حق الأمة في تقرير المصير
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبيّنا محمد وعلى آله
وصحبه ومن اهتدى بهداه، وبعد:
فمن غرائب الزمان الذي
نعيشه أنه في الوقت الذي تتجه فيه كل الأمم القوية إلى الأخذ بمزيد من أسباب القوة
والتقدم عن طريق التكتلات والاتحادات والتحالفات، رغم الاختلافات والتناقضات
بينها؛ فإن أمتنا الإسلامية التي تجمعها جميعاً وحدة المنشأ والمصير، وتملك كل مؤهلات
القوة والثروة، وتؤلف بين شعوبها عوامل الاشتراك في الدين والقيم والمصالح وتقارب
الأوطان؛ هذه الأمة استمرأ أعداؤها في الخارج والداخل احتكار توجيه شؤونها والتصرف
في مقدّراتها وتقييد حريات شعوبها في اختيار أسلوب حياتها واتجاه مصائرها.
ولما توجَّهت نوايا الغرب
النصراني نحو تفتيت الأمة الإسلامية في بدايات القرن الميلادي الماضي بعد وحدتها
قروناً متطاولة تحت قيادة سياسية موحدة؛ طور الغرب مبدأ دولياً لتحقيق ذلك
التفتيت، هو مصطلح (حق تقرير المصير)،
الذي كان مفترضاً به مراعاة مصالح الشعوب بما يتناسب مع مصالح الأمم التي تنتمي
إليها، لكنه استخدم في حق شعوب أمتنا في الغالب الأعم بما يتناقض مع المصالح
العامة للأمة، والمصالح الخاصة للشعوب.
هذا المصطلح: (حق
تقرير المصير)، نشأ في مجال السياسة الدولية والعلوم
السياسية ليشير إلى حق كل مجتمع يملك هوية جماعية متميزة في تحديد طموحاته
السياسية وتبني الأسلوب السياسي المفضل لديه؛ من أجل تحقيق هذه الطموحات وإدارة
حياة المجتمع دون تدخل خارجي أو قهر من قبل دول أو منظمات أجنبية.. لكن
الأمر سار على خلاف ذلك في أكثر بلاد المسلمين؛ إذ فُرضت فيها مناهج سياسية وأنظمة
حكم موالية لأعداء الشعوب حتى بعد حركات الاستقلال والتحرر.
كان رئيس الولايات
المتحدة (وودرو ويلسون) هو
الذي روج للمصطلح بعد اشتهاره في أواخر القرن التاسع عشر، وقد أراد ذلك الزعيم
الأمريكي توظيف هذا المصطلح في تشجيع مجتمعات إسلامية كثيرة على الانفصال عن جامعة
الخلافة الإسلامية في تركيا، وأيضاً في وراثة الدور الاستعماري عن أوروبا بإغراء
الشعوب التي كانت تحت سيطرتها بالتمرد عليها والتحرر من هيمنتها؛ لتتولى أمريكا
دور السيطرة الاستعمارية الاستغلالية لكن بنهج ونكهة أمريكية مغايرة، فقد كان مبدأ
حق تقرير المصير من أسس معاهدة فيرساي عام 1919م
التي وقعت عليها الدول المتقاتلة في الحرب العالمية الأولى، والتي سمحت بتأسيس دول
جديدة بتحالفات جديدة.
لذلك كان هذا المبدأ في
فترة لاحقة من القرن العشرين الأساسَ في سياسة إزالة الاستعمار التي سعت أمريكا
بها إلى تأسيس وضع عالمي جديد تنشأ فيه دول مستقلة في إفريقيا وآسيا تدين لها
بالولاء بدلاً من الأوروبيين.
بعد الحرب العالمية
الأولى شاعت أفكار تقول إن المجتمع الذي يحق له تقرير المصير هو مجتمع الناطقين
بلغة واحدة، والمنتمين إلى ثقافة مشتركة، والقاطنين في منطقة معينة ذات حدود واضحة. كذلك
شاع أن ممارسة حق تقرير المصير تتم عن طريق إقامة أمة أو دولة أو إقليم لمناطق حكم
ذاتي، فإذا عاشت مجموعات من الناس في منطقة ما ولهم لغة وثقافة مشتركتين؛ يمكن
اعتبارهم قوماً أو شعباً، ويمكن إعلان المنطقة دولة مستقلة أو منطقة ذات حكم ذاتي
في إطار دولة فيدرالية.
تبيَّن أن هذه الأفكار
غير عملية، إذ بلغت كثرة مطالبات الشعوب والمجتمعات للاعتراف بحقها لتقرير المصير
لدرجة أن القادة الأوروبيين خشوا من تقسيم أوروبا نفسها إلى عشرات من الدويلات ذات
حدود طويلة تعرقل التبادل التجاري وحرية العبور والسفر، وكذلك فإن الولايات
المتحدة الأمريكية لن تبقى متحدة، بل ولا أمريكية؛ إذا روعيت تلك الفروق بين شعوب
ولاياتها، وهي التي خاض حكامها حروباً مريرة في الأعوام الممتدة من (1861 إلى 1865) لمقاومة
حركات انفصال في عشر ولايات كانت تطالب بحقها في تقرير مصيرها بعيداً عن الاتحاد
الأمريكي.
وفي محاولة لحل إشكالية
تفكك الأمم الغربية، تأسست في وسط أوروبا ما بعد الحرب العالمية الأولى فيدراليات
مثل: تشيكوسلوفاكيا
ويوغوسلافيا، لكن الشعوب التي شاركت في كل من هذه الأنظمة الفيدرالية لم تتمكن من
الحفاظ على جهاز السلطة المشتركة لمدد طويلة، فانفصلت أجزاء من هذه الفيدراليات
إلى دول مستقلة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، أي عند إزالة الضغوطات الخارجية وظهور
الخلافات الداخلية بشدة.
غير أن تلافي المضرة عند
تعذر المصلحة الراجحة لم يرعه الغرب في تعامله مع حق تقرير مصير الشعوب المنتمية
إلى أمتنا المسلمة، مثلما روعي ذلك مع الأمم غير المسلمة؛ فبعد سقوط الدولة
العثمانية وظهور التوجه نحو تقاسم أجزائها؛ أُعطيت قوميات نصرانية عديدة حق تقرير
المصير، مثل: الصرب والكروات واليونان، وأعطيت الحق فيما
بعد في أن تتكتل في كيانات موحدة مثل: الاتحاد اليوغسلافي
والاتحاد التشيكوسلوفاكي، بينما حُرمت شعوب إسلامية مثل شعوب ألبانيا وكوسوفا
والجبل الأسود من حق تقرير المصير زمناً طويلاً.
هذا المبدأ الأمريكي الذي
صار مبدأ أممياً دولياً، استطاع الغرب توظيفه لخدمة مصالحه الخاصة عن طريق تحكم
الدول الكبرى في قرارات «الشرعية» الدولية،
وذلك رغم أن الأمم المتحدة أدخلته ضمن مبادئها على أنه يضمن حق الدول المستعمرة في
أن تختار مصيرها بعد زوال الاحتلال عنها، فالمبدأ المنصوص عليه في ميثاق الأمم
المتحدة يخص الدول التي كانت خاضعة للاستعمار، لكن تطبيق هذا المبدأ خرقته وقائع
الانفصال العديدة في العالم الإسلامي باسم (حق
تقرير المصير)؛ فالشعوب التي كانت تحت إدارة دولة الخلافة
لم تكن تعد نفسها محتلة، وفي وقتنا هذا لم يكن جنوب السودان محتلاً حتى ينفصل بزعم
حق تقرير المصير، وإقليم تيمور الشرقية في إندونيسيا لم يكن محتلاً حتى ينفصل تحت
هذا الزعم، وكذلك في الوقت الراهن هناك العديد من سكان المناطق الموضوعة على قائمة
الانتظار لتحقيق الانفصال عن بلدان إسلامية بترشيح ومؤازرة غربية، مثل: دارفور،
والصحراء الغربية، وجنوب اليمن، وشبه جزيرة سيناء، ومناطق النوبة في مصر... وغيرها؛
لم يقل عنها أحد أو تقول هي عن نفسها أنها محتلة.
الغريب أن مبدأ حق تقرير
المصير الذي رعته الأمم المتحدة في جنوب السودان الوثني النصراني بكل قوة وسرعة؛
تلكَّأت وتباطأت في تنفيذه لمجتمعات إسلامية ظلت غريبة عن محيطها، وطالت مطالبتها
بالانفصال دون جدوى، مثل: كشمير المسلمة التي مُنحت
نظرياً حق تقرير المصير منذ عام 1947 عن الهند الهندوسية،
لكنها لم تنل استقلالاً إلى يومنا هذا، كذلك لم يُسمح لشعب الشيشان الذي كان
مستعمرة روسية، بأن يأخذ حقه في تقرير مصيره بالانفصال عن الاتحاد الروسي مثلما
انفصلت دول نصرانية أخرى عن الاتحاد السوفييتي السابق بذلك الحق.
وقبل هذا وذاك، لم يُعطَ
الشعب الفلسطيني حق تقرير المصير بعد انتهاء الاحتلال البريطاني لفلسطين عام 1948،
بل حدث العجب العجاب عندما سَلّمت دولة الاحتلال البريطاني الأرض والشعب في فلسطين
لاحتلال أخبث وهو الاحتلال اليهودي، الذي أُعطى شيئاً آخر باسم تقرير المصير، وهو
الوفاء لليهود بوعد بلفور!
تتضح ازدواجية المعايير
الدولية أكثر فأكثر عندما نرى أن (الشرعية الدولية) الممتنعة
عن إلزام المجتمع الدولي بمنح حق تقرير المصير أو تنفيذه لشعوب وبلدان مثل فلسطين
والشيشان وكشمير؛ جادت بسرعة بمنح هذا الحق وتنفيذه في إقليم تيمور الشرقية لينفصل
عن إندونيسيا، فعندما يكون الانفصال لكيان ضاراً بدولة إسلامية يحصل التسارع في
إنجازه حتى لو كانت الدولة الراغبة في الانفصال إسلامية أيضاً مثل ما حصل في حالة
بنغلاديش مع باكستان.
أمة الإسلام فقط هي
المستهدفة دائماً بالتقسيم والتجزئة، والمقصودة أيضاً بالحرمان من التحول إلى
الاتحاد والتكتل كغيرها من الاتحادات والتكتلات، مثل: الاتحاد
الأمريكي، والاتحاد الروسي، وقبله الاتحاد السوفييتي واليوغسلافي والتشيكوسلوفاكي،
ومؤخرا الاتحاد الأوروبي! أما الاتحاد الإسلامي
الذي كان قائماً في صورة دولة الخلافة، فقد اتحدت قوى الطغيان ضده، ولا تزال متحدة
ضد عودته في أي صورة من الصور! حتى إن الرئيس البئيس
السابق لأمريكا (جورج بوش) حين
أعلن حربه العالمية الشهيرة، والتي لم يُعلن عن انتهائها رسمياً إلى الآن؛ برّر
ذلك وسوّغه بأن الإسلاميين يريدون إقامة دولة للإسلام تمتد من المغرب إلى إندونسيا!
وكأن هذا الحق في
الامتداد والاتحاد لا يُمنح فقط إلا على أساس الإلحاد أو الوثنية، نصرانية كانت أو
بوذية أو هندوسية؟! مع أن التكتلات العديدة التي تجمع هؤلاء
وهؤلاء لا تكتفي بالمبالغة في تقديس حقها في تقرير مصيرها، بل تربط مصير غيرها
بها؛ كما دلت على ذلك وقائع الاستعمار والاحتلال الأوروبي والروسي والأمريكي.
لم يُسمح في عالمنا
الإسلامي إلا بالاتحادات العلمانية (الكرتونية) التي
لم يصبر أصحابها على استمرارها رغم هشاشتها؛ كالاتحاد العربي الهاشمي بين الأردن
والعراق عام 1958، والاتحاد بين مصر وسورية وليبيا الذي كان
يطلق عليه (اتحاد الجمهوريات العربية) عام 1971،
والذي وقع عليه الرؤساء: حافظ الأسد، ومعمر
القذافي، وأنور السادات، وقبله اتحاد مصر وسورية الذي كان يطلق عليه (الجمهورية
العربية المتحدة) أيام عبد الناصر، وقبله اتحاد مصر والسودان
أيام الملكية، وفي بداية عهد حسني مبارك أقيم اتحاد بين مصر والعراق والأردن أطلق
عليه (اتحاد التعاون العربي)،
وقامت وحدة اندماجية ما بين مصر وليبيا، وأخرى بين سورية وليبيا، بل قامت وحدة بين
ليبيا وتونس في عهد الطاغيتين بورقيبة والقذافي عام 1974 أطلق
عليها (الجمهورية العربية الإسلامية)! وقام
اتحاد آخر بعده هو الاتحاد المغاربي الذي ظل مجمداً بسبب الخلافات السياسية بين
أعضائه!
لم تستمر هذه الصيغ من
الاتحاد لأنها قامت على أسس علمانية ولظروف سياسية واقتصادية سرعان ما تلاشت
بتلاشيها، ولأنها لم تكن ذات جذور شعبية، بل كانت في إطار رهانات وأحياناً مكايدات
على مستوى الحكام بعيداً عن الشعوب.
حق أمتنا في تقرير مصيرها
على أساس هويتها الإسلامية وتجانسها الثقافي وتقارب أقطارها وتداخل شعوبها؛ لا
ينتظر مبادئ دولية، ولا مقررات أممية عالمية، ولا هبات وفزعات سياسية داخلية؛ بل
إنه حق أوجبته الشريعة الإلهية التي نطق الوحي فيها بما يوجب الاتحاد ويحرّم
التفرق في قول الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ
اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]،
وقوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا
وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل
عمران: 105]،
وقوله {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ
أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ
كَبِيرٌ} [الأنفال: 73].. هذه
التكليفات الإلهية لم تخاطَب بها الزعامات السياسية أو النخب الثقافية فقط، بل
خُوطبت بها قبل ذلك جموع الأمة التي توجَّه إليها قوله تعالى {كُنتُمْ
خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]،
فهي أولى الناس وأولى الأمم بالاجتماع على ما يميزها وما يُبقي لها هذا التميز.
والزمان الآن زمان الشعوب، ولا بد لها أن
تأخذ بزمام مصلحة مجموع الأمة في التدرج نحو التقارب الموصل إلى الوحدة، لا من
خلال جامعات للدول، بل من خلال (جامعة للشعوب)،
وليس بالضرورة على الصيغ القديمة المعروفة في التاريخ الإسلامي، بل في صيغ جديدة
معاصرة ضمن ضوابط الشريعة والمصالح العامة لخير أمة.