصارها لتُصْبح كيانًا متآكلاً من داخله ومضطربًا ومتقاتلاً بين مكوناته، وعلى توجيه حملات عسكرية تأديبية وإجهاضية بالطائرات والمدفعية لها بين حين وآخر، كما وجَّهت الجهد الصهيوني نحو تهويد الأقصى وقضم أراضي الضفة الغربية للوصول إلى طَرْد سكانها باتجاه الأردن.

لكنَّ الأمور لم تَجْر، كما أراد شارون وخطَّط. لقد تأصلت المقاومة في غزة، وتحوَّلت غزة رويدًا رويدًا من موقع المُسانِد للضفة والمُحافِظ على جذوة المقاومة فيها إلى نقطة انطلاق لإرباك الكيان الصهيوني وإثارة الاضطراب في داخله، عبر صواريخها التي بدأت من قدرة لا تتعدَّى 3 كيلو مترات -وبالكاد تصل لمستوطنات محيط غزة- لتصبح المقاومة قادرة على موازنة الضغوط مع الكيان الصهيوني، وهو ما ثبت في حرب عام 2014م. تلك الحرب كانت بداية حدوث التغيير، الذي تجلَّى بوضوح في معركة سيف القدس التي جرت في عام 2021م، التي شهدت قيام المقاومة بشنّ حرب هجومية بالصواريخ -وعبر الإنفاق المتمددة إلى محيط غزة- وكانت المرة الأولى في التاريخ الفلسطيني، التي انطلقت فيها معركة هجومية من أرض فلسطينية باتجاه أرض فلسطينية محتلة.

هنا تأكد استمرار قدرة المقاومة على التطور بعد أن أثبتت قدرتها على الاستمرار. كما تأكد أن تثبيت المقاومة لقدراتها وتطورها صار قادرًا على منع العدو من التقدم وتنفيذ اقتحام بري أو إعادة احتلال قطاع غزة. وهو ما منح المقاومة الفرصة لمراكمة قوتها وتطوير كفاءتها التسليحية وتطوير كفاءة الكادر الفلسطيني.

طوفان الأقصى..  معركة من طراز آخر

كان الجميع متأكدًا من تطوير المقاومة لقوتها وقدرتها، لكن لا أحد كان يتصور أن يكون تطورها -وضعف الكيان الصهيوني- قد بلغ هذا المدى الذي ظهر في معركة طوفان الأقصى. لقد فاجأت المقاومة العدو والصديق بالمدى الذي وصلت إليه قدرتها على التخطيط والقيادة وما صارت تتمتع به من قدرات عسكرية. حملت معركة طوفان الأقصى ملامح شمولية الاختلاف.

لقد بدأت العمليات بقرار المقاومة بشنّ هجوم شامل على الكيان الصهيوني، بريًّا وجويًّا وبحريًّا. لقد تمكنت المقاومة من هزيمة القوات الصهيونية في محيط غزة، والسيطرة على العديد من القواعد، وأخذ قادة وجنود أسرى، فضلاً عن المعدات التي دمَّرت منها المقاومة ما دمرت، واغتنمت منها ما يفيدها.

كما تمكنت المقاومة من دخول المستعمرات التي تُطوِّق قطاع غزة، وتمثل خطوط هجوم عسكرية على القطاع، وهي مستوطنات تنتشر على عمق 10 كيلو مترات، بما يعني سيطرة المقاومة على مساحة تبلغ أكثر من 600 كيلو متر في محيط غزة. وكاد توغل المقاومة أن يقسم الكيان إلى قسمين عبر وصول المقاومين إلى الخليل في جنوب الضفة الغربية.

لقد أصبحت تلك المنطقة في وضع المُحرَّرة، حتى بعد انسحابها منها؛ إذ جرى إخلاء سكان المستعمرات، ولن يعودوا إليها ما بقيت المقاومة؛ إذ انتهت مقولة «العيش في أيّ مكان؛ حيث الجيش الصهيوني قادر على توفير الحماية في كل مكان». وكان لافتًا أن شملت خطة العمليات خداعًا وتمويهًا مكَّن المقاومة من توجيه ضربة حاسمة للأجهزة الأمنية بمختلف أشكالها ومباغتتها، بل حتى من السيطرة على مقراتها في محيط غزة.

وكان لافتًا أيضًا، أن بدأت العمليات برَشْقة صاروخية بلغت نحو ثلاثة آلاف وخمسمائة صاروخ جرى تحت صدمتها تعطيل وسائل الدفاع الصهيونية ضد الصواريخ واجتياح السور الذي يحيط بغزة مدعومًا بأجهزة إلكترونية متطورة للغاية. كان عبور هذا السور الذي تكلف أكثر من مليار دولار وتمدد لمسافة 65 كيلو مترًا، إعلانًا بانهيار نظريات القدرة العسكرية والأمنية على حماية الكيان وتجمعاته السكانية.

وقد تمكنت المقاومة من قتل أعداد غير مسبوقة من القادة والجنود الصهاينة في أيّ قتال فلسطيني-صهيوني، ومن أَسْر أعداد غير مسبوقة أيضًا. وهو ما يفتح طريق الحرية أمام آلاف الفلسطينيين الأسرى في سجون الاحتلال.

انقلاب إستراتيجي

شكَّلت معركة طوفان الأقصى انقلابًا حضاريًّا؛ إذ هي المرة الأولى التي يَحْسم فيها الفلسطيني العربي المسلم تفوُّقه على الغربي أمام العالم أجمع. وهو ما تجسَّد في المعرفة التكنولوجية والتفوق على ما يمتلكه الجيش الصهيوني، وفي رسم الخطط الإستراتيجية بكافة مكوناتها العلمية، بقدر ما تجسَّد في التعامل الأخلاقي مع الأطفال والنساء والأسرى خلال دخول المستعمرات والقواعد الصهيونية وبعد الأَسْر وخلاله.

وكان لافتًا أن توقَّعت المقاومة -وذلك مَعْلَم مُهِمّ في رَسْم الإستراتيجيات علميًّا- أنها ستتعرض لحملة تشهير واتهام بالإرهاب وعدم احترام قوانين الحروب، فجهَّزت لما هو قادم منذ البداية. وحين بدأت محاولات البناء على الصورة التي عمل الغرب عليها لاتهام المسلمين بالإرهاب، هاجمت المقاومة بما أعدّته من فيديوهات وصُوَر لكيفية تعاملها مع الأطفال والنساء والأسرى بما حقَّق نصرًا مُباغتًا أفشل محاولات شيطانة المقاومة ووصمها بالإرهاب، وأظهر أعداء المقامة بمظهر الإرهاب، بل حتى الفاشية والنازية. وهو نَصْر أنهى السطوة الصهيونية على الرأي العالم العالمي، بل حتى في أعتى الدول مساندة للكيان الصهيوني وجرائمه. لقد شهدت دول العالم أجمع تحولًا نحو مساندة الشعب الفلسطيني.

لقد شكَّل طوفان الأقصى انقلابًا إستراتيجيًّا في توازنات القوى على الأرض الفلسطينية. وشكَّلت العملية انقلابًا في أوضاع الهجوم والدفاع. وأثبتت قدرة المقاومة المنطلقة من غزة على تحرير أراضي محيطها. وأثبتت أن كل الحصار والتكنولوجيا التي يتمتع بها الكيان لا تستطيع الصمود أمام الإرادة. فغزة المحاصَرة والتي تعيش تحت احتلال سمائها ومياهها وأسلاك كهربائها وخطوط هواتف كل مواطنيها نجحت في التخطيط والتدريب والإعداد والهجوم في سرية كاملة.

غزة المُحاصَرة فاجأت كل الأجهزة الأمنية والعسكرية الصهيونية بهجوم مُباغِت شكَّل صدمة تاريخية كاملة الملامح. وهنا قال الصهاينة: إنهم عادوا إلى الحالة التي كانوا عليها في عام 48.

ولذا، حضر الغرب بكل قوّته العسكرية والاقتصادية والإعلامية لمساندة الكيان الصهيوني. وهو حضور أكّد مُجدَّدًا أن هذا الكيان هو صناعة غربية كاملة، والأهم أنه أعاد القضية الفلسطينية إلى جذورها وأصولها، وأنهى كل محاولات التحريف والتزييف التي تواصلت لنحو 50 عامًا؛ لطمس الطبيعة الحقيقية للصراع.

أعلى