• - الموافق2024/11/23م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
تفتيت الأمة بين الواقع والخيال

تفتيت الأمة بين الواقع والخيال


تتعدَّد الأدبيات السياسية العربية التي تتناول المخططات الأجنبية التي ترمي إلى تفتيت دول المنطقة لدرجة باتت كأنها من المسلّمات البديهية والتي لا تحتاج إلى إثبات أو براهين، بينما يرى بعضهم أن هذا مما يتنافى مع منطق العلم ودلالاته.

والواقع فإن هناك رأيين في هذا الصدد: من يقول إن هذه المخططات واقع ابتليت به الأمة منذ أن ضعفت وتكالبت عليها الأمم.. والرأي الآخر يدّعي أن الكلام عن التقسيم ما هو إلا امتداد لنظرية المؤامرة التي أثقلت كاهل العقل العربي مفسراً بها كل كارثة تحلّ به.

وتتنوّع حجج الفريق الأول من مؤيدي مشروعات التقسيم إلى أن دلائل التقسيم ليست مشروعات خيالية، بل ثبتت بالواقع العملي؛ مثل اتفاقية سايكس بيكو التي جرت بين إنجلترا وفرنسا مطلع القرن العشرين والتي بمقتضاها تم تفتيت الدول العربية إلى دويلات صغيرة وكيانات متفرقة، ورسمت لأول مرة في تاريخ شعوب المنطقة حدوداً اصطناعية تفرقت بها القبائل وقسمت العائلات بين مصر وفلسطين مثلاً، فهناك رفح الفلسطينية ورفح المصرية، حيث قُسّم أولاد العم على جانبي الحدود، وكل الدول العربية تقريباً تشبه هذا الحال.

وفي وجهة نظر هذا الفريق ظهرت أكبر دلالة على أن مشاريع التقسيم ليست وهمية في إعلان انفصال جنوب السودان عن شماله في دولة مستقلة.

ولا يستدل هذا الفريق فقط بمشاريع التقسيم التي تحققت على أرض الواقع، إنما أيضاً بمشاريع التقسيم المنشورة في وسائل الإعلام المختلفة وتتناقلها «الميديا» ليلاً نهاراً، وأهمها:

1- مشروع برنارد لويس عام 1980:

فقد قيل إن المستشرق اليهودي الأمريكي (البريطاني الأصل) برنارد لويس، قد تقدم بمشروع لمنطقة الشرق الأوسـط بكاملها، حيث يشمل تركيا وإيران وأفغانستان والدول العربية كافة؛ إلى الكونجرس الأمريكي، وتضمّن المشروع تفتيت هذه الدول إلى مجموعة من الكانتونات والدويلات العرقية والدينية والمذهبية والطائفية، وقد أرفق بمشروعه المفصل مجموعة من الخرائط المرسومة تحت إشرافه تشمل جميع الدول العربية والإسلامية المرشحة للتفتيت.

2-  دراسة حدود الدم «Blood borders»:

والتي نشرتها مجلة القوات المسلحة الأمريكية[1] في 2006، والدراسة تتحدث عن تقسيم أفغانستان الحالية لضم جزء منها إلى إيران (الفارسية)، وتقسيم باكستان لصالح أفغانستان جديدة وبهدف إنشاء دولة بلوشستان، وتقسيم السعودية لإجراء تغييرات بتوسيع الأردن واليمن وإضافة الأجزاء الساحلية إلى الدولة العربية الشيعية، وتقسيم العراق لصالح دولة شيعية وأخرى كردية وثالثة سنية... إلخ. وتتحدث الدراسة أيضاً عن تشكيل دولة فينيقيا الكبرى بدلاً من لبنان الحالية وعن إعادة تشكيل دولة الإمارات العربية المتحدة ليذهب جزء منها إلى دولة الشيعة الكبرى مع بقاء دبي «ملعباً للأغنياء وملذاتهم». والكاتب لا يستثني من التقسيم والتغيير والتبديل للمكون السكاني والجغرافي إلا الكويت وعُمان من كل الدول العربية والإسلامية في الجزء الممتد من باكستان حتى لبنان.

لكن أخطر ما هو منشور في هذا الصدد ما ظهر مؤخراً من اعتبار أن الربيع العربي ما هو إلا ممهِّد لتقسيم جديد للدول العربية يغذيه كاتب عربي قومي شهير بأسلوبه الأدبي الذي يلهب به المشاعر قبل العقول، حيث يقول محمد حسنين هيكل في حواره مع الأهرام[2]: أكاد أرى الآن خرائط كانت معلقة على الجدران ترفع الآن وتطوى؛ لأن المشاهد اختلفت؛ فالمواقع العصية تأدبت أو يجري تأديبها، والمواقع الضائعة استعيدت أو أنها تستعاد الآن، وكل ذلك تمهيد لفصل في شرق أوسط يعاد الآن تخطيطه وترتيبه وتأمينه.

ويفصل هيكل هذا المعنى بقوله: إن ما نراه الآن ليس مجرد ربيع عربي تهب نسماته على المنطقة، وإنما هو تغيير إقليمي ودولي وسياسي يتحرك بسرعة كاسحة على جبهة عريضة ويُحدث آثاراً عميقة ومحفوفة بالمخاطر أيضاً، فالتقسيم في المرة الأولى كان تقسيماً جغرافياً وتوزيع أوطان، لكن التقسيم هذه المرة تقسيم موارد ومواقع. وبوضوح فإن ما يجري تقسيمه الآن هو أولاً النفط وفوائضه.. نفط وفوائض ليبيا بعد نفط وفوائض العراق.

وقدم هيكل نموذجاً لتطبيق اتفاقية سايكس بيكو الجديدة عملياً، وفي الوقت ذاته يضفي على كلامه هيبة وانتباهاً ومصداقية يرفقها بلغة الأرقام والإحصائيات، فيقول: نفط ليبيا جرى توزيع امتيازاته فعلاً وبنسب أذيعت على الملأ، حيث كانت 30 % لفرنسا (شركة توتال)، و20 % لبريطانيا (شركة بريتش بتروليم)، والحصة الأقل لبريطانيا لأنها أخذت أكثر في نفط العراق.. وليست أمامي الآن نسب التوزيع فيما بقي، لكن إيطاليا تطالب بحق مكتسب (شركة إيني)، ثم إن الشركات الأمريكية تلح على دخول قائمة الوارثين.. وبعد إرث الموارد هناك.

بينما يرى الفريق الآخر الذي يعد الحديث عن التقسيم ما هو إلا امتداد لفكر المؤامرة أو نظرية المؤامرة التي وجدت صداها لدى العقل العربي مستسهلاً وبديلاً عن استخدام طرائق التفكير العلمي في الوصول لحل مشكلاته، مرجعاً كل كارثة تحل به أو مصيبة تنزل عليه إلى عوامل خارجية عنه وتآمر ضده وليست مشكلات (داخلية أو خارجية أو الاثنين معاً) قائمة ينبغي التعامل معها بمنهجية وصبر على تتبع خطوات المشكلة وسيناريوهاتها، وصولاً لوضع الحلول والاختيارات والبدائل لها.

ويستدل هذا الفريق أيضاً بالواقع؛ فلبنان الذي يمثل أكثر المناطق العربية رخوة والذي تتعدد فيه الديانات والمذاهب والأعراق لتصل إلى 18 طائفة والذي خاض حرباً أهلية امتدت لما يقرب من 15 عاماً؛ لم يصل في تاريخه، سواء في الحرب أو السلم، إلى مرحلة التفكك والانهيار والتقسيم، وله حكومة تحتفظ حتى الآن بمقومات الدولة حتى إن وصفها بعضهم بالحد الأدنى.

والعراق أيضاً أنموذج واقعي للصمود أمام عواصف التفتت والتقسيم، وما زال هناك حد أدنى من الحكومة المركزية التي تمسك بزمام المناطق السنية والشيعية، حتى المناطق الكردية وإن كانت تتمتع بالحكم الذاتي إلا أنها ما زالت تدين بالولاء – حتى إن كان شكلياً – للمركز ولا تجرؤ على إعلان الانفصال.

ويقول فريق التهوين من مؤامرة التفتيت: إن التصريحات الرسمية لزعماء الغرب والعالم لا تتحدث أبداً عن إعادة رسم الحدود أو تفتيت الدول، بل إن أقصى ما تم التحدث فيه من قبل بعض الساسة الغربيين، خاصة من الولايات المتحدة الأمريكية، هو تغيير النظم التي تحكم الدول وليس جغرافيا الدول.

وحتى موضوع انفصال جنوب السودان ينظر له أنصار هذا الفريق على أن جنوب السودان ظل طوال تاريخه معزولاً إثنياً وحضارياً وتقريباً دينياً عن شماله، وأن التقسيم بات مطلباً طبيعياً لأهل الجنوب، حتى لفريق كبير داخل النخبة السياسية في شمال السودان.

ويرى هذا الفريق أن التقسيم لو حدث في دولة ما فإنه ليس بضرورة يكون نتاج مخطط خارجي، بل يمكن أن يكون لعوامل داخلية موضوعية.

وفي خضم هذين الرأيين ما الرأي الصائب في كل منهما؟

ينبغــي علينا للتـعامــل مـــع مشروعات التـقســــيم المتـــداولـة إدراك أمـــــور عـــــدة:

أولاً: الرؤية الاستراتيجية:

أهمية الرؤية الاستراتيجية أنها تعطينا التفسير الأقرب للحقيقة في فهم الأحداث، فهي رؤية تنبني على ثلاثة أركان رئيسة: العلمية والغائية والمستقبلية، فالاستراتيجية في بعض استخداماتها هي تعبير عن التوجه العام أو المسار الذي يربط بين الأهداف العامة المرتبط منها بالغايات وبين النقطة التي نقف عندها، أي هي انتقال الوحدة محل الدراسة بين واقع حالي وواقع مأمول، وكل ذلك مبني على تشخيص حقيقي للواقع يستفيد من الفرص ويعزز مواطن القوة ويحارب التهديدات ويعالج مواطن الضعف، كذلك تتوافر فيه رؤية وغاية نهائية ووضعية تميز الوحدة عن غيرها بمجموعة من الأهداف والغايات تحقق هذه الرؤية.

فدراسة الاستراتيجية تقتضي دراسة عدد من الأشياء في واقع معين في مكان معين متضمنة دراسة الذات ودراسة الطرف الآخر المواجه ودراسة الأرض أو المجال الذي يتم الصراع فيه ودراسة الظروف المحيطة بالصراع وتحديد البدائل والوسائل التي يمكن بها تحقيق الهدف المنشود والمفاضلة بين هذه البدائل واختيار البديل الأمثل للوصول إلى الأهداف.

فدراسة الاستراتيجية هي في حقيقتها تتطلب معرفة النقطة التي أنت فيها والنقطة التي تريد أن تتحرك إليها، ثم المسارات التي يمكن أن تسلكها للوصول بين النقطتين، مع إدراك المعوقات والمحفزات للوصول إلى المراد أو الهدف والبيئة التي تجري فيها هذه العناصر، مع عدم إغفال الفكر والفلسفة والنظرية التي وراء تحديد هذه العناصر.

فالرؤية الاستراتيجية تسهم في إيجاد بدائل وتطرح حلولاً في مواجهة واقع التعدد العرقي والمذهبي والديني، وتضع خططاً لمجابهة مشاريع التقسيم وترسم الأهداف الجزئية وصولاً للغاية الأكبر.

فنجد مثلاً في سورية والحرب الدائرة هناك بين أهلها وبين النظام السوري الذي تغلب عليه الصورة الطائفية، خاصة أن الداعمين له من لهم مشاريع مذهبية نجحوا جزئياً في العقد الأخير في إقامة قوس شيعي خطير، وهذه الصورة تشجع بلا شك الداعين إلى جعل الحرب تظهر كأنها بين الشيعة وأهل السنة، لكن إذا استطاع أهل السنة برؤية استراتيجية لها خصائصها التي أوردناها سابقاً تحييد العلويين أو قطاع كبير منهم، خاصة أنه لا يعرف عنهم تمسك بدين أو بمذهب، فإنه بلا شك قد يكون تم إحراز تقدم كبير في طريق إسقاط هذا النظام الدموي وإسقاط أهم أوراقه في هذا الصراع، ومن ثم إبعاد البلاد عن شبح التقسيم وجعله عند الأعداء الخيار الاستراتيجي للخروج من هذه الحرب.

ثانياً: نظرية المؤامرة واستخدامها:

يجب ألا نخضع في تفسيرنا وتحليلنا لأي حدث لنظرية المؤامرة، ليس من قبيل إلغاء النظرية ذاتها، لكن لأن استخدام نظرية المؤامرة في كل الأحداث يضر أكثر مما يفيد، ومن الأفضل ألا نلجأ إليها إلا إذا توافرت دلائل قوية وقرائن واضحة لا تحتمل الشك أو اللبس.

من السهل جداً رمي ثورات الربيع العربي بأنها نتاج مؤامرة أمريكية! أليست الإدارة الأمريكية هي التي مارست ضغوطاً على الأنظمة العربية كي تستجيب لرغبات شعوبها؟ وتتعدد العناوين في هذا الصدد والتي تصل إلى أن الغرب هو الذي درّب نشطاء الثورة وهو الذي أتى بالإخوان والسلفيين إلى تصدّر مشهد الحكم، وفي المقابل لا يمكن إهمال أنه كانت هناك توقعات أمريكية أو غربية بقرب حدوث تغييرات ما في المنطقة، والذي يعرف طريقة التفكير الغربي عامة والأمريكي خاصة يقول إنهم لا يتركون الأمر للصدفة البحتة، وإن الغرب منذ عشر سنوات تقريباً وبالتحديد بعد الحادي عشر من سبتمبر، يضغط باتجاه التأثير على الأفكار الإسلامية التي تسود في المنطقة كي تعبر عن نفسها بطريقة أكثر ليبرالية أو تتسق مع الفكر الغربي، فإذا حدث تغيير - وهو بلا شك غير مرغوب فيه من قبلهم - فإنه يحدث في اتجاه لا يتصادم مع الغرب.

ثالثاً: التمييز بين مستويات عدة في خطط التفتيت:

التفتيت الجغرافي السياسي: مثل سايكس بيكو وغيرها.

التفتيت الفكري: مثل حرب الأفكار وتقسيم الإسلاميين إلى معتدل ومتطرف، وتقارير راند خير مثال.

التفتيت القيمي: والذي يهدف إلى تفكيك الأسرة المسلمة بانحلالها الخلقي والفكري.

هذا التمييز بين المستويات تلك يجعلنا أكثر واقعية في تفهّم مشاريع التقسيم، ويجعل أدواتنا في مواجهتها أكثر تنوعاً بما يتفق مع كل مستوى.

رابعاً: التنوع العرقي والديني والمذهبي:

وهذا واقع يجب الاعتراف به والتعامل معه، فهناك عرقيات مختلفة تموج بها المنطقة العربية، كالبربر والأكراد وغيرهم، وهناك أيضاً مذاهب عديدة كالإثني عشرية والزيدية والإباضية والنصيرية والدروز، وبعضهم أقرب لأهل السنة، وبعضهم أبعد عنهم وأقرب لملة أخرى، وهناك أيضاً النصارى؛ وكل هذه الطوائف والملل والنحل تتعدد سبل التعامل معها واحتوائها بحسب عددهم وقوتهم وتنظيمهم والأطراف الإقليمية والدولية التي تقف وراءهم.

خامساً: المروّجون للمشروع:

وهؤلاء يتنوّعون ما بين قوميين سابقين وحاليين وعسكريين سابقين يطلقون على أنفسهم خبراء استراتيجيين! فهؤلاء يجب التعامل مع تحليلاتهم بحذر وحرص، خاصة أن منهم الكثير الذي يحاول إثبات وجود بأنه لا يزال في الساحة، خاصة بعد زوال شمس القومية العربية وترنح كثير من الأنظمة الدكتاتورية العسكرية وبزوغ شمس حكم الإسلاميين على المنطقة.

إن الانتباه والحذر وأخذ الحيطة وإعداد استراتيجيات المواجهة لصد مخططات التفتيت هذه؛ كل هذا لا يغني عن الانتباه إلى أن بعض هذه المخططات قد يعمد أعداء الأمة إلى ترويجها ليبقى العقل العربي دائراً في فلك المؤامرات، خائفاً بعيداً عن التفكير العلمي، منشغلاً بقضايا وهمية بعيداً عن قضايا مصيرية.

 

:: مجلة البيان العدد 305 محرم 1434هـ، نوفمبر 2012م.


 [1] http://www.armedforcesjournal.com/2006/06/1833899/.

 [2] http://www.ahram.org.eg/Al-Ahram%20Files/News/102838.aspx.

 

 

أعلى