لماذا أخفق العدوان الصهيوني على غزة؟
أطلقت إسرائيل على عمليتها العسكرية ضد غزة
اسم «عمود السحاب»، وهي عبارة اصطلاحية من التوراة متعلقة بضياع اليهود في صحراء
سيناء 40 عاماً زمن سيدنا موسى، ومعناها المجازي «العقاب السماوي» في إشارة للضياع
وعدم اليقين، فيما اختارت المقاومة عبارة «حجارة السجيل» ذات الدلالات الدينية
الواضحة لدى المقاومة الفلسطينية.
وقد هدفت العملية الإسرائيلية لتحقيق عدد من
الأهداف والأغراض، أهمها:
استعادة الردع الإسرائيلي المفقود أمام المقاومة
الفلسطينية.
استهداف عدد من القادة الميدانيين للفصائل المسلحة،
وتدمير منازلهم.
تدمير قواعد إطلاق الصواريخ ومخازن السلاح
والذخيرة.
القضاء على ما يمكن من البنية العسكرية للمقاومة.
تأمين هدنة مع حماس في غزة لم يأن أوانها بعد.
إدراك إسرائيل، بما لا يقبل الشك، أن أي دولة
عربية غير جاهزة لمواجهتها، وأنها ما زالت الدولة الأقوى والأقدر في هذا المحيط
العربي الكبير رغم ثورات الربيع العربي.
وقد تسربت العديد من الخطط العسكرية
الإسرائيلية الافتراضية التي تناقش فرضيات العملية المتدحرجة، و«تغيير الوضع في
غزة»، وتتحدث على توجيه سلسلة من الضربات الجوية والبرية والبحرية ضد بنى حكومة
حماس والقيادات والمؤسسات والكوادر والمنشآت، مكثفة ومتتالية.
وقد أنبأت المواجهات التي وقعت مع المقاومين
في غزّة في الأسابيع الأخيرة، بتجربة جديدة واجهها الإسرائيليون تفتح الباب أمام
نقاش مختلف، لأنه مهما تصوروا إنجازاتهم عند أطراف القطاع، فهم يعرفون أن ما
يواجهونه اليوم لم يخطر ببالهم قبل عشر سنوات، ما يعني أن المعارك التي ستدور مع
المقاومين ستشبه «الحرب الضروس»؛ لأنهم سيقاتلون من بيت إلى بيت، يتقدمون ببطء
وحذر، كون الجنود قد يفاجأون ببيوت مفخخة، فضلاً عن إعداد المقاومين لدراجات
نارية، ومنافذ عبر جدران المنازل، لخطف جنود، ومحاولة جر الجيش لحرب شوارع.
ولذلك أخذت العملية العسكرية الجوية شكلاً
قاسياً، سريعاً جداً؛ لتقضي على البنى التحتية، وتكسر الهرمية القيادية، وتخطف
أرواح القادة السياسيين وكوادر المقاومة العسكريين، وهو ما تأمل إسرائيل منه إضافة
جرعة جديدة من الرعب ضد الفلسطينيين؛ لأنها تعتقد أن مشاهد الحشود والدبابات على
مشارف القطاع بين حين وآخر لم تكن كافية لتحقيق العرض.
المستجد المزعج لإسرائيل أنه في مثل هذه
التقدمات الميدانية لسلاح الطيران، بقي سقوط الصواريخ الفلسطينية يتوالى على
المستوطنات الإسرائيلية، بل في قلبها؛ تل أبيب وجوارها من جنوب القطاع وشرقه
وشماله، ليكتشف الإسرائيليون أن هناك فشلاً استخبارياً قد وقع!
لكن ما يخشاه الإسرائيليون عقب انتهاء هذه
الجولة الدامية، أن تستعد أجنحة المقاومة بتوفير مخزون صاروخي لديها يكفي لتحمّل
الصعاب لوقت طويل، ويُوزّع بطريقة تمنع تعرضه للتعطيل، من خلال آلية عمل بوتيرة
تحفظ سقوط الصواريخ، ومن مسافات مختلفة.
المعطيات الميدانية:
عادة ما تبدأ الحروب بمواجهات ثم تنتهي
بتدمير ومجازر. حرب إسرائيل الأخيرة على غزة جاءت من نوع مختلف، التدمير أولاً ثم
الحرب، وهذه ليست صدفة، لأن لديها استراتيجية جديدة توجه رسالة للجميع، مفادها:
إذا تعرضنا لأي هجوم فإن سياستنا في الرد هي الجنون. هذا ما يقوله الإسرائيليون عن
أنفسهم، وترجمة الجنون على الأرض هي التدمير الواسع والشامل.
فإذا تم قصف المستوطنات الجنوبية بصاروخ،
ترد إسرائيل بغارة جوية تدمر أحياء كاملة، أو سلسلة من المصانع، لعل هذا يردع الفلسطينيين
عن مهاجمتها. يريد الإسرائيليون أن تكون استراتيجية الجنون وما يرافقها من تدمير
واسع، أداة رادعة تجبر الفلسطينيين وسواهم على التفكير طويلاً قبل أن يتحركوا
ضدهم، وكأنها تريد أن تجعل من «استراتيجية الجنون»، والقصف الجوي الواسع والمدمر،
وارتكاب المجازر بسرعة فائقة ومدروسة؛ سلاحاً رادعاً آخر يؤدي ذات رسالة السلاح
النووي، وهي تعكس أيضاً حالة من الضعف تستحق المراقبة تقول بأن الجيش الإسرائيلي
لم يعد الجيش الذي لا يقهر.
وبات واضحاً أن إسرائيل تشن عمليتها ضد غزة
لتقضي على صواريخها، لكن المواجهة الأخيرة أثبتت أنه بعد أيام ثمانية من التدمير
الشامل ردت المقاومة بتجديد قصف الصواريخ، ليتبلور الدرس الأول الذي يقول بأن
إرادة القتال ما زالت صامدة، ولم تستطع المجزرة الإسرائيلية أن تقضي عليها، وبعد
يوم واحد إضافي تبلور الدرس الثاني حين أطلق المقاتلون الفلسطينيون صواريخ ذات مدى
أبعد، وشكل ذلك «هزيمة» لجنرالات استراتيجية الجنون، وبدلاً من القضاء على
الصواريخ، ها هم أمام صواريخ أبعد مدى وأشد تأثيراً.
ولعل ذلك ما دفع بضباط عسكريين كبار للقول
إن على إسرائيل أن تعلن مع بدايتها لأي عملية عسكرية في غزة، أن الأسوأ ما زال
أمامها. ومع ذلك، يكمن الخطر الأكبر في أن تنجر عقب ما قد تحققه في المرحلة الجوية
الأولى للقيام بعملية للقضاء على قدرة الفلسطينيين على إطلاق الصواريخ من غزة،
لتشويش الحياة في البلدات الإسرائيلية، لكن ذلك لن يتحقق بإطلاق النار من بعيد،
واحتلال أجزاء من القطاع؛ بسبب مدى صواريخ المقاومة، وقرب البلدات الإسرائيلية من
الحدود.
كل ذلك يعني أنه لمنع سقوط صواريخ عليها لا
بد من احتلال غزة، و«تطهيرها» من المسلحين، رغم أن الثمن السياسي والاقتصادي لهذه
الخطوة سيكون كبيراً، نتيجة لاحتلال القطاع من جديد، وتحمل مسؤوليته، علاوة على دفع
الثمن المباشر لمعركة من هذا النوع.
في المقابل، قدرت إسرائيل أن الخطر سيبقى
قائماً من امتداد العملية العسكرية لوقت أطول، بالاعتقاد أن توجيه النيران عن بعد،
والقيام بعملية برية محدودة؛ سيكون عملاً فاعلاً وحلاً كافياً يستطيع منع إطلاق
الصواريخ الفلسطينية بشكل كامل، لكن هذا لا يعني أنه لا توجد حاجة لعمليات برية
نوعية حتى يثبت لحماس أنها ستدفع الثمن الكبير، وعليها دفع الثمن بتوجيه ضربة
لقوتها الضاربة، وهي كتائب القسام.
أخيراً.. في قراءة تحليلية ختامية، يمكن
تقييم نجاح العمليّة أو فشلها من خلال مدى سلامة قادة حماس بعد الغارات الجويّة،
وسرعة تقدّم الجيش داخل غزّة أو تباطئه، وجاهزية المنظومة الدفاعيّة التي حضّرتها
المقاومة بعد القصف الجويّ، ومستوى المخزون اللوجستيّ من الصواريخ التي إذا ما
استمرّت بالانطلاق.
الدرس الأهم في هذه الحرب الإسرائيلية على غزة أن
مجموعة من المقاتلين، وحفنة من الصواريخ، لا تستطيع أن تقضي على الجيش المهاجم،
لكنها في ذات الوقت لا تتيح له فرصة تحقيق أهدافه، وحين لا يستطيع جيش جرار ذلك،
فهذه هي هزيمته.. حصل هذا في «الرصاص المصبوب» حين واجهته «بقعة الزيت» الفلسطينية
في 2008، ويحصل ثانية في «عامود السحاب» الذي تواجهه «حجارة السجيل» عام 2012!
:: مجلة البيان العدد 306 صفر 1434هـ،
ديسمبر2012م.