• - الموافق2024/11/05م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
أربـاب جِدٍّ في العمل

أربـاب جِدٍّ في العمل

لا نزاعَ في أهمية التنظير، والتأصيل العلمي، وتحرير الأقوال، وتحقيق المسائل، وتوثيق الدلائل..

لكن هذا التنظير اعتراه الضعف، وهشاشة البحث، وهزال التحرير.. وليست هذه السطور في معالجة هذا الضعف والتهافت في التنظير، وإنما هي تذكير بالجانب العملي، ومعالجة التقصير في الأفعال، ومدافعة السلبية والتكاسل عن البدار إلى الباقيات الصالحات، إذ استحوذ على الساحة القيل والقال، وتشقيق الكلام، والإسهاب في جلسات «العصف الذهني»، والإطناب فيما يسمى «الحراك الثقافي»، وتفاقم النقاشات والمخاطبات، فاستُنزفت الأوقات، وأُهدرت الطاقات في الأقوال على حساب الأفعال، فتكاثر وتضاعف التنظير، وتناقص وتقلّص التطبيق.

لقد كان سلفنا الصالح «عبيد تسليم في العقائد، أرباب جدّ في العمل»[1]؛ فقد حرصوا على ما ينفع، واشتغلوا فيما تحته عمل، وجدّوا في طاعة الله والاتباع، وجانبوا شكوك المتكلمين وشطحات المتصوفين. عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «كان أحبّ العمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يدوم عليه صاحبه»[2].

«ودخل الحسن البصري - رحمه الله - المسجد، فقعد إلى جنب حلقة يتكلمون، فأنصتَ لحديثهم، ثم قال: هؤلاء قوم ملّوا العبادة، ووجدوا الكلام أهون عليهم، وقلّ ورعهم وتكلّموا»[3].

«وقال الأوزاعي - رحمه الله -: إن المؤمن يقول قليلاً ويعمل كثيراً، وإن المنافق يقول كثيراً ويعمل قليلاً»[4].

«وكان مالك بن أنس يقول: الكلام في الدين أكرهه، ولم يزل أهل بلدنا يكرهونه وينهون عنه، ولا أحبّ الكلام إلا فيما تحته عمل؛ لأني رأيت أهل بلدنا [المدينة النبوية] ينهون عن الكلام إلا فيما تحته عمل»[5].

«وقال معروف: إذا أراد الله بعبده شراً أغلق عنه باب العمل، وفتح عليه باب الجدل»[6].

ثم إن الشخص بطبيعته وجبلَّته لا بد أن يعمل ويسعى، كما في قوله صلى الله عليه وسلم «أصدق الأسماء حارث وهمام»[7].

فكل إنسان حارث، أي صاحب عمل وكسب وسعي، فإن أعرض عن العمل المشروع، اشتغل بالعمل الممنوع، وإن لم يفعل المطلوب، ارتكب العمل المحظور[8].

قال ابن القيم: «من رغب عن العمل لوجه الله وحده ابتلاه الله بالعمل لوجوه الخلق، فرغب عن العمل لمن ضرُّه ونفعه وموته وحياته وسعادته بيده، فابتُلي بالعمل لمن لا يملك شيئاً من ذلك، وكذلك من رغب عن التعب لله ابتُلي بالتعب في خدمة الخلق ولا بدّ..»[9].

وكما ذمَّ سلفنا الصالح أهل الكلام في سلوبهم ونفيهم للصفات الإلهية، فقد ذمّوا الصوفية في سلوبهم في السلوك؛ إذ غلبت التروك على أرباب التعبّد المحدث، فالورع - عندهم - مجرد ترك، والتزكية مجرد تطهير فحسب.. يقول ابن تيمية: «وأما المعطلة من المتفلسفة ونحوهم فيغلب عليهم النفي والنهي، ففي العقائد: الغالب عليهم السلب[10]، وفي الأفعال: الغالب عليهم الذم والترك من الزهد الفاسد والورع الفاسد.. لا يفعل، لا يفعل.. من غير أن يأتوا بأعمال صالحة، ولهذا كان غالب من سلك طرائقهم بطّالاً متعطلاً..»[11].

فمن ترك الصالحات فهو بطّال على طريقة أهل التعبُّد الفاسد، وإلا فالورع فعل وعمل قبل أن يكون تركاً، وزكاة النفوس تجمع بين طهارتها من الذنوب وتنميتها بالأعمال الصالحات، فلا زكاة للنفوس إلا بحصول ما ينفعها من الأعمال النافعة، ودفع ما يضرّها من السيئات الواقعة[12].

وقد غَلَب على الخطاب السلفي في بعض الأحايين: الاشتغال بالتروك، وتتبّع المخالفات وتعدادها على سبيل التحذير، والانهماك في سرد أفراد البدع والمحدَثات، والنفوس إنما «خُلقت لتعمل لا لتترك، فالترك مقصود لغيره، فإن لم يشتغل بعمل صالح، وإلا لم يترك العمل السيئ، أو الناقص»[13].

والحق أن الاشتغال بالسنن الفعلية والأعمال الشرعية وإظهارها آكدُ وأجلُّ، فلا يُنهى عن منكر إلا ويؤمر بمعروف يُغني عنه[14].

وإظهار السنن يوهن البدع ويُؤْذِن بانطماسها، كما أن ظهور البدع يصحبه ارتفاع السنن واندراسها، كما في الحديث «ما أحدث قوم بدعة إلّا نزع الله عنهم من السنة مثلها»[15].

ثم إن البدع انفلات عن السنن، وتنصُّل عن الاتباع، ولزوم السنة: أعمال متحققة وأفعال واقعة.

وممَّا يؤكد ذلك أن جنس فعل المأمورات آكدُ من جنس ترك المنهيات، فالمأمورات مقصودة لذاتها، وترك المحظورات مقصود لغيره، كما حرره ابن تيمية وابن القيم وغيرهما[16].

والتعلُّق بالله والدار الآخرة يوجب العمل والبدار، والجدّ والاجتهاد، كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من خاف أدلج[17]، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة»[18].

فالغفلة عن البعث والنشور، والجزاء والحساب؛ توقع في التثاقل إلى الدنيا، والتكاسل عن معالي الأمور، والتقاعس عن الجدّ في تحصيل القربات والصالحات، وكلما زاد اليقين بالآخرة لدى الشخص تضاعفت الطاعات، وتسارعت الأعمال الباقيات، كما كان عليه سلفنا الأوائل.

وصلاح القلب يستلزم صلاح الجوارح، فإذا تحرّك القلب بمحبة الله تعالى وخوفه ورجائه وإجلاله.. تحرّكت الجوارح بالأعمال الصالحات والحسنات الماحية.

وإذا حلّت الهداية قلباً

نشطت للعبادة الأعضاءُ

«فالقلب إذا كان فيه معرفة وإرادة، سرى ذلك إلى البدن بالضرورة، لا يمكن أن يختلف البدن عمَّا يريده القلب، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب»[19].. فإذا كان القلب صالحاً بما فيه من الإيمان علماً وعملاً قلبياً، لزم ضرورة صلاح الجسد بالقول الظاهر، والعمل بالإيمان المطلق..»[20].

فإذا صلح القلب صحت الأعمال، ونشطت الجوارح في إقامة الصالحات، وذاق العبد حلاوة الطاعات، ووجد الأُنس وقرة العين في أدائها.

ولذا يقول ابن تيمية: «إذا لم تجد للعمل حلاوة في قلبك فاتهمه فإن الرب تعالى شكور»[21].

فاللهم أعنَّا على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك.

:: مجلة البيان العدد 302 شوال 1433هـ، أغسطس 2012م.


[1] قالها ابن عقيل الحنبلي كما في تلبيس إبليس لابن الجوزي ص 423.

[2] أخرجه البخاري.

[3] الحلية لأبي نعيم 2/157.

[4] الحلية لأبي نعيم 6/142.

[5] جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر 2/95.

[6] السير للذهبي 9/340.

[7]أخرجه أحمد 4/345؛ وأبو داود (4950)؛ وغيرهما.

[8]انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (كتاب الإيمان) 7/173 - 174.

[9] مدارج السالكين 1/165.

[10] السلب أي النفي المحض كقولهم: إن الله لا يوصف باسم ولا صفة ولا فعل.

[11] مجموع الفتاوى 20/126 = باختصار.

[12] ينظر: مجموع الفتاوى 10/96.

[13] الاقتضاء لابن تيمية 2/617.

[14] انظر: الاقتضاء 2/617.

[15] أخرجه أحمد.

[16] ينظر: مجموع الفتاوى: 20/85-109، والفوائد لابن القيم ص 133- 143.

[17] أدْلج: معناه سار في أول الليل، والمراد: التشمير في الطاعة.. قاله النووي في رياض الصالحين (411).

[18] أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن.

 [19] أخرجه البخاري ومسلم.

[20] مجموع الفتاوى لابن تيمية 7/187.

[21] مدارج السالكين لابن القيم 9/34.

أعلى