وإن تحقيق نَصْر مذهل كالذي تحقَّق في 7 أكتوبر الماضي، سيُعيد «إسرائيل» إلى مربع آخر، تنهمك فيه في مناقشة أفكار حول بقائها أو زوالها، قدراتها على فرض أجندتها أو لا،
لم تبدأ قصة «طوفان الأقصى» من يوم 7 أكتوبر، حين شاهَد العالَم للمرة الأولى منذ العام 1948م عملية «اجتياح» أو «غزو» حقيقية للمناطق التي أعلنها الصهاينة دولةً لهم، وهي المرة الأولى التي يَسمع فيها العالم عن توغُّل داخل أراضي 48 لمسافة جاوزت في عُمْقها ما جاوزه العرب آنفًا في حربهم الأبرز قبل خمسين عامًا في عُمق أرضهم المحتلة؛ فالقصة تبدأ من احتلال استمر لـ75 سنة، أذاق فيه الصهاينةُ، الفلسطينيين والعرب ما أذاقوه، ويبدأ من سلسلة إساءات للمسجد الأقصى المبارك، بدأت بالسيطرة عليه ثم حرقه، ثم العديد من علميات التدنيس، والتهويد، كادت أن تصل إلى نهايتها؛ فالطوفان مدفوع بملفات الأقصى الذي أوشكت خطة تهويده على الانتهاء، والأسرى الذين تزدحم بهم السجون «الإسرائيلية»، والاستيلاء الممنهج على الأراضي، وسرطان «المستوطنات» المتنامي.. إلى غير ذلك مما يُبرِّر الطوفان وغيره.
ومِن ثَمَّ؛ فلا يكاد مُنصِف يُعارض مشروعية المقاومة، ولا في ضرورة إقدامها على طوفان، وألف طوفان، بَيْد أنّ الجدل قد صار حول هذا الطوفان، أكان ضروريًّا الآن بهذا العنفوان، في خضم الضعف الإسلامي الشديد الذي يُنضب أيّ مسعًى لمساندة الحق الفلسطيني والإسلامي؟ أكان لازمًا في ظل تلك الحكومة الأشد تطرفًا في «إسرائيل»؟ أكان مُحتّمًا، ومشروع التهجير على طاولة صُنّاع القرار «الإسرائيلي»، ينتظر اللحظة المناسبة للشروع في تنفيذه، وقد أهدتها لها مجموعات الكوماندوز الفلسطينية التي اقتحمت نحو 55 موقعًا عسكريًّا ومغتصبة صهيونية في غلاف غزة، وكسرت «كبرياء إسرائيل» تمامًا، وألجأت أيّ رئيس حكومة «إسرائيلي» لها مهما كانت درجة تطرفه أو «اعتداله» إلى تنفيذ انتقام غير مسبوق، يحتشد الجمهور الصهيوني كله خلف ظهره، ويمنحه الغرب، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية، تفويضًا «على بياض» بالقتل والتدمير والتهجير؟
ثم ألم يحسب صُنّاع القرار المقاوم مغبّات هجوم كاسح كهذا، مرّغ أنف الصهاينة وأشياعهم في الوحل، من ضحايا مدنيين في غزة لا يمكن الدفاع عنهم بأيّ حالٍ من الأحوال، طالما أن أطنانًا من القنابل الأمريكية الثقيلة تمطرهم صباح مساء، فتُدمّر مربعات سكانية كاملة، وتستهدف مستشفيات ومساجد ومساكن، ومن تهجير محتمل إذا صار الوضع لا يُحتمل؟
تلك الأسئلة، لا ترهق الطرف الآخر كثيرًا في مناقشتها؛ ففي تقديرهم أن خطة التهجير ما دامت هكذا جاهزة، والإعداد لها يتم على قدم وساق، والملفات الأخرى، من تهويد الأقصى، وإغراق الأراضي الفلسطينية (67) خصوصًا في القدس وحولها بالمستوطنات، وتجمّد ملف الأسرى.. إلخ، تجعل من إبطاء رد الفعل الفلسطيني انتحارًا بطيئًا، واستسلامًا مُذلًا لمخططات تُنفّذ تدريجيًّا، وأن جوهر الحرب هو المباغتة، وجوهر السياسة هو قلب طاولات الأعداء، وأن تنفيذ عملية كاسحة كهذه مهما كانت مآلاتها أفضل من انتظار الذبح المتدرّج، وهو مُفْضٍ إلى تحقيق جملة من الأهداف والمكاسب، ومنها إبطال مفعول خطة التهجير نفسها حين تُفرَض المعركة، والطرف الآخر ليس في جهوزية كاملة لتنفيذها، وفي ظل تكتيك مقاوم يمكنه إرغام الصهاينة في الأخير على قبول التفاوض على أرضية جديدة، يملك فيها الفلسطينيون ورقة تضم أكثر من مائتي أسير «إسرائيلي»، بينهم قادة كبار في الجيش «الإسرائيلي»، وهي ورقة لا غرو في كونها ثمينة لن تتوفر في أيدي الفصائل الفلسطينية أبدًا في غير هذا الظرف.
وإن تحقيق نَصْر مذهل كالذي تحقَّق في 7 أكتوبر الماضي، سيُعيد «إسرائيل» إلى مربع آخر، تنهمك فيه في مناقشة أفكار حول بقائها أو زوالها، قدراتها على فرض أجندتها أو لا، دورها الوظيفي كخنجر في ظهر المسلمين والعرب، أو كيانٍ سيظل مرهونًا بالحاجة إلى حبل من الأمريكيين والأوروبيين إلى الأبد!
إننا إنْ جرّدنا ما حصل في 7 أكتوبر عمّا تلاه من تدمير مناطق شاسعة من غزة، وقتل وجرح عشرات الآلاف من أبنائها، لوجدناه نصرًا أدَّى إلى: تفكيك قوات نُخبة غلاف غزة، وإلحاق العار بالجيش «الإسرائيلي»، ودقّ مسمار في نعش مشروع الدولة اليهودية، وتشجيع الهجرة العكسية من فلسطين المحتلة، ونَسْف بعض المشاريع الصهيونية في المنطقة، وإكساب اليهود الأرثوذكس المناوئين لقيام «دولة إسرائيل» جماهيرية أكبر بين يهود العالم، ومنح الفلسطينيين وضعًا أفضل في مفاوضات القدس، والأسرى، وربما حلّ الدولة الذي لا تسعى إليه حماس لأسباب عديدة.
بَيْد أن العين لا بد أن ترى المشهدين -العملية، ورد الفعل القاسي عليها- معًا، فترى فيهما المكاسب والخسائر معًا، وهذا بالفعل لم يحصل بعد؛ فجرد الحساب مُبكّر، والأحداث لم تبُح بكل أسرارها بعدُ. لكن حسبنا أن نرصد ونبني على ما حصل حتى الآن، وأن نحاول أن نجد تفسيرًا لبعض ما يجري.
منذ البداية، صار من الطبيعي استبعاد فرضية الاستدراج «الإسرائيلي» للهجوم؛ لأنها تبدو خيالية ومجافية كثيرًا للواقع؛ فمُحال أن تطلق «إسرائيل» النار على قدمها بالسماح بحصول هذه العملية رجاءَ اتخاذها ذريعة لعملية تهجير واسعة قد لا تنجح في تنفيذها، كذلك يبدو مُستبعَدًا وقوع الفصائل الفلسطينية الرئيسة في غزة في شراك الإيرانيين بتنفيذ عملية بهذه الضخامة دون احتراز منهم لردّات الفعل، واعتمادهم كليًّا على مساندة إيرانية لم تكد تحصل في السابق من الجهة العسكرية المباشرة المحضة، وقد تكون إيران مُتورّطة في تشجيع حماس على تنفيذ هذا الاجتياح الفريد، لكن يصعب أن يكون هذا القرار قد تم اتخاذه دونما إدراك لمغبّاته، والتي ستقع على الغزاويين بالأصل؛ فهم وحدهم مَن سيدفعون ثمن هذا الاجتياح.
مُحال أيضًا أن يفترض أنَّ هذا الاجتياح كان ضمن خطة تحرير؛ فهي مَحْض هجوم خاطف يرنو إلى تدمير قوات النخبة، واقتناص أسرى، وإرعاب المغتصبين، وحملهم على المغادرة أو التفكير دومًا بالهجرة من غلاف غزة. ومن هنا؛ فغالب الظن أن الاجتياح كان محاولة لإجهاض مُخطَّط ما أو استباق حملة ما، أو فرضًا لواقع جديد يحمل على التفاوض على أرضية جديدة؛ أي أن الاجتياح كان لوقف مشروع التهجير القسري الذي لم تغب الاستعدادات «الإسرائيلية» والأمريكية، وغيرهما، عن استخبارات حماس، أو أنه لوقف الموت البطيء للقضية الفلسطينية التي لم تراوح مكانها لا سلمًا ولا حربًا منذ فترة طويلة؛ فيما تتقدم «إسرائيل» لتبسط نفوذها ليس على الداخل الفلسطيني وحده، وإنما على المحيط العربي والإقليمي أيضًا.
على الجانب الآخر، حين وقع الاجتياح كان مخطط تهجير الفلسطينيين من غزة، وكذلك الضفة الغربية قد اقترب من النضوج، ليس فحسب بسبب ما باح به كبار المسؤولين الأمريكيين، و«الإسرائيليين»، وكذلك النخبة المؤثرة في وسائل الإعلام التقليدية والحديثة من «الإسرائيليين» الذين حثُّوا مصر على قبول مشروع التهجير، وإنما لأن «إسرائيل» وحلفاءها قد مضوا في طريق التهجير هذا بالفعل، فما أعلنه الجيش «الإسرائيلي» وناطقوه مرارًا عن حثّ أهالي غزة على إخلاء شمال غزة والتوجه إلى جنوبها «الآمن»!، وما يظهر من إصرار «إسرائيل» على تدمير المستشفيات، ومنع دخول الوقود، والحد من كميات المواد الإغاثية التي تصل لقطاع غزة، وتدمير أكثر من ربع منازل غزة على الأقل، تنفيذًا لما خرج به عضو الكنيست عميت هاليفي، في بداية العدوان، ببرنامج منظّم حول كيفية تصفية الوجود الفلسطيني، مقاومة وحاضنة شعبية، في قطاع غزة، فقال: «لن يتم دفع ثمن باهظ إلا إذا انتظرنا ولم نوجّه ضربة ساحقة لحماس، ضربة تقتل عشرة آلاف من شعبها. وتلجئ 400 ألف لاجئ للهروب عبر معبر رفح، حينئذ لن يكون هناك خوف من مذبحة جماعية بين جنودنا».
مضيفًا: «يجب أن تكون أهداف الحرب ذات أربعة أبعاد:
أولًا: التحرير الكامل لقطاع غزة من احتلال حماس الغاشم، مع الانهيار الكامل والنهائي لحكمها وعودة السيطرة العسكرية والمدنية إلى دولة إسرائيل.
ثانيًا: القضاء على عشرات الآلاف من مقاتلي حماس، أو طردهم من قطاع غزة، والقضاء على كافة البنى التحتية للمنظمة.
ثالثًا: توجيه ضربة نفسية حاسمة من خلال القطع الفوري وقصف كافة البنى التحتية حتى استسلامها من كهرباء ووقود ومعدات، والمياه والاتصالات والإنترنت والطرق.
رابعًا: فتح أبواب قطاع غزة على الحدود المصرية. ويجب فتح أبواب الهجرة إلى مصر والبحر. اسمح للناس بالخروج ووَضِّح: من اختار الخروج فقد خرج. ومن بقي فالدم في رأسه. أنا وأصدقائي لن نتفق على أقل من هذا».
هذا لم يكن فكرة قد طرأت على أذهان الساسة «الإسرائيليين» يوم وقع الاجتياح القسامي لغلاف غزة؛ فالإعداد له قائم منذ سنوات، والحديث عن التهجير قديم، ويتوسل بفراغ شمال سيناء من السكان، وأنه يمكن أن يُعاد المبدأ الصهيوني الزائف مجددًا «شعب بلا أرض، لأرض بلا شعب»، كمرحلة أولية، ثم يُصار إلى ما هو أبعد من ذلك: إعادة تفريغ سيناء لتستوعب اجتياحًا قادمًا من «إسرائيل» نفسها لاعتبار هذه الأرض هي الأكثر قداسة لدى اليهود في العالم، وتضم البقعة المباركة التي كلَّم الله موسى -عليه السلام- فيها تكليمًا. تأكيدًا لما نصت عليه خطة معهد (ميسغاف) «الإسرائيلي» لبحوث الأمن القومي وللاستراتيجية الصهيونية، الذي اقترح حافزًا لمصر ينتشلها من أزمتها الاقتصادية يراوح ما بين 20-30 مليار دولار، وحل مشكلة الغاز المصرية، (وربما حل مشكلة المياه أيضًا)، في مقابل تسكين أهالي غزة في مدينتي 6 أكتوبر، والعاشر من رمضان، المصريتين؛ لوجود مئات الآلاف من الوحدات السكنية الفارغة فيهما، ضمن 10 ملايين شقة سكنية لا يسكنها أحد في مصر الآن بسبب طفرة في البناء في سنين مضت. وهي الخطة التي تُظهر مصر معارضةً رسميةً لها، عبر تصريحات على أعلى مستوياتها، ونظيرتها في الأردن التي تحلم «إسرائيل» بترحيل أهالي الضفة إليها من بعد غزة، والتي أعلن الأردن من جهته أيضًا أنها ستكون بمثابة إعلان حرب.
الاستراتيجيتان «الإسرائيلية» والفلسطينية:
نستطيع القول: إن غاية «الإسرائيليين» قبل الاجتياح وبعده، كان تهجير أهل غزة منها كليًّا، ولأسباب تتعلق بالمقاومة والمعارضة الإقليمية والدولية، تنزّلت الخطة إلى التهجير الجزئي المرحلي لما بين 50-400 ألف من سكان غزة الحاليين، وفقًا لأدبيات القوى «الإسرائيلية» التي كشف عنها الإعلام العبري مرارًا.
ثم إن الحرب الدائرة في غزة، يمكنها أن تقلل هذا الطموح الصهيوني، وتنزل به إلى مستوى نزع سلاح القسام والأجنحة العسكرية الأخرى في غزة، في مقابل تنفيذ صفقة، وبدأت الاقتراحات من بعد تتنوع ما بين السماح لقادة حماس بمغادرة القطاع مع نزع السلاح، على شاكلة ما حصل في جنوب لبنان (حين تم إخراج ياسر عرفات من جنوب لبنان في 30 أغسطس 1982م وقادته وقواته سالمين في إطار صفقة آلت فيها الأوضاع إلى تأمين حدود فلسطين الشمالية بجيش لحد الموالي للكيان الصهيوني، ثم «حزب الله» الذي عمل على تأمين حدود ما يُسمَّى بإسرائيل، الشمالية، منذ 17 عامًا)، وما بين تسليم القطاع للقيادي الفلسطيني القريب من «إسرائيل»، محمد دحلان، وما بين الاكتفاء بالتدمير الكبير لغزة، مع عقد صفقة لتبادل الأسرى، واجترار مرارة الهزيمة في نهاية المطاف.
والحقيقة، أن المتتبّع لما يرشح عن الحساسيات السياسية والإعلامية والبحثية داخل الكيان الصهيوني، لا يخطئه حالة الحيرة في اتخاذ أيّ سبيل من هذه السيناريوهات، والتي تتلخص في:
1- قصف شديد يتبعه تفاوض
نتيجته المتوقعة: تحقيق بعض أهداف الفصائل الفلسطينية الحيوية، وانهيار حكومة نتنياهو، وتراجع اليمين الصهيوني مؤقتًا (ليس دائمًا؛ لأن الكفة السكانية تميل لصالحه؛ نظرًا لتراجع مواليد العلمانيين وازديادها لدى الحريديم المتدينين)، وازدياد الهجرة العكسية، وزيادة تفكك بُنى الكيان الصهيوني، وانزلاقه إلى طريق الزوال. وزيادة شعبية حركة حماس وتسيدها المشهد الفلسطيني.
2- قصف شديد يتبعه اجتياح بري واسع النطاق
نتيجته المتوقعة: إحداث نكاية في الطرفين، وتحقيق بعض الأهداف التكتيكية الصهيونية، وانهيار الحكومة الصهيونية (مع بعض النتائج السابقة).
3- إبادة جماعية تُفضي إلى تهجير:
إما جزئي أو كليّ: وفي الحالين سيُعدّ ذلك بمثابة نكبة للمسلمين، ولَجْم المقاومة الفلسطينية تمامًا.
ولكن هذا السيناريو بات يصطدم بمعارضة جماهيرية واسعة النطاق في الغرب والعالم الإسلامي، حتى إن الاقتصار على سياسة التجويع والإفشال الطبي والمعيشي قد صارت أيضًا صعبة بالنسبة لـ«إسرائيل».
إذن لنَقُل: إن الهدف الاستراتيجي كان ولم يزل، من قبل الاجتياح، ومن بعده، هو تهجير أهل غزة، أو نزع سلاح المقاومة بأيّ شكل كان.
وفي الطريق يمكن الاكتفاء بتحقيق أهداف مرحلية، كعقد صفقة، وتأمين هدنة، ووجود قوات عربية فاصلة، وذلك كله من بعد قيام القسام وأهل غزة بدفع الثمن باهظًا للحيلولة دون تكرار عمليات كهذه مستقبلًا، وهذا بدَوْره لن يكون كافيًا لـ«إسرائيل»، لكنها قد تجد نفسها مضطرة إلى تنفيذه إن استمر صمود الغزاويين، وتزايدت الضغوط الداخلية والخارجية عليها.
ولْنَقْل أيضًا وببساطة: إن الهدف الاستراتيجي لحماس الآن هو إفشال مخطط التهجير الذي يُعدّ له منذ سنوات، ودونه هدف مرحلي بسقف عالٍ هو تنفيذ صفقة مذلة لـ«الإسرائيليين»، تشمل تبييض السجون، والحديث عن مستقبل الأقصى، وتأمين ظروف أفضل لأهل غزة بعد ضمان إعادة إعمارها، وإفراغ غلاف غزة من المغتصبات، لكنها هي أيضًا ستسعى إلى تحقيق أهداف مرحلية تالية، قد تكتفي معها بتنفيذ الشق المتعلق بالأسرى وحده، وإعادة الهدوء.
وسيستمر الطرفان في عض الأصابع، وربما الأكباد في تلك المرحلة، والتجاسر على الآلام؛ طمعًا في تحقيق نصر مرحلي، يبني أيّ منهما عليه.
وقد التحف الطرف «الإسرائيلي» بجملة من الحوافز للمضي قدمًا في تنفيذ مخططات التهجير والتدمير والإلغاء للقضية الفلسطينية برُمّتها؛ أولها الدعم الأمريكي غير المحدود، والأجواء التي نجح في إظهارها للعالم مُشابِهَة للحالة التي أظهرتها واشنطن في أعقاب أحداث 11 سبتمبر، وثانيها المساندة الأوروبية غير المسبوقة، وثالثها الضعف العربي بل والتآمر أحيانًا من بعض الدول، والآلة الإعلامية الضخمة المؤثرة في الوعي الجمعي العالمي، لتقبُّل تنفيذ جرائم محدودة.
لكن هذا الطرف قد وَاجَه معوقات شديدة متمثلة فيما يلي:
- صمود الشعب الغزاوي، ووعيه بأن أيّ تهجير سيكون نهائيًّا من جهة، ومن جهة أخرى سيُصفِّي القضية الفلسطينية تمامًا، وسيُمهِّد لتهجيرٍ مماثلٍ في الضفة الغربية، التي لا تتوفر على أدوات مقاومة جيدة كالتي تملكها مقاومة غزة، كما أن الغزاويين يدركون أنهم إن هاجروا فسيفقدوا جميع مُكتسباتهم في غزة، وأولها الحرية والاستقلال.
- استحكامات دفاعية قوية، وروح قتالية عالية تتوفر عند المقاومين، الذين لم يعودوا يفتقرون إلى السلاح أو الأعداد، وهي استحكامات نجحت كثيرًا في صدّ التوغلات «الإسرائيلية»، وأسقطت العشرات من الجنود «الإسرائيليين» صرعى في جنبات غزة في أيام التوغل الأولى.
- انهيار القوة والعقيدة القتالية لدى الصهاينة، لا سيما بعد أن اصطيدت قوات «النخبة» في غلاف غزة كالجرذان، واضطربت تلك القوات تمامًا، وأُنِيطَ بـ«قوات المشاة الأقل تدريبًا وخبرة قتالية» -وفقًا المحلل العسكري في صحيفة يديعوت أحرونوت يوسي يهوشواع- أن تندفع لتتلقى أولى ضربات المقاومة في شمال غزة.
- إدراك قيادة الجيش ما قد آلت إليه العلاقات بين قادة الجيش والأجهزة الأمنية المعاونة، والاستخبارية بعد أزمة «الإصلاحات القضائية» المتفاقمة في داخل الكيان، والتي لم يتم حلّها حتى الآن، وتسبَّبت في إيجاد شرخ عميق داخل الجيش، ورفضًا متناميًا بين قطاعاته، لا سيما في قواته الجوية، لسياسة رئيس الوزراء، والتي أمست تُواجه مُعارَضة في كلّ سبيل، فقد تعرَّض للشتم في الجبهة الجنوبية عند زيارته الوحيدة لها، ويتعرض لنقدٍ عنيفٍ في الإعلام الصهيوني الذي خالف عادته بتأجيل التحقيق واللوم إلى ما بعد المعارك، والتوحد أثناءها، وتعالت الأصوات الداعية له بالاستقالة حتى في قلب تلك الأزمة، لا سيما أن البَوْن اتَّسع كثيرًا بين تلك الحكومة، واليسار المُعارِض الذي بات يُحمِّل أكثر حكومة تطرفًا أكبر هزيمة مُذِلَّة للكيان الصهيوني.
- الضربات الصاروخية الناجحة في القدس وتل أبيب وعسقلان، وغيرها، والتي هزَّت ثقة الصهاينة كثيرًا في قيادتهم. تلك القيادة التي فرَّت إلى الملاجئ مرات عديدة، منها تلك الفاضحة في عنفوان تهديد الكنيست بمحو حماس، سواء من نتنياهو أو قادة اليمين، ومنها تلك التي جعلت وزير خارجية الولايات المتحدة بلينكن يفرّ هو الآخر بصحبة نتنياهو، وعدد من المسؤولين الغربيين والصهاينة.
- ملف الأسرى، الذي يزداد عدد محتجّي الكيان على سوء معالجة قيادته له، وأهالي الأسرى، يُحمِّلون الجيش الذي يقصف القطاع بعشوائية، مسؤولية حياة الأسرى، الذين تعلن القسام كل مدة عن تسبّب القصف في حَصْد أرواح عدد منهم.
- الرفض الجماهيري المتزايد في العالم، والذي لم تنجح الآلة الصهيونية الإعلامية العالمية في تقويضه، عبر نشرها الأكاذيب، والتي روّجت على نطاق واسع من قبل جهات سياسية وإعلامية عديدة، بدءًا من الرئيس الأمريكي شاهد الزور على قطع رؤوس أطفال الصهاينة، وحتى أقل ذبابة إلكترونية صهيونية تبث شائعاتها وتخرُّصاتها على المقاومة.
- وقد ساهم نقل صور المذابح الصهيونية بحق أطفال ونساء غزة إلى العالم إلى استنهاض هِمَم مجموعات حقوقية، ويسارية للتظاهر في قلب أوروبا وأمريكا الجنوبية، علاوةً على تبنّي مشاهير كثيرين للمطالبات بإنقاذ المدنيين في غزة، ووقف الحصار المضروب على القطاع. كلّ ذلك مثَّل ضغطًا على الأمريكيين والأوروبيين.
* * *
ثمَّة فارق واضح فيما تقدّم، ما بين الحالة الأمريكية التي كانت تملك تحشيدًا مبررًا لجموع الغربيين في أعقاب أحداث سبتمبر، وقوة مهولة تمثلت في تحالف دوليّ عريض يُمكنها تغيير المعادلة في حينها في العراق وأفغانستان، وبين الحالة «الإسرائيلية» التي لا تملك مثل هذا التحشيد، بل على العكس فإن الزمان لا يجري في صالحها، فكلما ازدادت إجرامًا تزايدت الضغوط عليها في العالم، وهي لا تملك أيضًا القوة البرية القاهرة التي يمكنها حَسْم المعركة دون ضجيج كبير.
ولعل من المفيد أن نستعين بخلاصة دراسة قيّمة قامت بها «مكانة 360»[1] بالتعاون مع «معهد السياسة والمجتمع»[2]؛ فقد لاحظت تغييرًا هائلًا في المزاج الشعبي العالمي استطاعت فيه الروايات الفلسطينية أن تعادل الروايات «الإسرائيلية» والغربية عن الأحداث، بعد تفجير المستشفى المعمداني، ثم استمر هذا إلى التفوق الفلسطيني في سائر وسائل التواصل المتاحة، لا سيما في مواقع إكس وتيك توك وإنستغرام، بعد أن ضيَّقت مجموعة ميتا المجال تمامًا على الروايات الفلسطينية الصحيحة، ولاحظت تحولًا هائلًا في إدانة السلوك الرسمي في كل من «إسرائيل» والولايات المتحدة وأوروبا مِن قِبَل جموع من الساسة والأكاديميين والحقوقيين والطلاب والنقابات المهنية والعمالية ونحوها، ما انعكس في مظاهرات واستقالات واحتجاجات متنوعة في العالم الغربي؛ احتجاجًا على المجازر «الإسرائيلية».
هذا، وإن كان ذا تأثير محدود؛ إلا أنه يتعاظم يومًا بعد يوم، ويُكبِّل شيئًا فشيئًا اليد الصهيونية المنفلتة من كل قيمة أو قانون..
إننا بصدد معركة مصيرية في غاية الأهمية على السياسات المحلية والإقليمية والدولية، لا بل حتى على بناء القناعات، وتحوُّلات فكرية هائلة في العالمين الإسلامي والغربي..
إننا نشهد حدثًا جللًا لم تكتمل صورته بعدُ.. وحين تكتمل سيكون من المحتّم أن تفيض الأحبار تدوينًا لدروس وتحولات تاريخية لم تزل اليوم في طور الأجنة في رحم الغيب، ريثما ينجلي غبار المعركة.
[1] شركة استشارية تركز على البيانات والإستراتيجية والاتصال، مثلما يعرفها موقعها على الإنترنت.
[2] معهد بحثي أردني.