• - الموافق2024/11/23م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الصراع على إفريقيا

هذه الصراعات التي تشتعل في القارة؛ تذكرنا بأيام الحرب الباردة التي اندلعت في منتصف القرن الماضي بين الولايات المتحدة وبين الاتحاد السوفييتي عندما تنافسا في الهيمنة على العالم


في الشهور القليلة الماضية، ومن شرق القارة إلى غربها.. من شمالها إلى أواسطها؛ تشهد إفريقيا اضطرابات متوالية ومتعددة؛ فهناك حروب أهلية، وانقلابات عسكرية، وهجرات غير شرعية، ومجاعات، وغير ذلك من مظاهر الاضطراب والتوتر.

وبالرغم من أن تلك القارة السمراء قد عانت من مثل هذه الاضطرابات طوال المائة عام الماضية، حتى إن أحد أهم أسباب الحرب العالمية الأولى، هو تنافس القوى الاستعمارية على فرض النفوذ في القارة السمراء والاستفادة من مواردها.

ولكن في الآونة الأخيرة تجمَّعت هذه العناصر في توقيت متقارب على نحوٍ غير مسبوق.

ففي السودان تتمرد قوات الدعم السريع، وهي مجموعة مسلحة أنشأتها الدولة السودانية كوحدة عسكرية تتبع الجيش، ولكنها -بدعم إقليمي ودولي، وبعض القوى اليسارية والليبرالية في الداخل السوداني- شنَّت حربًا أهلية مريرة ضد الحيش السوداني منذ أربعة أشهر، قُتِلَ فيها -وفق آخر إحصائيات الأمم المتحدة- ما يقرب من ألف شخص، فضلًا عن إصابة ما يزيد عن 12 ألف شخص.

وفي السنوات الأخيرة اجتاحت القارة موجة جديدة من الانقلابات؛ شملت مالي وبوركينا فاسو وغينيا والسودان، وأخيرًا الانقلاب الذي جرى في النيجر يوم 26 يوليو 2023م ضد الرئيس المدني المُنتَخب قبل عامين.

وفي السنغال، وعقب انقلاب النيجر بيومين اندلعت مظاهرات فيها، عندما قام متظاهرون غاضبون بإغلاق الطرق الرئيسة، كما قاموا بإضرام النيران في أغصان أشجار وإطارات سيارات، قبل أن يبدأ الأمن في تفريق المحتجين، ليسقط قتيلان و3 جرحى، فيما كان هنالك 6 معتقلين خضعوا للتحقيق؛ جاءت هذه الاضطرابات احتجاجًا على حلّ السلطات السنغالية لحزب معارض.

وفي إثيوبيا ما كادت حكومة آبي أحمد تنتهي من تمرد قومية التجراي، وإذ بها تواجه تمرد ميليشيات فانو في إقليم الأمهرة التي دخلت في مواجهات عسكرية مع الجيش الإثيوبي.

هذه الصراعات التي تشتعل في القارة؛ تذكرنا بأيام الحرب الباردة التي اندلعت في منتصف القرن الماضي بين الولايات المتحدة وبين الاتحاد السوفييتي عندما تنافسا في الهيمنة على العالم، وتعرَّضت القارة الإفريقية حينها لسلسلة من الانقلابات والحروب الأهلية، بين موالين للاتحاد السوفييتي ومن يوالي الغرب.

 

والسؤال الآن: هل ستكون القارة الإفريقية ساحةً لتصفية حسابات القوى الكبرى مجدًدا مرة أخرى؟ وهل ستدفع شعوب القارة ثمن تشكُّل نظام عالمي جديد؟ وما هو سر هذا التدافع من القوى الدولية والإقليمية من مختلف بقاع الأرض للوجود في القارة السمراء، حتى إنه تم افتتاح ما يقرب من ثلاثمائة سفارة وقنصلية أجنبية في مدن القارة المختلفة؟

للإجابة عن هذه الأسئلة يلزمنا إلقاء الضوء على وضع الصراع الدولي الحالي، ثم نستعرض استراتيجيات القوى الكبرى في تهافتها على إفريقيا.

وفي النهاية نحاول أن نحلل أسباب اختيار القوى الكبرى لإفريقيا لحسم الصراع بينهم.

بين توازن للقوى وقوة مهيمنة وحيدة

في أواخر عهد ترامب كرئيس للولايات المتحدة؛ برز تصريح للسيناتور الديمقراطي البارز آدم شيف خلال جلسة مساءلة الرئيس الأمريكي السابق ترامب في الثالث من فبراير عام 2020م، أي قبل الغزو الروسي لأوكرانيا بنحو سنتين، وقبل أن تصل إدارة بايدن للرئاسة، يقول فيه: «نحن ندعم أوكرانيا وشعبها ليحاربوا روسيا هناك بالنيابة عنا بدلًا من أن نحاربها هنا».

وفي وثيقة «التوجيه الاستراتيجي المؤقت لاستراتيجية الأمن القومي»، والتي أصدرتها إدارة بايدن في بداية مارس2021م، أي بعد شهر ونصف من صعودها إلى البيت الأبيض، تضمَّنت تلك الوثيقة توجهات الإدارة الجديدة لوكالات الأمن القومي حتى تتمكَّن من العمل على مواجهة التحديات العالمية، بعد 4 سنوات من حكم الرئيس السابق دونالد ترامب.

وفي هذه الوثيقة جاء ذِكْر الصين وروسيا؛ باعتبارهما يهددان الهيمنة الأمريكية. وأشارت الوثيقة إلى ضرورة تأهُّب الولايات المتحدة لتلك المخاطر، بالقول: «يجب علينا أيضًا أن نتأهّب لحقيقة أن توزيع السلطة في جميع أنحاء العالم يتغير، مما يخلق تهديدات جديدة».

فالتصريح السابق وتلك الوثيقة يثبتان أن هناك توجهًا للحزب الديمقراطي، ومنذ عام ٢٠٢٠م، وأنه كان يُعِدّ العُدّة لاستعادة الهيمنة الأمريكية على العالم، والتي كان يراها تُواجه تحديات خطيرة من القوى الكبرى، وفي مُقدّمتها الصين وروسيا.

واختارت أمريكا أوكرانيا لتكون الأرض التي يجري فيها إسقاط الطموح الروسي في المنافسة وتحدي الهيمنة الأمريكية؛ بجَرّه واستنزافه في حرب طويلة يَفقد فيها قوّته وأدواته في الهيمنة، وأكّدت على ذلك المعنى نائبة وزير الخارجية الأمريكي للشؤون السياسية فيكتوريا نولاند خلال جلسة استماع في الكونغرس بعد شهر من الغزو الروسي، قالت فيها: «إن الولايات المتحدة ستسعى إلى إلحاق هزيمة إستراتيجية بروسيا في أوكرانيا».

ثم أعادت مساعدة وزير الخارجية الأمريكي التأكيد على هذا المعنى؛ حين صرَّحت بعدها في حديث لقناة الجزيرة القطرية: «إن النهاية الوحيدة المناسبة لهذه الحرب هي هزيمة القوات الروسية؛ فالتحالف الذي بَنَيْنَاه ضد روسيا عبر مختلف بقاع العالم بقي موحدًا»، مشيرة إلى أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يجب أن يواجه هزيمة إستراتيجية بعد حرب وحشية شنَّها دون سبب.

قاوم بوتين تلك الاستراتيجية لمدة عام ونصف مُحاوِلًا قلب المعادلة على الولايات المتحدة في أوكرانيا، ولكنه حتى هذه اللحظة بدا عجزه أمام إصرار الغرب بزعامة أمريكا على إلحاق الخسارة بروسيا ولَجْم نفوذها العالمي.

لذلك جاء تفكير بوتين في ضرب الغرب من الخلف في مناطق نفوذه التقليدية، واختار إفريقيا لتكون ساحة استنزاف روسية للغرب هذه المرة، وإثبات نفوذه العالمي وقدرته على المنافسة الدولية، وفي نفس الوقت خلخلة التركيز الغربي في دعم أوكرانيا، بفتح جبهة جديدة تُشتِّت الغرب، وتُخفِّف من وطأة الحشد الأمريكي الأوروبي ضده.

ولكن في نفس الوقت لم تصمت الولايات المتحدة على التمدد الروسي في القارة، في حين سبقت الصين الجميع بالانتشار في القارة.

صراع الاستراتيجيات في إفريقيا

مثَّلت إفريقيا مجالًا مثاليًّا لمواصلة التحدي ومحاولات تغيير طبيعة النظام الدولي.

وتنوَّعت استراتيجيات هذه الدول الكبرى بين العسكري والدبلوماسي والاقتصادي على النحو التالي:

استراتيجية الصين

أدركت الصين مبكرًا الأهمية الجيوسياسية لإفريقيا، ففي عام 1957م تجوَّل وفد يضم مسؤولين صينيين في ما يقرب من أربعين بلدًا إفريقيًّا.

ارتكزت الاستراتيجية الصينية على البُعد الاقتصادي والتنموي، والدخول في شراكات مع الحكومات المستقلة حديثًا، والتي تطمح إلى بناء دُوَلها في مرحلة ما بعد الاستعمار.

أما الركيزة الثانية، فهي حرص القيادة الصينية في شراكتها الاقتصادية، على تجنيب علاقاتها بالحكومات الإفريقية أيّ بُعد أيديولوجي، حتى ولا على سبيل الدعاية؛ كما يفعل الغرب في مسائل حقوق الإنسان، وغيرها.

كذلك رفعت الصين شعار عدم التدخل في شؤون هذه الدول الداخلية، وطريقة إدارة نُظُمها السياسية للحكم.

ولكن مع دخول الألفية الثانية، بدأت مرحلة جديدة من الاستراتيجية الصينية الإفريقية، ارتبطت بانتقال الصين نفسها في رحلة صعودها داخل النظام الدولي من مرحلة «صفر مشاكل» إلى مرحلة «التمدد السياسي في ساحات الفراغ التي تتركها الدول الكبرى».

ففي عام 2000م، تم تأسيس منتدى التعاون الصيني الإفريقي، الذي ظلت جلساته تُعقَد بانتظام، وعن طريقه عزّزت الصين استثماراتها الاقتصادية الضخمة، التي صارت مصحوبة بنفوذ سياسي داخل الحكومات الإفريقية لأول مرة في تاريخ هذه العلاقات، وترافق التمدد الصيني مع مبادرة الحزام والطريق الصينية، والتي تمثل فيها إفريقيا بُعدًا مُهمًّا مرتبطًا بكون القارة البوابة التي تشهد مرور التجارة الصينية من البر الصيني باتجاه أوروبا، لذلك كان التركيز الصيني على منطقتي القرن والشرق الإفريقي.

وتطبيقًا للاستراتيجية الصينية الجديدة على الأرض، جرى تدشين إنشاء أول قاعدة عسكرية صينية في الخارج في جيبوتي عام 2017م، والتي تضم ما بين خمسة وعشرة آلاف جندي صيني، لأداء مهام الحراسة في المياه الدولية قبالة سواحل الصومال، كما قامت ببناء خط سكك حديد بطول 750 كيلو مترًا عام 2017م، يربط جيبوتي بأديس أبابا؛ لتسهيل حركة نقل البضائع الصينية، وضمان سلامة تدفقها وتسريعها، كما بنت الصين محطة في كينيا للطاقة الكهروضوئية، بقدرة 50 ميغاوات، وبدأ تشغيلها عام 2019م، لتصبح أكبر مشروع باستخدام الطاقة البديلة في القرن الإفريقي.

وفي عام 2022م، وعلى أثر جولة قام بها وزير الخارجية الصيني في الدول الإفريقية؛ اقترح إنشاء منتدى «التنمية السلمية للقرن الإفريقي» يكون مقره في كينيا، كما أكد على سعي الصين لتعيين مبعوث صيني إلى القرن الإفريقي.

وهكذا دشَّنت الصين نفوذها السياسي والعسكري، بجانب تغلغلها الاقتصادي في إفريقيا. وإن كانت تُركّز على شرق القارة المرتبط بالاستراتيجية الصينية العالمية، وهي مبادرة الحزام والطريق، والتي تمثل الأداة الرئيسة لمحاولة صينية لإعادة تشكيل المعادلة الدولية وموازين القوى.

استراتيجية أمريكية جديدة

بعد اشتداد حرب أوكرانيا، ودخول التنافس الروسي الصيني الأمريكي مرحلة خطيرة من التنافس الجيوسياسي؛ أصدرت الولايات المتحدة منذ ما يقرب من عام وثيقة أطلقت عليها «استراتيجية الولايات المتحدة تجاه إفريقيا جنوب الصحراء».

ومن قلب جامعة بريتوريا في جنوب إفريقيا، أعلن وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن المحاور الأربعة للاستراتيجية الجديدة التي تركز على: تعزيز الانفتاح بما يتيح للأفراد والمجتمعات والدول اختيار طريقهم الخاصّ، وتعزيز التحول الديمقراطي في القارة، بجانب التعافي من آثار كوفيد-19 الكارثية، ومواجهة التغيرات المناخية، والانتقال إلى الطاقة النظيفة.

المصطلحات والكلمات التي جرى استخدامها في هذه الوثيقة، تُظهر الركيزة الأساسية التي تُبنَى عليها الاستراتيجية الأمريكية تجاه القارة؛ وهي: دعم النموذج الديمقراطي المأمول، بالتعهد بالسعي إلى وقف مدّ الانقلابات، ودعم المؤسسات القارية ومؤسسات المجتمع المدني لتعزيز القيم الديمقراطية، ومنح الأولوية لموارد مكافحة الإرهاب؛ بما يعزز الأمن والاستقرار الضروريين لتنشيط التحول الديمقراطي.

كذلك يمكن ملاحظة أن الوثيقة قد ذكرت روسيا سبع مرات، في سياق التنديد بنشاطها السلبي في مجالات التدخل العسكري والتضليل المعلوماتي وتداعيات غزو أوكرانيا على الدول الإفريقية.

وبعد صدور الوثيقة بثلاثة أشهر دعت أمريكا القادة الأفارقة إلى قمة في واشنطن؛ شارك فيها حوالي 50 من القادة والرؤساء الأفارقة.

وإذا كانت أمريكا تقدم النموذج الديمقراطي (النظري) في مواجهة النموذج الروسي؛ فهي تقدم أيضًا نموذج الدعم الاقتصادي في مواجهة التغول الصيني في القارة؛ فطرحت مشروع «الشراكة من أجل البنية التحتية العالمية»، من خلال العمل مع مجموعة السبع الكبرى، على جمع 600 مليار دولار تلتزم الولايات المتحدة بدفع 200 مليار منها؛ لتنفيذ مشاريع لتطوير البنى التحتية المرتبطة بالتحول الرقمي والطاقة وتحديات المناخ في إفريقيا.

الاستراتيجية الروسية

إذا كان الاقتصاد هو محور استراتيجية الصين تجاه إفريقيا، والديمقراطية هي محور الاستراتيجية الأمريكية؛ فإن الأنشطة العسكرية بأشكالها المتنوعة هي ركيزة روسيا الأساسية تجاه إفريقيا.

ووفقًا لبيانات معهد ستوكهولم الدولي للسلام؛ فإن روسيا هي أكبر مُصَدِّر للسلاح إلى القارة الإفريقية خلال العقد الماضي، في حين تتمدَّد شركاتها الأمنية الخاصة، وفي مقدمتها مجموعة فاغنر، في مجموعة من الدول الإفريقية كالسودان ومالي وليبيا، وغيرها؛ حيث تقترب موسكو من بناء ممرّ لنفوذها يمتدّ من شرق القارة إلى غربها.

فانتشار فاغنر في العديد من الدول الإفريقية مَكَّنها من نقل الذهب واليورانيوم وغيرهما من المعادن الثمينة إلى تجار الأسواق السوداء المعروفين، كما قامت بدعم طرف في الصراع مثلما يحدث في السودان، وتحمي الديكتاتوريين من شعوبهم، مثلما تقود الحرس الرئاسي في إفريقيا الوسطى، أو تحت مسمى المساهمة في مكافحة الإرهاب بمقابل، ويزداد الطلب عليها -كما ظهر جليًّا- من خلال رفع الأعلام الروسية؛ لجلبها لدعم انقلاب الجنرال عبد الرحمن تياني خلال التظاهرات التي نظَّمها العسكر دعمًا لهم، والتي شهدتها عاصمة النيجر نيامي، خلال الأيام الماضية.

ويُلاحظ مدير الأبحاث بمركز إفريقيا للدراسات الأمنية في واشنطن، جوزيف سيجيل، أنه بعد انقلاب بوركينا فاسو منذ عدة أشهر، قالت حسابات على تليغرام مرتبطة بفاغنر: «إن النيجر هدفنا التالي»، وأردف بلانك بأنه لو صح هذا التحليل، فإن هذا الانقلاب قد تم إلى حد ما بتحريض وتسهيل مِن قِبَل المخابرات الروسية وقوات فاغنر.

الاستراتيجية الروسية تعتمد على نظافة سِجِلّها في إفريقيا، فليس لها ماضٍ استعماريّ في القارة، كما تعتمد على تجنُّب التعامل والنظرة الدونية التي يشعرها الأفارقة تجاه التعامل الغربي معهم، وهذا سيُسَهِّل لهم التمدد كما يتصورون.

ولكن لماذا اختار بوتين إفريقيا بالذات لتكون مجالًا لتحدّي الغرب؟ المثير في الأمر أن الصين قد اختارت من قبله نفس التحدي والبيئة، بل الأكثر أن هذا ما شرعت فيه أيضًا الولايات المتحدة.

إفريقيا ساحة الصراع

هناك عدة فرضيات تُفسِّر أسباب اختيار القوى الكبرى قارة إفريقيا لتكون ساحة للصراع بينهم:

الفرضية الأولى: أهمية إفريقيا الجيواستراتيجية:

مصطلح الجيوستراتيجية يبحث في المركز الإستراتيجي للدولة أو الوحدة السياسية، سواء في الحرب أو السِّلم، فتتناوله بالتحليل إلى عناصره أو عوامله الجغرافية العشرة، وهي: الموقع، والحجم، والشكل، والاتصال بالبحر، والحدود، والعلاقة بالمحيط، والطبوغرافيا، والمناخ، والموارد، والسكان.

ولو طبقنا عناصر الجيوسياسية على القارة الإفريقية، سنجد أنها تعد ثاني أكبر قارات العالم بعد آسيا، وتبلغ مساحتها حوالي 30 مليون كلم مربع تُشكِّل ما نسبته قرابة الـ20% من مساحة اليابسة في الكرة الأرضية، يوازي حجمها تقريبًا عشرة أضعاف حجم الهند وثلاثة أضعاف مساحة الصين، كما أنَّ موقعها يُعتبر موقعًا استراتيجيًّا؛ حيث تتوسط قارات العالم.

ولكنَّ أخطر ما في القارة أنها تتحكم في ثلاثة ممرات مائية هي أكثر الممرات أهمية للتجارة العالمية؛ وهي: قناة السويس، ومضيق باب المندب، ورأس الرجاء الصالح، ولولا الاحتلال الإسباني البريطاني لكانت أشرفت أيضًا على مضيق جبل طارق.

ومن حيث حجم السكان تضم إفريقيا حوالي 800 مليون نسمة، تمثل قرابة 15% من مجمل سكّان الكرة الأرضية.

أما من جهة الموارد، فالقارة تضم في باطن أراضيها ثروات طبيعية ضخمة.

فإحصائيات الأمم المتحدة تقول: «إن إفريقيا تُعدّ مصدرًا لنحو 30 في المائة من احتياطيات العالم من المعادن؛ كما أن القارة لديها ما يقرب من نصف احتياطي العالم من الذهب، ونفس النسبة من الألماس في العالم، ونحو 90 في المائة من الكروم والبلاتين. وأما بالنسبة لليورانيوم فإن 18% من اليورانيوم الذي يُورّد عالميًّا يأتي من 3 دول إفريقية؛ هي: جنوب إفريقيا والنيجر وناميبيا. وتملك إفريقيا 65 في المائة من الأراضي الصالحة للزراعة في العالم، وما يقرب من 10 في المائة من مصادر المياه العذبة المتجددة الداخلية، فالقارّة تمتلك حوالي 4 آلاف كلم3 من تلك المصادر.

وتضم القارة حوالي 10% من احتياطي النفط العالمي المثبت، ويتركّز معظمه (بنسبة 60%) في ثلاث دول رئيسية منتجة هي نيجيريا والجزائر وليبيا، في حين تبلغ احتياطيات الغاز المثبتة في القارة حوالي 8% من نسبة الاحتياطيات العالمية، ويتوزّع أكثر من 75% من هذه النسبة في ثلاث دول أيضًا هي: نيجيريا والجزائر ومصر».

ومن مميزات النفط والغاز الإفريقي: سهولة استخراجه نسبيًّا، وسهولة تسويقه أيضًا؛ بسبب موقع القارة الاستراتيجي بين قارات العالم من جهة، وبسبب تركُّز كميات كبيرة من النفط على السواحل أو في المياه الإقليمية لدولها.

الفرضية الثانية: الحقبة الاستعمارية وتأثيرها

ترك الاستعمار القديم -والذي كان في الأساس استعمارًا غربيًّا- ندوبًا نفسية عميقة في العقلية الجمعية الإفريقية.

فمنذ أن هبط الرجل الأبيض إفريقيا، عمل على سَلْب مواردها سواء الطبيعية من طاقة ومعادن، أو بالعمالة البشرية فيما عُرف تاريخيًّا بتجارة الرقيق، وبفضل هذه الموارد المادية والبشرية بنى الأوروبيون حضارتهم في أرضهم القديمة، أو في مستعمراتهم الجديدة في أمريكا.

وظلت القارة تعاني حروبًا لا متناهية، وسفكًا للدماء، وفقرًا وفوضى سياسية، وضغوطًا دولية على مدى القرنين الماضيين.

ثم جاءت مرحلة الاستقلال؛ حيث حرص المستعمرون لضمان نفوذهم في القارة على أمرين:

تقسيم القارة إلى وحدات وكانتونات، ثم بناء نُظُم سياسية هشَّة وضعيفة.

فقد رسم الاحتلال الأوروبي الحدود الإفريقية، والتي تضم أكثر من 175 جماعة إثنية إفريقية إلى دول اضطر أفرادها إلى التشتت؛ ليتم توزيع كل إثنية على دولتين أو أكثر بفعل هذه الحدود المصطنعة.

ولا يقتصر مساوئ تلك الحدود على البعد الإثني، ولكن أيضًا تطول الوضع الجغرافي للكيانات الإفريقية.

فهناك بعض الدول مثل غامبيا وليسوتو، في معظمها أو بكاملها داخل بلدان أخرى. وهناك دول محرومة من منفذ بحري، فتصبح بالتالي معتمدة على جيرانها في الوصول إلى البحر. وتنتمي إلى تلك الفئة الأخيرة، معظم البلدان الضعيفة في منطقة الساحل، أي بوركينا فاسو وجمهورية إفريقيا الوسطى وتشاد ومالي والنيجر.

بنت الدول الاستعمارية النظم الإفريقية على دعامتين: نظام سياسي هشّ، واقتصاد ريعيّ يضمن استمرار تدفق الموارد الإفريقية إلى أوروبا.

بالنسبة للنظام السياسي، سيطرت النخب العسكرية على هذه الدول بتشجيع من الدول الاستعمارية؛ سواء القديمة كفرنسا وبريطانيا، أو الجديدة في مرحلة الحرب الباردة كالاتحاد السوفييتي وأمريكا، لذلك توالت الانقلابات العسكرية التي كان معدلها في الستينيات والسبعينيات ما يقرب من محاولة واحدة كل 89 يومًا.

لقد فتحت هذه النُّخَب الفاسدة الباب للمنافسة الدولية الاقتصادية، لكي تبني شبكات الطرقات، وقصور المؤتمرات الفاخرة، والفنادق، والاستراحات، وقصور النخب السياسية والعسكرية، والمدن الحديثة، مقابل حصيلة الثروات الإفريقية.

ولكن في أعقاب الحرب الباردة حدث تحسُّن في أوضاع الدول الإفريقية السياسية؛ فقد انتقلت بلدان كثيرة إلى انتخابات متعددة الأحزاب، واعتمدت دساتير جديدة تضمَّنت تحديد فترة الرئاسة.

ووفقًا لأحدث ما أصدره «مؤشر إبراهيم عن نُظم الحكم في إفريقيا»، ونشرته المؤسسة التي يُديرها رجل الأعمال السوداني محمد إبراهيم في عام 2021م: «يعيش أكثر من 60 في المئة من سكان إفريقيا الآن في بلد تحسَّنت فيه نُظم الحكم بشكل عام على مدى العقد الماضي، حتى إنه -وفقًا لاستطلاعات مركز أفروباروميتر- يرفض أكثر من 70 في المئة من الأفارقة الحكم العسكري، وأكثر من 80 في المئة يرفضون حكم الرجل الواحد.

ولكن في الآونة الأخيرة ومع عودة أجواء الحرب الباردة، والاستقطاب بين القوى الكبرى، ونقل صراعهم إلى إفريقيا؛ عادت ظاهرة الانقلابات العسكرية مرة أخرى، وتضاءلت فرص التغيير السلمي والتنافس السياسي المشروع».

أما الاقتصاد، فغالبية الدول الإفريقية تعتمد على تصدير الموارد، سواء الخشب، أو القطن، أو الكاكاو، أو الشاي، أو القهوة. بينما لا تستطيع هذه الدول زراعة القمح والذرة، مما يضمن أمنها الغذائي؛ فهي تستورد الغذاء لإطعام شعوبها. وقد سلطت الحرب في أوكرانيا الضوء فجأة على حقيقة أن معظم البلدان الإفريقية مستوردة صافية للقمح، فيما تعتبر روسيا وأوكرانيا أكبر مزوّدين للقمح، حتى إن معظم الطرق والسكك الحديدية التي بنتها القوى الاستعمارية تم تصميمها من أجل نقل السلع الخام إلى الموانئ، لا لربط المدن داخل هذه البلدان، أو ربط الدول المجاورة ببعضها، فأصبح مثلًا نقل البضائع من غرب إفريقيا إلى الصين أقل كلفةً من نقلها من غرب إفريقيا إلى شرقها.

وفي النهاية أشارت تقارير المؤسسات الدولية إلى الوضع المعيشي السيئ للأفارقة على النحو الآتي:

متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي يزيد قليلًا على 2000 دولار، وبذلك تظل إفريقيا أفقر قارة على الإطلاق. ومن بين 46 دولة صنَّفتها الأمم المتحدة بوصفها البلدان الأقل نموًّا، هناك 35 دولة إفريقية. ويعيش أكثر من ثلاثة أرباع سكان القارة في بلدان يتدنى متوسط العمر المتوقع والدخل والتعليم، بكثير عن المتوسط العالمي. ووَفق وصف الدبلوماسي الغاني كوفي عنان الأمين العام السابق للأمم المتحدة؛ فإن إفريقيا «قارة غنية يعيش فيها كثير من الفقراء».

إذا كانت القوى الكبرى تتصارع على إفريقيا لتصفية حسابات بينها، أو حرصًا على استمرار استنزاف موارد القارة، أو لكونها حديقة خلفية لفرض أجندتها في شكل النظام الدولي؛ فإن أبناء القارة لديهم الآن هذه الفرصة السانحة لفرض استقلال حقيقي لقارتهم بعيدًا عن التبعية؛ سواء لشرق أم لغرب، ووفق أجندة قائمة على مصلحة شعوبهم ودولهم فقط، فهل سيستطيعون استغلال هذه الفرصة السانحة؟

 


أعلى