الأخ يمكن له أن يُؤثِّر على أخيه، سواءٌ أكان يصغُره أم يكبُره. وأحيانًا لا يتوقّف الأمر عند السُّكوت عَمّا يرتكبُه من موبقات فحسب، بل يمتدّ ليشمل قبولك بِما يُمليه عليك، وأنت ترضخ لذلك وتمسك بيد أخيك، وتمضي معه في الرَّكب الأعوَج
نتحدَّث في هذا المقام عن أهميَّة حُبّ الله -عز وجل-، وحُبّ الرسول -عليه الصلاة
والسلام- بالنسبة للمؤمن. فلماذا تكون الأولوية لهذا الحُبّ، وما الذي سيحصل فيما
لو أحبّ المؤمن شخصًا، أو متاعًا في الدنيا أكثر من حُبِّه لله -عز وجل-، وللرسول
-عليه الصلاة والسلام-؟
نجد الجواب الشافي في الآية 24 من سورة التوبة.
يقول الله -تعالى شأنُه- في هذه الآية الكريمة: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ
وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ
اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا
أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ
فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْفَاسِقِينَ} [سورة التوبة: 24].
هذه الآية الكريمة هي آية تفصيليةٌ، نفسيةٌ، تهذيبيةٌ، تُهذِّب للإنسان نَزَعاته،
وتجعلُه مُنضبِطًا ومتحكِّمًا بنَزَعات نفسِه، ومُوظِّفًا إيّاها التوظيف الآمن
السليم. فلا يعيش الدُّنيا على حساب دِينه، ولا يكون دِينُه سَبَبًا في شَقائِه في
الدُّنيا. فما السَّبيل إلى ذلك؟
ثمانية أنواع من النزعات البشريَّة
تُبيِّن الآية الكريمة ثمانية أنواع مِن النَزَعات البَشَريّة، وكيف يمكن لها أنْ
تجعل الإنسان في خلل واضطراب في حياتِه، ومِن ثَمَّ يخسر دِينَه.
ونظير ذلك: كيف يمكن له أن لا يَحرم نفسَه منْها ويستمتع بها، ويبقَى كذلك
مُحافِظًا على دِينه.
تستهل الآية بقوله -سبحانه وتعالى-: {قُلْ}؛ وهي مفتاحٌ جميلٌ للدخول إلى
رحابة هذه الآية الكريمة، والخِطابُ هُنا مُوجَّهٌ إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم {قُلْ} يا مُحَمَّد لقومِك وللناس كافّة في كلّ زمان ومكان. و{قُلْ}،
بمعنى: بَلِّغ بَياني هذا لِعِبادي.
{قُلْ [لهم] إِن كَان آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ
وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْن كَسَادَهَا
وَمَسَاكِن تَرْضَوْنَهَا أَحَبّ إِلَيْكُم مِّن اللّه وَرَسُولِه وَجِهَاد فِي
سَبِيلِهِ}.
رابطة الأبوَّة {آبَاؤُكُمْ}
جاء الأب أوّلًا في الترتيب {آبَاؤُكُمْ}؛ لأنّ الإنسان أوَّل ما تنفتح
مُدركاتُه، ويبدأ بالتَّعرُّف على الحياة، يرى أباه الذي يكون دليلَه إلى التعرّف
على الحياة.
وكلمة الحُبّ أتتْ بليغةً في دقّتها، وهي لا تعْني ألَّا تحبّ أباك، بل تحبُّه،
لكن إذا طلب منك أمرًا يتعارض مع الدِّين؛ عندها يجب عليك أن تُرجِّح الدِّين على
مَطلب أبيك. ولذلك جاءتْ كلمة: {أَحَبَّ}؛ أي الأكثر حُبًّا. وهذه دعوةٌ من
الله -تعالى ذِكْره- للأبناء إلى حُبّ الآباء الحبّ الذي لا يُرجّح بشرع الله
-تعالى شأنُه-.
رابطة البنوَّة {وَأَبْنَاؤُكُم}
عندما تنظر إلى ابنِك، فإنّك تتذكَّر عندما كنت صغيرًا، وهكذا في أيّ مرحلة تنظُر
إليه، تتخيَّل نفسَك عندما كنت في تلك المرحلة. وهذه هي عاطفة الأُبوَّة تجاه
الأبناء، ولأنّ أيّ أب لا بدّ له أن يكون ابنًا قبل ذلك؛ فتعامُلُه مع ابنِه يجعلُه
يتذكّر تعامُل أبيه معه، فإنْ كان جيِّدًا، يريد أن يكون جيدًا مثله، وإن لم يكنْ
جيدًا، فلا يريد أن يكون مِثلَه، بل أفضل منه.
فبعد مشاعر الأبناء تجاه آبائهم؛ تأتي مشاعر الآباء تِجاه أبنائِهم، فكما كنت ابنًا
لك أب، الآن أصبحت أبًا لك ابن. وعلاقة الآباء والأبناء علاقةٌ متداخلةٌ، ولكنَّها
مختلفةٌ، ولكلّ واحدة ذائقتها وخصائِصها ومَزاياها، وأيضًا مشاعرها. في الأولى، إذا
رأيت أباك يسلك منهجًا مُخالِفًا لحدود الله، فأيّ اعتبار سيُرجَّح لديكَ؛ اعتبار
الحدود، أم اعتبار الأُبوَّة؟
رابطة الأخوَّة {وَإِخْوَانُكُمْ}
هنا علاقةٌ أخرى شديدة الخصوصيّة وشديدة الحميميّة أيضًا، وهي (الأخوّة). فهذا
أخوك، وقد تربَّيتما معًا في بيت واحدٍ، وبينكُما ذكريات الطفولة، وذكريات سنوات
النموّ سنةً بسنةٍ. وما تجده في أخيك لا تجدُه في غيره، وهو يَسندُك وأنت تسنده،
إضافةً إلى أنّك عمٌّ لأبنائه، وهو عمٌّ لأبنائك.
والأخوّة رابطةٌ حميميّةٌ جدًّا، وقد بيَّن القرآن كيف أنّ النبيّ موسى -عليه
السَّلام- سأل الله -عز وجل- أنْ يُرْسِل معَه أخاه هارون إلى فرعون: {وَاجْعَل
لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي
29
هَرُونَ أَخِي
30
اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي
31وَأَشْرِكْهُ
فِي أَمْرِي} [طه:
29
-
32]،
وكان هارون مُؤازرًا جيدًا له.
والأخ يمكن له أن يُؤثِّر على أخيه، سواءٌ أكان يصغُره أم يكبُره. وأحيانًا لا
يتوقّف الأمر عند السُّكوت عَمّا يرتكبُه من موبقات فحسب، بل يمتدّ ليشمل قبولك
بِما يُمليه عليك، وأنت ترضخ لذلك وتمسك بيد أخيك، وتمضي معه في الرَّكب الأعوَج.
رابطة الزواج {وَأَزْوَاجُكُمْ}
الزوجة تُؤثِّر في زوجها، وهو يُحِبّ زوجتَه ويألفُها. والآية الكريمة تُبارك هذا
الحُبّ، وهذا التآلف الزوجيّ بين الزَّوجَين. وقد ساندَت أمّ المؤمنين الكُبرى
خديجة -رضي الله عنها- زوجَها مُحَمَّدًا -صلوات الله وسلامه عليه-، وآزَرَتْه
كثيرًا في بدايات نشر الدعوة، وكانت أول امرأة آمَنَتْ به، وتقول له:
«أبْشِر
يا ابن عمي، فوالله -الذي نفس خديجة بيده- إنِّي لأرجو أن تكون نبيّ هذه الأُمَّة.
كلا والله ما يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلّ، وتُكسب المعدوم،
وتقري الضيف، وتُعين على النوائب، وتَصدُق الحديث، وتؤدي الأمانة».
يتأثَّر الزَّوجان ببعضهما البعض، وتُبيِّن الآية أنّ خير التأثير هو التأثير
الإيجابيّ، ولكن إذا وجد طرفٌ الطرف الآخر يجنح إلى الضَّلال، فعليه ألَّا يُسايره
في ذلك، وألَّا يَغُضّ الطرف عنه، بل يُواجهُه بموقفِه الرافض لهذا الضَّلال،
ويُرجّح رضا الله على رضا الزوج؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِين آمَنُوا إِنّ مِنْ
أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا
وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنّ اللَّه غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التغابن: 14]؛
فيمكن أن تكون الزوجة صالحةً، والزوج فاسدًا، مثل آسية وزوجُها فرعون، أو يكون
الزوج صالحًا، والزوجة فاسدة، مثل نبي الله نوح -عليه السلام- وزوجته، والأمثلة
عديدةٌ في القرآن الكريم.
رابطة العشيرة {وَعَشِيرَتُكُمْ}
العَشيرة هي الانتماء، والإنسان يُسأل: من أيّ عشيرة أنت؟ وأفراد العشيرة يُؤازر
بعضهم بعضًا.
والعشيرة فرعٌ من القوميَّة، وأبناء العشيرة الواحدة ينتمون إلى القوميّة الواحدة.
وللعشيرة كبيرُها، وتكون كلمتُه نافذةً على جميع أفراد العشيرة، وهو يحافظ على
تماسك أفراد عشيرته. وكما أنّ رئيس الدولة عليه أن يُحافِظ على الأمن القوميّ،
فرئيس العشيرة عليه أن يُحافِظ على الأمن العشائريّ. ولكن إذا حدث أنّ كبير العشيرة
قد جنح إلى الضَّلال، فهل يتّبعُه أفراد العَشيرة، وإذا اتَبعه البعض، هل يتّبعه
الكل؟
من هنا؛ فإنّ الآية تُعالج نزعات حمية الجاهليَّة في الإنسان، حمية الانقياد الأعمى
والسير مع التيّار. وهي تُنبِّه الإنسان بمسؤوليّته القصوى تِجَاه أفعاله ومواقفه،
وأنْ لا شيء يُبرِّر التبعيَّة العمياء، سواء أكانَت للأب، أو الابن، أو الأخ، أو
الزوجة، أو العَشيرة، فهل هذه الاعتبارات {أَحَبّ إِلَيْكُمْ مِن اللّه
وَرَسُولِه وَجِهَاد فِي سَبِيلِهِ}، أم اعتبار طاعة {اللّه وَرَسُولِه
وَجِهَاد فِي سَبِيلِهِ}؛ أي عليكم أن تُجاهِدوا لتخرجوا عن هذه التَبعيَّة
العمياء، فتُرجِّحُوا حُبّ {اللّه وَرَسُولِه وَجِهَاد فِي سَبِيلِهِ}.
جاء هذا البيان لأنّ بعض المسلمين -رغم تَخلُّصِهم من الشِّرك، واعتناقِهم الإسلام-
كانوا يوالون بعض المشركين الذين كانوا من قرابَتِهم، فكانوا يتأرجَحون بين تعاليم
الإسلام، وتعاليم العَشيرة، أو علاقات القرابة. فكان هذا البيان بالحِفاظ على
علاقات القرابة ومشاعر الانتماء وعدم القَطيعة. لكن في الوقت ذاته ألَّا يوالوا
الضالّين في ضلالهم، وألَّا يقبلوا أن يَفرضوا عليهم ضلالَهم. وهنا أمرٌ بالغ
الأهميّة، وهو الفصل ما بين الإنسان وما بين مُعتَقَده الخاطئ؛ فأنت لا تَقبل أن
يَفرض عليك مُعتَقَده الخاطئ، وما دون ذلك تبقَى على صِلة معه ولا تُقاطِعه ولا
تُعاديه، بل تدعُو أن يهديه الله كما هداك.
رابطة الأموال {وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا}
الآن بعد ذِكر خمس عِلاقات تخصّ أواصر أكثر الصِّلات قُربًا فيما بين الناس، تأتي
أكثر ثلاث علاقات حَيويّة تخصّ الماديات بأفرع ثلاثة وفق ترتيب الأولويّات كما كانت
العلاقات الخمس المتقدّمة وفق ترتيب الأولويات.
ومِن أولى هذه الأولويّات المادّية الحَيويّة {وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا}؛
والمال حتى لو اكتسبْتَه بطرق مشروعَة، ليس بالضرورة أيضًا أن يكون نعمةً عليك، بل
قد يكون نقمةً عليك.
فالشرط هو حُسْن استخدام هذا المال الذي اكتسبْتَه شرعًا، وألَّا تُعطيَهُ أكثرَ من
حَجمه، وألَّا تسمح له أن يَجعلَك بخيلًا، أو تُصاب بِهوَس اكتناز المال؛ لأن هذا
الهَوَس بالاكتناز يتفرَّع منه الاحتكار.
فلعلّ تاجرًا يملك في متجره مادةً غذائية بكَسْبه المشروع، وبغتةً قلَّت هذه المادة
في السوق، فيعمد إلى إخفائها، وعندما يأتي الناس إلى متجرِه ليبتاعوا هذه المادة،
يدّعي بأنها نَفِدت، ثم بعد فترة يُخرجها ويبيعها بأسعار مَضاعَفة.
فيكون بذلك قد ظلم أصحاب الدخل المحدود مرَّتَين؛ مرةً أنه لم يَبعْهم وادّعى بأنها
نَفدت، ومرة عندما أخرجَها وغدتْ فوق طاقتِهم المادية لشرائِها.
فتُنبّه الآية الكريمة بأن مثل هذا الشخص آثر حُبّ المال على حُبّ {اللّه
وَرَسُولِه وَجِهَاد فِي سَبِيلِهِ}، وآثر الاستزادة في المال، على الاستزادة
في الحسنات، فأصبح مالُه يُكسبه السيّئات، ويجعله كائنًا مُحتكِرًا.
رابطة التِجارة {وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا}
الكَساد هو التراكم، والخشية هي الخَوف. وقد حصل هذا بالنسبة لبعض التجّار
المسلمين الذين رأوا أن إسلامَهم ربما يجعل المشركين يتجنّبون الشراء منهم، وبذلك
تبقى بضائعهم مُكدَّسة في متاجرهم.
وكان موسم الحجّ فرصةً جيّدةً للتجّار حتى يعرضُوا بضائعَهم، وكان المشركون يشترون
هذه البضائع من هؤلاء التُّجّار الذين كانوا هم أيضًا من المشركين. ولكنْ مع نزول
القرآن ونشر الدعوة، تركوا الشرك وهداهم الله للإيمان.
من هذا التحوّل يتبيَّن في هذا المحور من الآية الكريمة أنّ بعض المشركين لعلَّهم
امتنعوا عن الشِّراء من التُّجار الذين اعتنقوا الإسلام، واكتفوا بالشِّراء من
التجار الذين ظلُّوا على الشرك. فأصبح هناك شيءٌ من القلق المادي بالنسبة لهؤلاء،
فجاء قول الله -سبحانه وتعالى- إليهم، وإلى كل الذين يُوضَعُون في مواقف كهذه، أو
مُتفرِّعة منها في كلّ زمان ومكان: {وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْن كَسَادَهَا}.
أمام هذه الخشية نرى أنه قد أصبح هناك تأرجحٌ ما بين اعتناق الإسلام، وما بين كساد
البضاعة التجارية، فتتكدَّس فوق بعضها البعض، وقد تَفْسد.
وهذا مثالٌ حيٌّ من سخونة الواقع، وهو قابلٌ للاستمرار في كلّ زمان ومكان، بأشكال
مختلفة ومتفرِّعة وفق المستجدّات الزمانية، والمكانية. فقد ترى مسلمًا تُصبح له
مصلحة مع شخص غير مُسلمٍ، فيتقرَّب إليه، وعندما يراه يتحدَّث بطريقة سلبيَّة عن
الإسلام، يسكت لأنه يُؤْثِر مصلحتَه، أو بَيْع بضاعته لهذا الشخص، بل قد لا يكتفي
بالسكوت، ويوافقه على ذلك، ويتحدَّث هو الآخر بشكل سلبي عن الإسلام، فما يعنيه
بالدرجة الأولى هو تصريف البضاعة.
من هنا جاء تحذير وبشارة نبوية للتجار؛ فعن رفاعة بن رافع -رضي الله عنه- أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال:
«إِن
التُجَّار يُبعَثُون يَوم القِيَامَة فُجَّارًا، إِلَّا مَن اتَّقَى اللَّه وَبَر
وَصَدَقَ»[1]،
وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«التَّاجِر
الصَّدُوق الأَمِين مَع النَّبِيِّين وَالصِّدِّيقِين وَالشُّهَدَاء»[2].
رابِطة المَساكِن {وَمَسَاكِن تَرْضَوْنَهَا}
اختُتِمَت الآية الكريمة بالمُقوّم الثامن في حياة الإنسان، وهو المَسْكَن. وجاء
المَسْكَن هنا دون البيت، إشارةً إلى فخامة العَمَار، وفخامَة الأثاث، وأنَّه يمكن
أن يجعل الإنسان يُؤْثِر حُبَّه لمسكنه الفارِه هذا على حُبّ {اللّه وَرَسُولِه
وَجِهَاد فِي سَبِيلِهِ}؛ فهذه المساكن التي ارتضيتموها لراحة أنفسِكم وأهليكم،
وزوَّدتموها بمُقوّمات السَّكينة، وتشعرون بارتياح عندما تكونون فيها. تأكلون
وتشربون فيها ما طاب وما لذَّ من طعام وشرابٍ، تستأنسون مع أهليكم فيها، تستقبلون
فيها أحبّاءكم، تنعمون فيها بالنَّوم الهانئ، ولا تتخيّلون أنها ستذهب منكم،
وتُقيمون في بيوت تفتقر إلى أدنى مقوّمات السَكينة، بل لا تريدون دخولَها، كونها
غير مريحة، وتستفزّكم، وأنتم لا {تَرْضَوْنَهَا}، لكنَّكم تُجبَرون على
الإقامة فيها؛ فتتأخّرون خارجَها ما أمكن؛ هربًا من الإزعاجات التي تَرونها في هذه
البيوت.
فالإنسان عندما يشعر بالإرهاق سواء البدني، أو النَّفسي؛ فإنه يلجأ إلى بيته كي
يستريح فيه، فيكمن خوفه من خسارته لهذا البيت الآمِن الذي ارتضَى به لإقامته، ويملك
حريّة التصرّف فيه. وهو يشعر بالانشراح عندما يكون فيه، ويشعر بحنينٍ إليه عندما
يبتعد عنه.
تُبارك لك الآية الكريمة استمتاعَك بهذا المسكن الجميل، ومدى حرصك عليه، لكن في
الآن ذاته، تُحذّرك بألَّا يتحوَّل مَسكنُك الأنيق هذا إلى نقطة ضعف بالنسبة إليك
عندما تقع بعض التحوّلات، وقد يَمتحنُك الله فيها حتى تُثبت له عمليًّا بأنك يمكن
أن تَستغني عن هذا المسكن الذي ربَّما تكون قد بَنَيْتَه بنتيجة شقاء عمرِك كي
ترتاح فيه، إذا رأيته يتحوَّل إلى سبب يجعلُك تتجاوَز شرع الله.
هذا الأحَبّ إليكم
وبعدُ، فهل أنواع الحُبّ الثمانية التي ذَكَرَتْها الآية الكريمة هي {أَحَبّ
إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ}؟ هذا هو السؤال
الكبير الذي تسألُه الآية الكريمة للمؤمنين، والسؤال الكبير يكمن في ثناياه اختبارٌ
كبيرٌ، اختبار درجات الإيمان، واختبار مدى صدق الإيمان.
فما الذي يكون {أَحَبّ إِلَيْكُمْ}؟
هنا تكون إجابتُك عمليّةً، فتُسجّل بها مواقفَك العَمَليّة عند الله، وتقولُ: لا
يا رب، ذلك كلُّه ليس {أَحَبَّ} إليَّ {مِنْ اللّه وَرَسُولِه وَجِهَادٍ
فِي سَبِيلِهِ}. والجهاد هو هذا الفعل الذي تقوم به عمليًّا، فتقول بلسانِك: لا
يا رب. ثم تُقْدِم على الفعل جهادًا {فِي سَبِيلِهِ}؛ لأن الجهاد من
الجَهْد، أي من الفعل العَمَلي، ولذلك جاء الجهاد بعد الحبّ، وأيّ كلام عن الحبّ
يبقى لفظًا ما لم يُفعّله العمل. فلعلّ شخصًا يتلفَّظ كلّ يوم ألف مرة بأنه من
محبّي {اللّه وَرَسُولِهِ}. ولكنْ عندما يأتي الاختبار الكبير، تنبثق منه
الحقيقة الكُبْرى من خلال ما يفعله كرَدٍّ عَمَليّ على هذا الاختبار. فإن رجَّح
ألوان الحبّ المذكورة، سيكون قد أثبت عمليًّا وفعليًّا بأنها {أَحَبَّ} إليه
{مِنْ اللّه وَرَسُولِه وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ}.
والاختبار يكون عامًّا في درجات متفاوتة من الإجابات والتفاعلات العَمَليَّة؛ فهناك
مَن يُثبت صدقَه في حُبّ {اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ}
بدرجة مئة بالمئة. وهناك مَن يكون أقلّ، وهناك مَن يكون صفرًا.
نتائج الامتحان
تنتهي الآية الكريمة نهايةً بديعةً، تكمن فيها النتائج: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى
يَأْتِي اللّه بِأَمْرِهِ} فتَرَقَّبُوا {حَتَّى} يُعطي {اللّهُ}
لكلّ واحد نتيجته.
وهذا يحصل في الدنيا قبل الآخرة، لذلك ترى شخصًا كان في القمّة، سواءٌ في المال،
أو المنصب، أو الجاه، أو المهنة، وبغتةً يتهاوى وينتهي إلى الذلّ والمَهانة.
بينما شخصٌ آخر كان يُعاني من ضيق المعيشة، ولم يكن يجدْ عملًا، ولم يكنْ قادرًا
على الزواج. وفجأةً ترى حياتَه انقلبَت رأسًا على عقب نحو الإيجاب، فيجد عملًا يدرّ
عليه دخلًا جيدًا، ويتزوَّج، ويشتري بيتًا أفضل من الذي كان يسكنُه، ويتزوَّج،
ويُكوّن عائلةً، ويشتري سيارةً.
وليس هذا فحسب، بل يُقدّم مساعدات لأهل الحاجة الذين يمرّون بظروف صعبةٍ، بل يُصبح
مثالًا للإنسان المتفوّق في بلاده كلّها.
وكما أكرمَه الله -تعالى- في الدنيا، يُكرمُه أيضًا في الآخرة؛ لأنه نجح في
الامتحان، وأحسن استخدام النَّعيم عندما أتاه، كما أنَّه التزم بحدود الله عندما
كان محتاجًا. كما أن الرجل الآخر الذي انتهى إلى المَهانة في الدنيا، فإنه يلقاها
كذلك في الآخرة. وبين هذَين النموذجَيْن، هناك أناسٌ بدرجات مُتفاوتةٍ، كلٌّ بحسب
إجابته العملية والفعلية في الاختبار. من هنا يتبيَّن لك بأنّ الإنسان الكريم لا
يموت قبل أن يلقى تكريم الله له في الدنيا، والإنسان اللئيم لا يموت قبل أن يلقى
مذلة الله له في الدنيا.
فلا بدَّ لكلّ إنسان أن تصل إليه نتيجتُه {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِي اللّه
بِأَمْرِهِ}؛ وهذا عهدٌ قاطعٌ من الله -سبحانه وتعالى- للناس جميعًا ولا
استثناء فيه.
{وَاللّه لا يَهْدِي الْقَوْم الْفَاسِقِينَ}
الفسوق في هذا السياق، يعني الشذوذ، أي يشذّ عمَّا هو دون الصواب. والصواب كما
بيَّنَت الآية الكريمة هو أن يكونَ: {اللّه وَرَسُولِه وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ}
{أَحَبَّ} إليك من: أبيك، وابنك، وأخيك، وزوجك، وعشيرتك، ومالك، وتجارتك، ومسكنك.
لماذا؟
الإجابة:
لأنّ ما يقدر عليه الله لا يقدر عليه أحد، وما لدى الله ليس لدى أحد، وما تَفضَّل
الله به عليك لم يَتفَضَّل به عليك أحد. وأي مخلوق كائنًا مَن كان لا يستطيع أن
ينفعَك أو يضرَّك من غير أنْ يأذن الله بذلك.
فإن أراد الله أن يذلّ شخصًا، فلا أحد قط بوُسْعِه أن يُنجّيه من ذلك، حتى لو كانَت
الدُّنيا كلُّها رهن إشارته، وإن أراد أن يعزّ شخصًا، فلا أحد قط بوُسْعِه أن يمنع
وصول هذا العزّ إليه، مهما كان بائسًا في مجتمعه.
إذن، الفسوق هو الانحراف عن هذه الحقيقة الإلهيّة التي يُخبر بها الله عِبادَه في
هذه الآية الكريمة: {وَاللّه لا يَهْدِي الْقَوْم الْفَاسِقِينَ}؛ بيانٌ
بأنَّ الفاسق لا يُعزّه الله سواء في الدُّنيا أو الآخرة، وإن أعزّه بعض الوقت في
الدنيا بمالٍ، أو جاهٍ، أو مسؤوليَّةٍ، وما إلى ذلك؛ فهذا يكون من باب الاختبار
الذي يُظهر من خلاله معدنه الحقيقي، فتقع عليه الحجَّة، ولا يدوم له العزّ، في حين
أنّ العزّ يُديمُه الله -تعالى- لأرباب العز.
والعز درجات وتفرّعات؛ في الصِّحة، في المال، في المنزلة الاجتماعية، في العمل، في
السيرة، في الأبناء، في الزوجة، في الراحة النفسية، وفي المسكن المريح.
وهكذا كلّما استقام الانسان؛ زادَه الله عزًّا على عزٍّ، وكلّما فسق؛ أذْهَبَ الله
عنه عزَّه. وعلى هذا البيان: {وَاللّه لا يَهْدِي الْقَوْم الْفَاسِقِينَ}،
و{يَهْدِي الْقَوْمَ} الصالحين.
[1] أخرجه الترمذي (١٢١٠) وقال: حديث حسن صحيح.
[2] أخرجه ابن ماجه (٢١٣٩)، والطبراني في
«المعجم
الأوسط»
(٧٣٩٤)، والحاكم في
«المستدرك»
(٢١٤٢).