بعيدًا عن الأهمية الجغرافية، والبعد الديني والتاريخي والعرقي للصراع في جزيرة قبرص؛ فإن موارد الغاز الضخمة التي اكتُشِفَت في العقدين الماضيين في حوض البحر المتوسط، وسياسة تركيا الواضحة بشأن امتدادها الإقليمي والبحري
تداخلت الروايات بشأن الأحداث الأخيرة التي جرت في المنطقة المحايدة بين قبرص
التركية وقبرص اليونانية في أغسطس الماضي، لكنَّ الرواية الوحيدة التي يُؤمِن بها
الأتراك، هي التي عبَّر عنها مستشار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لشؤون الأمن
والسياسة الخارجية، مسعود حقي جاشين، خلال مقابلة تلفزيونية بالقول:
«إن
الأمة التركية تقف بحزمٍ إلى جانب القبارصة الأتراك.. البحر المتوسط مِلْك لنا، ولا
ينبغي لأحدٍ أن يُفكِّر في رَفْع سيفه علينا هناك».
حاول القبارصة الأتراك شقّ طريق يربط قرية أرسوس بقرية بايل الواقعة في منطقة
مُتنازَع عليها جنوب المنطقة العازلة التي تُديرها الأمم المتحدة، وهي منطقة يبلغ
طولها 180كم؛ إلَّا أنَّ المئات من جنود المستعمر البريطاني القديم -الذين لم
يرحلوا عن الجزيرة، ويتسترون بالخوذات الزرقاء- تَصدّوا بقوة لعملية الربط بين
القريتين؛ فهي في نظرهم خطوة سياسية استدعت بيانات إدانة من أغلب دول الاتحاد
الأوروبي ومناقشة خاصة في مجلس الأمن.
تحمل قبرص في تفاصيلها التاريخية ثأرًا تاريخيًّا عُمقه أكثر من ألف عام، حينما
كانت قاعدةً استراتيجيةً للغزو الصليبي على بلاد المسلمين، لذلك يصفها الرئيس
الأمريكي الأسبق، ليندون جونسون، بأنها
«واحدة
من أكثر المشاكل تعقيدًا على وجه الأرض».
وربما يبرّر ذلك ما جاء على لسان الجغرافي العربي المسلم شمس الدين المقدسي، الذي
وصف جزيرة قبرص عام 985م بقوله:
«مَن
يمتلكها يسود البحار».
لذلك استولت عليها البندقية لمدة مائة عام، ثم خضعت للحكم العثماني عام 1571م، وفي
عام 1878م استولى عليها الاحتلال الإنجليزي؛ بهدف تأمين المسارات المؤدية لقناة
السويس. ثم خسرتها تركيا في معاهدة لوزان عام 1923م، وأصبحت جزءًا من الأراضي
البريطانية.
وفي عام 1955م حاول القبارصة التخلُّص من الاحتلال الإنجليزي، لكنْ نجحت بريطانيا
في عقد أول نسخة من مؤتمر شرق البحر المتوسط، ونجحت في تحريض اليونان ضد الأتراك،
وهو أمرٌ لم يَمنع استقلال قبرص عام 1960م، لكنَّه استقلال فَصَّلَه الإنجليز
ليَحُدّ من فُرَص سيطرتهم على الجزيرة؛ لذلك قام رئيس الأساقفة مكاريوس الثالث
بتنفيذ خطة أكريتاس لتحقيق الاتحاد مع اليونان.
في عام ١٩٥٥م، عندما طالب القبارصة بالاستقلال، عقد البريطانيون مؤتمر شرق البحر
الأبيض المتوسط،وأثاروا
النزعة العرقية بين القبارصة اليونانيين والأتراك. بعد استقلال قبرص عن الإنجليز في
عام 1960م، قام القبارصة اليونانيون بقيادة رئيس الأساقفة مكاريوس الثالث بتنفيذ
خطة أكريتاس الخاصة بهم لتحقيق الاندماج. وخطة
«أكريتاس»
هي أشبه بنتائج مخرجات وضعتها منظمة سرية قبرصية يونانية رعاها الإنجليز؛ لإضعاف
القبارصة الأتراك، وتنفيذ إبادة جماعية بحقهم، ثم الاتحاد مع اليونان، وهي نُسخة
مكررة لوعد بلفور المشؤوم الذي تُوِّجَ بدعم الإنجليز للعصابات الصهيونية في فلسطين
قبل النكبة.
يقول مهندس السياسة الخارجية التركية، البروفيسور أحمد داود أوغلو في كتابه
«العمق
الإستراتيجي»
الذي صدر عام 2001م:
«حتى
لو لم يكن هناك تركي مسلم واحد، يجب على تركيا أن تحافظ على قبرص، لا يمكن لأيّ
دولة أن تتجاهل هذه الجزيرة التي تقع في قلب مساحتها الحيوية».
بعيدًا عن الأهمية الجغرافية، والبعد الديني والتاريخي والعرقي للصراع في جزيرة
قبرص؛ فإن موارد الغاز الضخمة التي اكتُشِفَت في العقدين الماضيين في حوض البحر
المتوسط، وسياسة تركيا الواضحة بشأن امتدادها الإقليمي والبحري، وإطلاقها بصورة
واضحة على البحر المتوسط صفة
«الوطن
الأزرق»؛
فإن حسم هذا الصراع لن يكون عبر موائد السلام.
فأمام امتحان الطاقة العسير الذي تمر به الكتلة الأوروبية بأَسْرها، والذي سبَّب
اندلاع الصراع في أوكرانيا والانقلابات الأخيرة في النيجر؛ فإن قبرص إحدى أهم
الجبهات التي قد تندلع شرارة المواجهة فيها، لا سيما وأن الكتلة الغربية بأَسْرها
لا ترى منطقًا يتوافق مع مصالحها الاقتصادية في تقسيم قبرص إلى دولتين، كما حدث
سلميًّا في تشيكوسلوفاكيا عام 1993م.
تقول مجلة بولتيكو:
«إن
بريطانيا إحدى الدول الثلاث الضامنة لأمن الجزيرة القبرصية، إلى جانب تركيا
واليونان، وتمتلك أصولًا دفاعية في الجزء اليوناني من الجزيرة، تشمل قاعدتين
عسكريتين أساسيتين بالنسبة للقوات البحرية البريطانية. لذلك أصبح أكثر عناوين
الصراع في الجزيرة هو مياه شرق البحر الأبيض المتوسط عقب إعلان شركة إيني الإيطالية
وشركة توتال الفرنسية في فبراير 2018م عن اكتشاف ضخم للغاز في منطقة كاليبسو قبالة
الساحل القبرصي. بعد هذا الإعلان أوقفت سفن بحرية تركية سفينة الحفر الإيطالية
سايبم 12000 التابعة لشركة إيني، وهي في طريقها إلى موقع التنقيب عن الغاز في
المنطقة 3 من المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص. وأظهرت هذه الخطوة خطورة الوضع،
ووصفتها صحيفة جيروزيليم بوست العبرية بأنها بداية لحرب جديدة على الموارد ستعاني
منها أوروبا، لا سيما أن تركيا تُمثِّل المحور في هذا الصراع.
كما حذَّر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، عقب الحادث، اليونان وقبرص والشركات
الغربية المتعاقدة معها من مواصلة التنقيب، واعتبر ذلك انتهاكًا للسيادة التركية.
وأطلقت أنقرة العنان لقواتها البحرية للسيطرة على المنطقة البحرية، وعزَّزت وجودها
عبر اتفاقية دفاعية مع ليبيا؛ ردًّا على منتدى شرق البحر المتوسط للطاقة الذي شاركت
فيه كلٌّ من الدولة العبرية وفرنسا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليونان
ومصر والإمارات والأردن والسلطة الفلسطينية وإيطاليا.
ومن بين الاكتشافات التي ألهبت الصراع المتجمّد في البحر المتوسط: خمسة اكتشافات
رئيسة؛ منها: حقل تمار وليفياثان اللذان تم اكتشافهما في عامي 2009م و2010م قُبالة
السواحل الفلسطينية المحتلة، ويُقدّر حجم الاحتياطي فيهما بــ282 مليار متر مكعب،
و621 مليار متر مكعب من الغاز. وحقل أفروديت الذي تم اكتشافه عام 2011م قبالة
السواحل القبرصية بحجم 128 مليار متر مكعب، والاكتشاف الأكبر قبالة السواحل
المصرية، وهو حقل ظهر، ويبلغ حجمه 845 مليار متر مكعب.
سبَّبت هذه الاكتشافات تدشين المزيد من التحالفات في المنطقة؛ منها: مذكرة تفاهم
ثلاثية بين قبرص واليونان والدولة العبرية لبناء خط أنابيب غاز إلى أوروبا عبر
البحر المتوسط، وهي خطوة لم تلقَ دعمًا أمريكيًّا، لكنَّها أيضًا قد تُفْسِد
الحُلْم التركي الذي تَسعى أنقرة لتحقيقه مع موسكو؛ من خلال إنشاء مركز توزيع للغاز
الطبيعي يكون مقرّه الأراضي التركية، بديلًا عن خط نورد ستريم الذي دمَّرته الحرب
الأوكرانية.
وبينما وقفت بريطانيا متفرّجة على الهجوم اليوناني الذي استهدف القبارصة الأتراك
عام 1974م، وتسبَّب بمقتل الآلاف منهم، واكتفت بالحفاظ على الوقائع التي تحمي
الوجود اليوناني في قبرص؛ أقدمت تركيا في يوليو 1974م -بموجب معاهدة الضمان التي
تَحْظر وجود اتحاد قبرصي مع أيّ دولة- على السيطرة على الثلث الشمالي من الجزيرة
الذي يضم أغلبية تركية.
في المقابل رفضت الأغلبية اليونانية في الجزيرة حلًّا تركيًّا يضمن تأسيس نظام
فيدرالي في الجزيرة، وانهارت آخر جولة من المفاوضات في سويسرا عام 2017م.
تُصرّ تركيا على حل الدولتين على أساس المساواة في السيادة، بدلًا من الاتحاد
الفيدرالي الذي يضمن المساواة السياسية، وهو معيار كانت تَقبل به الأمم المتحدة؛
إلا أنَّ الصراعات الأخيرة في المنطقة غيَّرت المزاج السياسي التركي.
وفي تعقيبها على الحادث الأخير؛ قالت صحيفة ملييت التركية:
«إذا
علمنا أن الخط الأخضر سُمِّي بذلك الاسم؛ لأن قائد القوات البريطانية في قبرص
الجنرال بيتر يونغ رسم خط وقف إطلاق النار بين القبارصة الأتراك واليونانيين بقلم
أخضر عام 1963م؛ فسيكون من السهل علينا أن نفهم لماذا إصرار الأمم المتحدة
والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على مساندة القبارصة اليونانيين، ويتجاهلون حق
400 من القبارصة الأتراك في بناء طريق يُسهِّل تنقُّلهم بين قراهم؟!»
يشكل القبارصة الأتراك خُمْس سكان الجزيرة البالغ عددهم 1,1 مليون نسمة؛ لذلك فإن
توحيد الجزيرة -بحسب صحيفة بلومبيرغ- من شأنه أن يُسهِّل عملية ضخ الغاز من شرق
البحر المتوسط إلى أوروبا عبر خط أنابيب يمر عبر قبرص إلى تركيا، وهذا الأمر يستحيل
تنفيذه؛ ما لم يكن هناك توافق حول أحد الحلَّين؛ إمّا توحيد الجزيرة، أو انفصال
كامل لكيانات سياسية جديدة.
لكنَّ الخطوات الغربية المتواصلة لا تُعبِّر سوى عن مساعدة قبرص اليونانية على
تصعيد المواجهة مع الأتراك، لا سيما مع صدور قرار أمريكي أخير يتعلق برفع حظر
استيراد الأسلحة عن قبرص للسنة المالية 2024م. وقد فرض هذا الحظر عام 1987م؛ بهدف
تشجيع محادثات السلام بين الجانبين؛ إلا أن التوتر المتزايد بين تركيا واليونان زاد
من حجم الدعم العسكري الأمريكي لأثينا.
بدَوْرها برَّرت صحيفة حريت الصراع على طريق قرية بايل بأنه قد يكون سببًا لإفساد
الأجواء الإيجابية التي ألقت بظلالها على الحوار بين تركيا واليونان.
من جهة أخرى، يقول أستاذ العلاقات الدولية اليوناني، كوستاس إيفانتيس:
«إن
تركيا دخلت فترة من التهدئة، وكان وراء ذلك الدافع الاقتصادي، وليس مجرد الرغبة في
التهدئة، لكن ما يضغط على تركيا حاليًّا هو أزمة الطاقة التي تُواجه أوروبا، وغاز
البحر المتوسط يلعب دَوْرًا مُهمًّا في هذه الأزمة؛ فتركيا ترى أن القانون البحري
الدولي يمنح أراضيها الوطنية جَرْفًا قارِّيًّا يبلغ 200 ميل، بينما قبرص ليست سوى
جزيرة، فلا يجب أن تتخطى مياهها الإقليمية 14 ميلًا، وجميع الاتفاقيات التي أبرمتها
السلطات القبرصية اليونانية مع الشركات الأجنبية باطلة من ناحية قانونية.
واتهمت السلطات التركية قبرص والشركات الدولية، التي تقوم بالتنقيب في البلوك 6،
والبلوك 3، قُبالة سواحل قبرص، بانتهاك الحقوق السيادية لتركيا.
لذلك، وبعد أن أظهرت تركيا أن باستطاعتها وَقْف أيّ نشاطات للتنقيب عن الغاز،
وأفشلت ما يُعْرَف بمنتدى شرق البحر المتوسط عبر تَدخُّلها العسكري؛ طرح المنتدى
الصهيوني اليوناني وجود حاجة مُلِحَّة لضَمّ تركيا للمنتدى، بعد أن تمَّ تجاهلها
خلال السنوات الماضية. وهذا الأمر أكَّده السفير الأمريكي السابق لدى أنقرة، إريك
إيدلمان، بقوله:
«إن
أردوغان بإمكانه تهديد طريق غاز المتوسط إلى أوروبا. والبديل هو عقد مؤتمر منتدى
شرق المتوسط؛ حيث يمكن لتركيا أن تشارك فيه بصفة مراقب، كمُقدّمة لحل القضايا
العالقة».