• - الموافق2024/11/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
تفعيل دور الزكاة لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية

تفعيل دور الزكاة لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية

استراتيجية التفعيل:

الرؤية:

إنشاء وزارة منفصلة للزكاة في كل بلد إسلامي، تتبعها فروع إقليمية بالولايات، على أن يكون هنالك بيت المال المركزي (بمثابة بيت مال المسلمين)، والذي يكون مقره في بلد إسلامي يُختار بالاقتراع؛ والذي تنبع أُصوله من مساهمات الدول الأعضـاء، وفوائـض مصـارف الزكاة وسهمَيْ (في سبيل الله) و (المؤلفة قلوبهم)، بالإضافة لريع الوقف العينية والوقتية، ودخول المنظمات الخيرية من التبرعات والهبات والنذور والتَرِكات.

يضم بيت المال المركزي مجلس أُمناء الخزينة، وهيئة كبار علماء المسلمين، والمصرف الإسلامي المركزي والذي ينتهج دساتير وسياسات لأسلمة البنوك التقليدية بالبلاد الإسلامية، ويمثِّل المرجع الأساس للمصارف الإسلامية الحالية، وينفذ خططاً استثمارية لا ربوية طموحة من شأنها النهوض بميزانية بيت المال المركزي.

يلتقي أمناء خزينة بيت المال المركزي وأمين عام المصرف الإسلامي المركزي وِثِقات عُلماء المسلمين بوزراء الزكاة وأمناء المصارف الإسلامية في مؤتمر عالمي جامع يُعقد سنوياً بمكة المُكرّمة أثناء موسم الحج للتفكُّر والتشاور، والتناصُح والتدريب، ومناقشة الميزانية العامة لبيت المال المركزي، ومقابلة حاجيات الدول الإسلامية الفقيرة والمستضعَفة والمنكوبة، ومحو أمية أُمة اقرأ، وتعزيز التضامن الإسلامي الجاد، وذلك بعقد صفقات التكامل الاقتصادي والتجارة البينية والنقل البري لتنفيذها فور رجوعهم؛ توطئةً لعمل سوق جماعية وعُملة مُوحَّدة تحت مظلة (كومنولث أو اتحاد فدرالي) إسلامي؛ وذلك لجمع شمل أهل القبلة على كلمة التوحيد، وتوحيد الكلمة اعتصاماً بحبل الله وترسيخاً لقوله - تعالى -: {وَالْـمُؤْمِنُونَ وَالْـمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْـمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71].

الهدف:

من أجل تنمية اقتصادية واجتماعية تعم بلاد المسلمين يجب إنفاذ فريضة الزكاة بجعلها جزءاً أصيلاً لا يتجزأ من النظام المالي الاجتماعي للدولة. فالأصل أن تتولى الدولة جبايتها وتوزيعها في مصارفها عبر هيئة مستقلة ذات شخصية اعتبارية تضم هيكلاً إدارياً ومالياً متخصِّصاً، وشرطة للجباية. ومع نبذ الربا، تنطلق الزكاة عبر خِطابٍ فاعلٍ ووعاءٍ شاملٍ للبناء الذاتي والتكافل الإيماني بدءاً بتزكية الفرد والأسرة والمجتمع، وتشجيع وإتقان الأعمال الحِِِِرْفية والصناعات الصغيرة محلياً لدرء الفقر ومحاربة البطالة، وعالمياً لإعمار الأرض حتى ننعم بنصر الله تأصيلاً لقوله - تعالى -: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5].

الزكاة جوهر عَقَدي وموروث حضاري وأداة للتمكين:

قال - عزَّ وجلَّ - في مُحكم كتابه الكريم:

{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. [التوبة: 103]

{وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ 24 لِلسَّائِلِ وَالْـمَحْرُومِ} [المعارج: 24 - 25].

{وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33].

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267].

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

- «أُمرت أن أُقاتِل الناس حتى يشهدوا أنْ لا إله إلا الله، وَأنَّ مُحمداً رسول الله، ويقيموا الصَّلاة ويؤتوا الزكاة؛ فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله»[1].

- «ولم يَمنَعوا زكاة أموالهم إلا مُنِعوا القَطْر من السَّماء، ولولا البهائم لم يُمطروا»[2].

- «من آتاه الله مالاً فلم يؤدِّ زكاته، مَثُلَ له يوم القيامة شجاعاً أقرعَ، له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، ثُم َّ يأخذ بلهزمتيه (يعني بشدقيه) ثُمَّ يقول: أنا مالك، أنا كنزك» ثُمَّ تلا النبي صلى الله عليه وسلم الآية: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُم بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 180][3].

- «ما نقص مالٌ من صدقة»[4].

لقد فرض الله الزكاة وأحلَّ البيع، وحرَّم الربا من أجل الطُهر والبركة والنماء، وجعل إخراج زكاة أموالنا تمام إسلامنا.

فالزكاة في ظاهرها النقصان وفي باطنها الزيادة المباركة، والعكس في الربا الذي ظاهره الزيادة وباطنه النقصان والخسران.

فمِما لا شك فيه أنَّ الزكاة هي ثالث دعامة من دعائم الإسلام الخمس، وتُمثِّل الركن المالي والاجتماعي، وبها - مع التوحيد وإقامة الصَّلاة - يدخل المرء في جماعة المسلمين، ويستحق أُخوَّتهم والانتماء إليهم، كما قال - تعالى -: {فَإن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11]. فقد ورد في القرآن الكريم لفظ الصَّدقة بمعنى الزكاة؛ واللفظان متطابقان. فالقاعدة الأصولية هي أنَّه إذا ورد لفظ الصَّدقة وحده فيعني الزكاة لا غير، مثلما يُذكر لفظ الإسلام وحده ليعني الإيمان، وكما قال الإمام الماوردي: «الصَّدقة زكاة، والزكاة صدقة، يفترق الاسم ويتَّفق المسمَّى»[5]. فالعُرف حَوَّل معنى الصدقة للتصدُّق بما تجود به النفس على المتسوِّلين، وعندها ارتبـط مفهوم الصدقة أو الزكاة لدى كثير من الناس بالتطوُّع والعمل الخيري لا بالإلزام والوجوب. فالصَّدقة شقيقة الصِّدق، وتعني تمام التصديق بلزوم مساواة الفعل البدني (كالصَّلاة والصوم) بالفـعل المـالـي الاجتـماعـي (الزكـاة) بالقول والاعتقاد، ولذلك لا يكفي التوحيد وحده، بل اجتماع الفعل والقول والاعتقاد كلُحمة للعقيدة السليمة. فالزكاة هي حق (لا إله إلا الله)، وتُمثِّل جسر التواصل وواسطة العقد لتأكيد هذا الارتباط من خضوعٍ بالعبودية لله، إلى اعترافٍ بفضل الله على عباده بما منحهم إيَّاه من أموال، والإحسان للآخرين بإيتاء الزكاة وجوباً وليس تفضُّلاً عليهم، كدليل للإيمان الصادق كما روى مسلم: «والصَّدقة برهان».

من جانب آخر تسعى الزكاة لربط الدين بالدولة عبر تحقيق التوازن الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي، والعكس ينتج عنه ضَنَك العيش والتضخُّم الاقتصادي الذي يعيشه المسلمون اليوم لعدم تمكينهم لشرع الله. فكما هو معلوم أنَّ الزكاة شُرعت في المدينة المنوَّرة بعد الشهادتين والصَّلاة والصيام قبل الحج والجهاد، بَيْد أنَّها فُرضت على الأنبياء والمرسلين وأُممهم قبل البعثة المُحمدية ومنهم: سيدنا إبراهيم الخليل وإسحق ويعقوب وإسماعيل وعيسى - عليهم السلام - الَّذين دعوا للإسلام العام؛ إذ قال - تعالى - على لسـان المسـيح عيسـى ابن مريم - عليهما السلام - في المهد: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم: 31]. فجاء رسولنا الخاتم صلى الله عليه وسلم الذي بُعث للعالمين كافةً بشيراً ونذيراً فقال: «بُني الإسلام على خمس: شهادة أنَّ لا إله إلا الله، وأنَّ محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً»[6].

فنـجد في القرآن الكريم - الذي هو دستور الأمة المسلمة حقاً - اقترانَ الأمر بإيتاء الزكاة بإقامة الصلاة في ثمانية وعشرين موضعاً. فالزكاة رغم أنَّها قرينة الصَّلاة؛ لكنَّها ليست عبادة كسائر الأُمور التعبُّدية التي لا تقبل القياس والاجتهاد من صَّلاة وصيام وحج؛ فهي عبادة مالية، وحقٌّ معلومٌ، وضريبة مقرَّرة، وجزء من النظام المالي والاجتماعي والاقتصادي للدولة. مع ذلك لا نجد الزكاة تنال الاهتمام المطلوب لا من قِبَل العلماء والباحثين، ولا من أصحاب القرار والرسميين من قِبَل الحكومات. فدوْر الزكاة مُهمَّش ومنغلق في مصالح وبيوت هزيلة للزكاة أو منظمات خيرية أو صناديق لمعالجة الفقر، تفتقر لمقوِّمات الإدارة والبحث الاجتماعي والرقابة الدقيقة.

فالأصل أن تتولى الدولة تحصيل الزكاة وتوزيعها في مصارفها الشرعية حتى نحظى بنصر الله كما استنبط العلماء من قوله - تعالى -: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ 40 الَّذِينَ إن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْـمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْـمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج: 40 - 41]. وجاء تأكيد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً لدور ولي الأمر لإنفاذ الزكاة بكـل تجـرُّد ومسؤولية وبأرقى السـُبل، وجعلها جزءاً أصيـلاً لا يتجزأ من النـظام المـالي الاجتماعي للدولة؛ والدليل على ذلك حديث ابن عبـاس - رضي الله عنه - في الصَّحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعـث معـاذ بـن جبل - رضي الله عنه - إلى اليمن فقال له: «... فأعلمهم أنَّ الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فتُردُّ على فقرائهم... الحديث».

إذن فإن إقامة فريضة الزكاة غاية من غايات التمكين في الأرض؛ لأنَّ الزكاة تعود بالنفع الشامل على المجتمع والفرد؛ مع الأخذ في الحُسبان أنَّ الغِلظة والحزم تجاه كل مكلَّفٍ مُماطل أو مُتحايل تُعادِل بالمثل مدى صدق شفقتنا على الفقير المعوَز والمسكين المحروم، وكامل حرصنا على إطفاء نار الحقد والحسد تجاه الأغنياء، وبها نستحق رحمة الله كما قال - عزَّ من قائل -: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 156].

فالآن نجد ديوان الزكاة بالسُّودان، وبيت الزكاة بالكويت، ومصلحة الزكاة والدخل بالسعودية؛ لكننا نفتقد وزارة للزكاة تقف سامقة وسط وزارات العمل والعدل والحج وغيرها. وهدفنا السامي يرمي إلى قيام وزارة الزكاة لإرساء إحدى قواعد الدولة المسلمة المتراحمة في ما بينها بمشاركة المجتمع نفسه؛ وذلك للنهوض بأمتنا المتميزة أمة مُحمَّد صلى الله عليه وسلم من ويلات التخلُّف الاقتصادي والكساد الربوي في عهد وقع فيه الشباب فريسة سهلة للقروض البنكية المستشرية وبطاقات الائتمان وعهد ساده التقوقُع والبطالة والانحلال.

فالزكاة تُمثل التنظيم المالي الوحيد الذي عرفه البشر على مر العصور والذي يهدف لتحقيق مبدأ التكافل الاجتماعي القائم على مبدأ الأخوة الإيمانية وصدق الاعتقاد. فهي من أهم مصادر التمويل الثابتة والدائمة لبيت مال المسلمين في أي دولة تسعى لتحقيق الرفاهية والعدل والمساواة. ففي قيام وزارة منفصلة للزكاة إضفاءٌ للصبغة الرسمية والكفاءة الإدارية لإحقاق الحقِّ مع مراعاة الحزم والعدل، وتقدير الحاجات بتقديم الأهم على المهم، لأداء هذه الشعيرة القُدسية على أكمل وجه بدءاً بالتحصيل الدقيق المتميِّز، وانتهاءً بالتوزيع المُنصف الشامل، بعيداً عن أجواء المحسوبية والمحاباة، وذلك عبر التمليك المباشر والفوري للمستحقين من جهة، واكتشاف مقدرات الفئات الفقيرة المنتجة وتنميتها من جهة أخرى منعاً للتواكل.

فيجب ألا تتبع الزكاة لوزارة المالية أو الشؤون الاجتماعية كما هو الحال في بعض البلدان الإسلامية شأنها كشأن سائر المصالح كالضرائب والجمارك والضمان الاجتماعي؛ فالزكاة أمرٌ رباني وليس أمراً مدنياً بحتاً كي تصب حصيلته في خزينة الدولة. كما سيضفي قيام الوزارة مزيداً من النفوذ والشرعية لآلية تحصيل الزكاة؛ لأنَّّ الوزير مُكلَّف من قِبَل ولي الأمر لجباية الزكاة عبر قنوات متخصِّصة من صميم هيكل وزارته، ومفوَّض في استعمال القوة القسرية والعقوبات التعزيرية وخصوصاً لو امتنع الشخص أو الجهة عن دفع ما (عليه أو عليها) من مستحقَّات وبخاصة على نطاق الشركات الكبرى والمؤسسات والبنوك.

الأمر الآخـر هـو تثبُّت المكلَّفين من أنَّ أموالهم في أيدٍ أمينة؛ لأن الوزارة بعكـس المنظـمات الخيـرية تكـون محل ثقة وهيبة وهي بنفسها تحصي المكلَّفين وتصل إليهم في أماكنهم لتأخذ الزكاة إلزاماً وليـس طـوعاً، وتشرف على توزيعها على مستحقيها عبر جهاز قوي أمين، حفيظ عليم من العاملين عليها. هذا مع الأخذ في الحُسبان أن كل ما كان من جانب الإحسان أو التطوُّع أو شتى القربات، مثل التبرُّعات أو الأوقاف أو الهبات أو النذور أو الكفارات، والذي يأتي بعد دفع الزكاة المفروضة أولاً، يندرج تحت مصرف منفصل ليُصرف على غير مصارف الزكاة المشروعة: كبناء المدارس وتشييد المستشفيات والمساجد وحفر الآبار والتشجير وتمويل مشاريع الدعوة الإسلامية بضروبها المختلفة؛ وذلك في بلدها الأصلي أو تُنقل للدول الإسلامية الفقيرة عبر التنسيق مع بيت المال المركزي كما سيرد لاحقاً. أيضاً تأتي جاهزية وزارة الزكاة لإشاعة الفرحة والإخاء ومنع التسوُّل في أيام العيدين؛ وذلك بدءاً بجمع زكاة الفطر عن الأشخاص في شهر رمضان الكريم والتعهُّد لهم بتوفير الحبوب والثمار وتوزيعها بارتياح لمستحقيها قبل حلول عيد الفطر؛ وذلك عبر فروعها المنتشرة في الولايات بالتنسيق مع لجان الزكاة المحلية، وبالعمل مع بيت المال المركزي ووزارة الحج في توزيع لحوم الهدي والأضاحي لفقراء الحرمين الشريفين وما فاض عنها لفقراء الأقصى وباقي دول العالم؛ وذلك أثناء موسم الحج وعيد الأضحى المبارك.

 موارد الزكاة العصرية وهيكل الوزارة المُقترح:

وعاء الزكاة يشمل ثروات ودخولاً حديثة غير الأنعام والنقود والزروع والثمار: فهنالك المُستغَلات من العمارات الشاهقة والفنادق الفخمة التي تُشيَّد للإيجار والاستغلال، والمصانع الكبيرة والآلات والأجهزة المتنوِّعة، وشتى رؤوس الأموال الثابتة أو المنقولة التي تدرُّ على أصحابها أموالاً غزيرة من إنتاجها أو إكرائها للناس: كالسفن والسيارات والطائرات والمطابع وغيرها. وهنالك أنواع من الشركات التجارية والصناعية، وهنالك المال المستفاد من ذوي المهن الحرة كالطبيب والمهندس والمحامي وغيرهم من أصحاب الأجور والمكافآت من موظفين وعُمَّال. فإذاً تجب الزكاة في كل مالٍ نامٍ ظاهرٍ أو مِلك حُر بغرض التجارة والاستثمار؛ فمثلاً دول الخليج العربي غنية بثرواتها البترولية والمعدنية والبحرية، وماليزيا المتحضِّرة غنية بثرواتها الغابية والصناعية، والسودان غني بثرواته الزراعية والحيوانية.

وخصوصية الزكاة تنبع من أنَّها لا تسقط لعدم وجود الحـاجـة إليها، ولا تُستـبدَل بمـوارد أُخرى لنـيل منفـعة مباشرة كالرسوم والضرائب وغيرها، وأنَّ مصارفها الشرعية محدودة ومعروفة. فقد اعتَلَت سورة التوبة القرآن المدني في العـناية بأمـر الزكـاة بتصـدُّرِها للوعيد لمانعي زكاة النقود بقوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ 34 يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 34 - 35]. وفي الآية الكريمة منع صريح للاكتناز والقبض واحتكار السلع، وحثٌّ على الاستثمار والتداول بإخراجهم للزكاة حتى لا تأكل الزكاة أموالهم. كما أوصى المصطفى صلى الله عليه وسلم بإخراج الزكاة حتى من مال اليتيم كما روى الشـافعي: «ابتـغوا في مـال اليتـيم (أو أمـوال اليتامى) لا تذهبها (أو لا تستهلكها) الصَّدقة»[7].

 فلو حُصِّلت زكاة جميع الشركات والمؤسسات والبنوك وكل ما حال أو تحقَّق عليه الحوْل، وبلغ النصاب: من ذهب، فضة، ماس، بلاتين، لؤلؤ، رِكاز، معادن، أراضٍ، مُستغَلات، صناعات، سوائم، عروض تجارة، زروع، ثمار، رواتب لما بقي فقيرٌ في عالمنا الإسلامي.

أمر الزكاة على الرغم من أنه سهل لكنه لا يعني بأي حالٍ من الأحوال التساهل في أخذ الزكاة أو تركها للأفراد لتأديتها على غير وجهها. فالزكاة تحتاج لهيكل تنظيمي أو جهاز إداري ومالي متخصِّص حتى يواكب تطور عجلة الحياة ويقابل تنوُّع الأنشطة الاقتصادية والثروات. فموظَّف الزكاة يجب أن يكون مسلماً ما لم يكن حارساً أو سائقاً؛ وأن يكون مُكلَّفاً؛ وأن يتَّصف بالنزاهة التامة والدِّقة الفائقة؛ لأنَّ من يأكل مال الزكاة من غير وجه حق مصدَّق له به فكأنَّما يأكل الجمر (بمعنى الحديث)؛ ولا يجوز له أخذ الهدية مهما كان؛ فهي رشوة كما ورد في حديث ابن اللَّتْبية المشهور.

موظَّفو الزكاة يجب أن يُدرَّبوا على أمر الزكاة فقهاً وأداءً، ويعملوا في وزارة الزكاة بالمشاهرة لحين إثبات جدارتهم، على أن يتقاضوا رواتب مُجزية تُؤخذ من مصرف (بند) العاملين عليها، وينبغي ألا تتعدَّى ثُمُن حصيلة الزكاة كحد أقصى كما يرى الشافعية.

 الجباية:

الجباية رسالة صعبة، وليس بمقدور السُعاة (مندوبي الجباية) وحدهم إقناع كل من يلزم التحصيل منهم. فَلا بُدَّ أن يضم فريق الجباية عناصر مؤهَّلة وحاذقة ومتخصِّصة في علمَي المحاسبة والتكاليف ومُلمة بفقه المعاملات والبيوع. أيضاً من الضروري أن يصحبهم محاسبون قانونيون وهيئة محقِّقين محلَّفين بمرافقة شرطة الجباية التابعة لوزارة الزكاة. فشعيرة الزكاة في المقام الأول رسالة لين ولطف وتنوير وهداية لمن يعيها مع الشدَّة والقهر إذا استدعى الأمر ذلك. فإدارة العلاقات العامة والإعلام إدارة منفصلة وأداة فعَّالة تخدم آلية الجباية، وتعمل معها جنباًً إلى جنب لبلورة خطاب الزكاة نحو تكافل وتآزُر المجتمع المسلم على كافة الأصعدة إرساءً للعدل والمساواة، ولئلا يكون المال دُولةً بين الأغنياء أو حِكراً لحِفنة من الأثرياء حتى ينفقوا بسخاء من مال الله الذي جعلهم مستخلَفين فيه.

بعدها يأتي دور المراجعة والتفتيش للتدقيق والمطابقة انتهاءً بالتحقُّق بأداء اليمين (القَسَم) من قِبَل أصحاب الأعمال والشُركاء والمساهمين في الأنشطة (زراعية كانت أم رعوية أم تجارية أم صناعية أم خدمية) أمام هيئة المحلَّفين المعتمدة لدى الوزارة، وذلك بعد مراجعة السجل التجاري والمصادقة على صحَّة الإحصاءات وصحَّة رؤوس الأموال والأرباح والديون، ورصد ذلك عن طريق أنظمة شبكات الحاسب الآلي الخاصة بضبط ومراقبة حركة أرصدة حسابات الأفراد والشركات إلكترونياً والتابعة لإدارة الفحص والربط الآلي.

على وزارة الزكاة بكل بلد وفروعها بكل ولاية أن تكفل لشرطة الجباية كامل الصلاحيات لاتخاذ كافة الإجراءات القانونية الحاسمة والفورية حسب اللائحة الشرعية التي تضعها الإدارة القانونية من قِبَل مستشاريها. مرجع هذه القوانين هو الكتاب والسُنَّة بالإضافة للقياس والإجماع والاجتهاد التي تُجاز بواسـطة هيـئة كبـار علـماء المسلمين التابعة لبيت المال المركزي أو مـن ينـوب عنها مـن لجـنة الفُتيـا والتـظلُّمات التـابـعـة للإدارة القانونية بكل وزارة؛ ومجملها هو أنَّ الإسراع بإخراج الزكاة أمر رباني لا يقبل المفاوضة؛ فقد أجمع المسلمون في جمـيع العصـور على وجوبها، واتَّفق الصحابة - رضي الله عنهم - على قتال مانعيها؛ فروى البخاري بإسـناده عـن أبي هـريرة - رضي الله عنه - قال: «لمَّا توفي النبي صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر - رضي الله عنه - وكفر من كفر من العرب، فقال عمر - رضي الله عنه -: «كيف نقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله؛ فمن قالها فقد عصم منـي مـاله ونفـسه إلا بحـقه وحـسابه على الله»؟ فقال أبو بكر - رضـي الله عـنه -: «أليـست الزكاة من حق لا إله إلا الله؟ واللهِ لأُقاتِلن مَن فرَّق بين الصلاة والزكـاة؛ لأنَّ الزكاة حـق المـال؛ واللهِ لو منعـونـي عقالاً (وفي لفظ عناقاً) كانوا يؤدونها إلى رسـول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها»، فقال عمر - رضي الله عنه -: «رأيت الله قد شـرح صدر أبي بكر - رضي الله عنه - للقتال فعرفت أنَّه الحق».

فأما من يتهاون أو يتأخر في دفع الزكاة تؤخذ منه الزكاة قهراً مع مصادرة نصف (ماله أو مالها) تعزيراً وتأديباً لمن كتم حق الله في ماله كما روى أحمد والنسائي وأبو داود، وكما روى البيهقي في سننه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «من أعطاها مؤتجراً فله أجره، ومَـن منعها فإنَّا آخذوهـا وشـطرَ ماله، عزمةً من عزمات ربنا، لا يحل لآل مُحمَّد منها شيء».

مصارف الزكاة:

على الجانب الآخر فأمرُ المصارف الذي يختص بالتوزيع العادل للمُستحقِّين، ينضوي تحت لواء إدارة المصارف؛ حيث تقوم هذه الإدارة بعقد لجان دورية بمبنى الوزارة أو فرعها الولائي للنظر في الطلبات المقدَّمة، وبحث أولويَّات الصرف حسب الميزانية المتاحة لكل بند من بنود الزكاة على حِدة، ومن ثَمَّ التصديق لمقدمي الطلبات المستحقين وَفْقاً لاستيفاء شروط الأحقيَّة؛ وذلك بناءً على المستندات المطلوبة. فمصارف الزكاة الثمانية طبعاً هي: الفقراء، والمساكين، والعاملون عليها، وفي الرقاب، والمؤلفة قلوبهم، والغارمون، وفي سبيل الله، وابن السبيل، كما قال - سبحانه وتعالى -: {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْـمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْـمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60]. يقوم الباحثون الاجتماعيون بإجراء التحري للمتقدِّمين مع عمل زيارات ميدانية لتفقُّد أحوال المسلمين أفراداً وجماعات، ودراسة وتقييم ذوي الحاجات المُلحَّة: كالدِيَّة، والدَيْن، والمرض، والوفاة، والآخرين مِمَّن لا يسألون الناس إلحافاً؛ وذلك عبر التنسيق المتبادل مع فروع الوزارة ومُمثليها من لجان الزكاة الأهلية التي تُعقد دورياً بمساجد الأحياء، تمشياً مع قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «مَثَل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمى»[8]. لكن هدفنا هو ليس مجرد صرف مبالغ للمستحقين فحسب؛ فنحن نود ألا يظل الفقيـر فقيراً ولا المسكين مسكيناً؛ فالله - سبحانه وتعالى - سخَّر لنا الكون بأكمله؛ وما علينا إلا أن نسعى قليلاً لنعمل ونتعب لننتج حتى نتذوَّق حلاوة التعب والكسب الحلال؛ كما قال - سبحانه وتعالى -: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15] وكما قال: {فَإذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللََّّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10].

أيضاً روى البخاري عن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «لأن يأخذ أحدكم حبله على ظهره فيأتي بحزمة من الحطب فيبيعها، فيكفَّ الله بها وجهه، خير من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه». فقد أجاز بعض الفقهاء المعاصرين الاستثمار بشروط معينة في جزء من أموال الزكاة في مشاريع اقتصادية وتنموية لحل مشكلة البطالة، وللتوسُّع الأفقي والرأسي في أموال الزكاة وهو الشيء الذي يسمح بمقابلة حاجيات مصارف الزكاة المتزايدة وبالذات مصرف الفقراء والمساكين.

من أول الشروط: هو عمل دراسة جدوى شاملة لأي مشروع قبل اعتماده والبدء فيه من قِبَل إدارة المشاريع والاستثمار؛ وذلك لمنع إهدار أموال الزكاة.

وثاني الضوابط: هو أن تكون المشاريع الناجحة قصيرة الأجـل، ويعـود ريعـها لخـزينـة الزكـاة، وبعـضها تنتهي بالتمليك تحفيزاً للمجموعات المُنتِجة والمُتقِنة من المستحقين الذين انخرطوا فيها.

فمثلاً شريحـة مَـن يُجيدون حرفةً أو تجارةً لكن تنقصهم الآلـة أو رأس المـال كـي يشـرعوا في اكتسـاب قوتِهم بأيديهم، أو يساهموا في ذلك على الأقل لو مُنحوا هذه المصادر: كإنشاء ورش حِـرفيـة أو مشـاريع زراعية أو رعوية أو صناعية صغيرة، أو بإعـطائهم رأس المـال الكـافي للتـجارة عن طريق قروض حسنة دون فـوائد، وبذلك تسـاهم الزكـاة مساهمة عملية في محاربة الرِبا.

ترمي المشاريع التنموية أيضاً إلى تشجيع الشباب العاطلين لاحترام العمل الحِرَفي، الذي يمثل البوابة لنهضة المسلمين، والذي هو من أشرف المهن اقتداءً بالأنبياء - عليهم السلام - والصحابة، عليهم رضوان الله أجمعين. وكما نعلم حديثاً أنَّ أسماء بعض الأُسر الكبيرة والعائلات العريقة يُنسب فخراً لهذه الحِرَف: كعائلة الصانع، الخيَّاط، اللحَّام، النجَّار، الحدَّاد، السقَّاف، الجزَّار، وغيرها.

المشاريع تشمل: المشاريع الزراعية والبساتين، الرعي، صيد الأسماك، تربية الدواجن، الطواحين، المشاغل النسائية، المشاريع الحِرفية: كالنِجارة، الخِراطة، الحِدادة، البِرادة، اللحام، السمكرة، الطلاء الكهربائي، الميكانيكا، الكهرباء، التبريد، السباكة، البناء، الترميم، الدهان، السقف، النقش، التصميم، الخَط، الرَسم، الطباعة، الفندقة، الحلاقة، الفِلاحة، الجزارة، الخبازة، والعطارة وغيرها. فيجب على وزارة الزكاة تمويل مشاريع إعاشة ضخمة، تتبع لها معاهد تدريب مهني للأيتام، اللُقطاء، الأرامل، المطلَّقات، والراغبين والراغبات من البُسطاء والعاطلين القادرين على الكسب، بالإضافة لإقامة ورش عمل موسمية للطلاب والطالبات أثناء إجازتهم الصيفية.

أيضاً يأتي دور الزكاة الاجتماعي في تشجيع وتنمية الأُسر المنتجة من خلال تمويل وزارة الزكاة أو فروعها المنتشرة بالولايات لفصول محو الأُميَّة بالإضافة لمشاريع تدريب المرأة في مجالات التدبير والاقتصاد المنزلي، التغذية، الطهي، الحياكة، التطريز، الصباغة، الحِجامة، تزيين العرائس، الصناعات المنزلية الصغيرة كصناعة الأجبان، المربَيات، الحلويات، وغيرها؛ بالإضافة للصناعات اليدوية ولُعَب الأطفال، وخدمات الكمبيوتر من برمجة وطباعة وغيرها، التي من الممكن تعلُّمها ذاتياً؛ وذلك لقتل الفراغ ولخلق بيئة إبداع ومنافسة في جو عائلي لا يتعارض مع رسالة تربية الأبناء بل يوثِّق الرِّباط الأُسري ويُنمِّي صِلة الرحم.

من مزايا وزارة الزكاة أيضاً تزكية المجتمع بتمويل وتشجيع مهرجانات الزواج الجماعي التي تهدف لدرء شر العزوبية بتأهيل المساكين المُستَعفِفين من شباب الأُمة. أيضاً دور الزكاة في توفير السِلم الاجتماعي ونبذ الشحناء المنتنة والبغضاء الحالقة بين الأفراد أو الجماعات المتناحرة أيَّاً كان نوعها: قَبَلية جاهلية أو عصبية عِرقية أو جهويَّة طائفية حتى نكون عباد الله إخواناً؛ وذلك عبر فضِّ نزاعات المتقاتلين بعد ردِّها لديوان المظالم لتصفية الفِتَن بالمُناصحة والمواساة، وإبداء العفو بين المتخاصمين من جهة، ودفع دياتهم محلياً من بند الغارمين لإصلاح ذات البين.

من أولويَّات مصارف الزكاة أيضاً مدُّ يد العون لإعانة إخواننا المرضى محدودي الدخل؛ والذين بمقدورهم دفع جزء من ثمن العلاج لكنَّهم يحتاجون لعلاج يستمر لشهور أو سنوات مثل التنقية الدموية لمرضى الفشل الكلوي، أو مرضى في حاجة ماسَّة لإجراء عملية جراحية عاجلة. فتأمين العلاج لهم: إما عن طريق شراء أجهزة متكاملة دفعة واحدة للمستشفيات مع تشييد غرف عمليات مجهَّزة وصالات تنويم بها سُرُر كافية، أو توفير نظام ضمان صحي يكفل الحالات المرضية الحَرِجة؛ وذلك عبر عقود مُبرَمة مع وزارة الصحة شريطة أن تمنح العناية الطبية المطلوبة للمرضى المستحقين فقط. أيضاً يجب بناء مستوصفات خيرية تستغل وقف الوقت المهني لتقديم الرعاية الصحية الأولية للفُقراء المُعدَمين والمعوَّقين عن طريق فريق طبي وباحثين اجتماعيين يتم تعيينهم من قِبَل الوزارة.

كما يمكن لوزارة الزكاة في كل بلد إسلامي الاستفادة من بند (ابن السبيل) في بناء فنادق نموذجية بمعايير إسلامية كي تحل محل الفنادق العالمية وبيوت الشباب والأندية والمقاهي الماسونية نفياً للتقليد الأعمى لغير المسلمين؛ وذلك لتُقدِّم خدماتها للجميع بأسعار زهيدة يعود ريعها للمصرف ذاته، تقوم على طراز إسلامي وتحكمه نُظم إسلامية بحتة؛ فيه دار ضيافة مجاني للمسافرين المنقطعين وعابري السبيل. أيضاً سيخدم مصرف (ابن السبيل) مشروع تبنِّي الطلاب الموهوبين، وتشجيع المخترعين من المسلمين؛ وذلك بدعم مشاريع البحث العلمي الجارية، وعلى سبيل المثال لا الحصر: استخدام الطاقة الشمسية في توليد الكهرباء بديلاً لوقود السيارات في الشرق الأوسط لما يتمتَّع به من حرارة شمس متدفِّقة طوال العام.

بيت المال المركزي والمصرف الإسلامي المركزي:

الشيء الآخر هو دمج وتأطير عمل المنظمات الخيرية التي لا يخفى علينا دورها الريادي في كفالة الأيتام والأرامل وأسر الشهداء وأسر الأسرى والسجناء في سبيل الله وبناء المساجد ودور العلم والمستشفيات محلياً وإقليمياً، لتصب في ما يُسمى ببيت المال المـركزي (نواةً لبيت مال المسلمين)، وهو الذي يكون مقرُّه بدولة إسلامية تُختار بالتصويت.

يمثل بيت المال المركزي المرجعية لهذه المنظمات الخيرية بسنِّه للقوانين والضوابط الشرعية من حيث أولويَّاتُ الصرف ومنع ازدواجية الدفع وبخاصةً البنود التي لا تشملها مصارف الزكاة، وتثبيت عنصرَي الشفافية والمصداقية في التصدي لتمويل أي أعمال إرهابية أو تخريبية من شأنها إراقة دماء معصـومة مـن المدنيين الأبرياء أو الأسرى. فالحـق المشـروع - أصلاً - هو رد الظلم والعدوان عن المسلمين، وأقلُّها مقاومة المحتل دفاعاً عن الدين والعرض والوطن وحماية المقدَّسات الإسلامية، التي هي من أعظم القُرْبات. من أولويَّات بيت المال المركزي التي ينبغي أن تساهم فيها وزارات الزكاة من الأقطار الإسلامية مجتمعة سهما (في سبيل الله) و (المؤلفة قلوبهم)، وما فاض من باقي المصارف الأخرى من التبرعات والهِبات والكفَّارات والنُذور إضافةً لريع الوقف الإسلامي والتركات والضوائع؛ وذلك لمساندة المجاهدين المستضعفين والمشرَّدين والمنكوبين من المسلمين وبخاصة في الثغور؛ كما يشير حديث النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقَّاص - رضي الله عنه - حين قال له في ما رواه البخاري: «وهل تُنصَرون وتُرزَقون إلا بضعفائكم»؟

هذا بالإضافة لتمويل البرامج الدعوية في المناطق الفقيرة وحديثة العهد بالإسلام بطريقة منظَّمة ومدروسة؛ وذلك بالدعم المادي للمسلمين الجُدد، وأن تمتد أيادينا البيضاء لإخوان الإنسانية ممن يُرجى إسلامهم، وذلك بحفر آبار مياه الشرب والتشجير وتمويل قوافل الغذاء والكساء والدواء - ولو سنوياً - في فصل الشتاء؛ هذا بالإضافة لإنشاء المدارس القرآنية والمراكز الصحية وأيضاً الدعم المعنوي بابتعاث دعاة من بني جلدتهم للدول الإسلامية لتقوية إيمانهم وعلمهم الشرعي حتى يسهموا بالفعل في نصرة إخوانهم الباقين، والدعوة في بلدهم الأصل بعد رجوعهم.

أيضاً ثبت عن سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - أنه كان يقول بصرف الزكاة في تأليف أصحاب النفوذ من الحكام والرؤساء غير المسلمين لدرء شرورهم، وحتى يسهموا في تحسين أوضاع الجاليات والأقليَّات المسلمة ومساندة قضاياهم؛ كما ورد عن الحبيب صلى الله عليه وسلم أنَّه كان يعطي رؤساء القبائل من الزكاة حتى يخفِّفوا من التضييق عمَّن أسلموا من أفراد تلك القبيلة. والمثال الشاخص في يومنا هذا هم الأقليات المضطهدة في قارة أوروبا من إخواننا الأكراد والشيشان والألبان والبوسنيين، بالإضافة للأقليات المسلمة في إريتريا وكشمير وكوسوفا. أيضاً يأتي دور تأليف أصحاب الفكر لكسب تأييدهم ومناصرتهم لقضايا المسلمين.

ينبغي أن يضم بيت المال المركزي مجلس أُمناء الخزينة وهيئة كبار علماء المسلمين والمصرف الإسلامي المركزي الذي ينتهج الأخير دساتير إسلامية خالصة وسياسات ربحية رشيدة لأسلمة البنوك التقليدية بالبلاد الإسلامية، ويمثِّل المرجع الأساس للمصارف الإسلامية الحالية كما في السُّودان وباكستان وإيران. على المصرف الإسلامي المركزي، كما كان قصب السبق للبنك الإسلامي للتنمية؛ أن يُنفِّذ خططاً استثمارية طموحة من شأنها النهوض بميزانية بيت المال المركزي؛ وخاصةً بعد إنشاء الغرفة الإسلامية للتجارة والصناعة مؤخراً؛ وذلك للدخول في مشاريع تنمويَّة ضخمة من خلال سوق جماعية تحت إمرة «كومنولث» إسلامي، ليتَّخذ من الدينار - مثلاً - عُملة موحَّدة للنهوض اقتصادياً وعسكرياً بأمة شرَّفها الله - تعالى - بسورة الحديد، وتمتلك في أراضيها جُلَّ الحديد، وما زالت تستورد من الخارج من الإبرة حتى الصاروخ! لتدرَّ عائداً وافراً لتغطية حاجيات الدول الإسلامية الفقيرة والمُستضعفة والأُخرى التي تتعرَّض لنكبات وكوارث.

من أولويات بيت المال المركزي أيضاً تنمية موارد العالم الإسلامي بترشيد استخدام المياه، واستصلاح الصحارى التي تقع في خط الفقر لزراعة الغلال والحبوب الزيتية والصمغ العربي وغيرها، والاستفادة من رمالها في صناعة الزجاج، ومن النباتات والزهور البرية في صناعة الأدوية والعطور، هذا بالإضافة لإعادة التدوير للتوالف والمخلَّفات.

ومن ثَمَّ يأتي دور الاستثمار في الصناعات الخفيفة المُتقَنة، التي هي بمثابة العمود الفقري للنهضة الصناعية والتي تشمل: تحلية مياه البحر، صناعة الملح، صناعة الزيوت، صناعة السكر، تعليب الخضر والفاكهة واللحوم، الغزل والنسيج وصناعة الملابس، دباغة الجلود وصناعة الأحذية؛ وذلك لتحقيق الأمن الغذائي والصناعي وتصدير الفائض ومنع الاعتماد على الإعانات والقروض من غير المسلمين.

هيئة كبار عُلماء المسلمين التابعة لبيت المال المركزي:

إن في قيام هيئة كبار علماء المسلمين التابعة لبيت المال المركزي، التي تضم كوكبة من كبار العلماء الراسخين والثقات، بالغَ الأثر في التشاور والحِسبة وإصدار الفتاوى والضـوابط الـشـرعية بـناءً على قرآننا المجيد وهدي نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم، هذا بالإضافة لإعمال القياس والاجتهاد آنياً وظرفياً مع مراعاة أدب الاختلاف بين المذاهب وفقه الأولويَّات، مع الموازنة بين درء المفاسد وجلب المصالح من دون إفراط أو تفريط. فقد جاء عن عمر - رضي الله عنه - أنَّه أدخل القياس في باب الزكاة؛ وذلك حين أمر بأخذ الزكاة من الخَيل لما تبيَّن له أنَّ فيها ما يبلغ قيمة الفرس الواحدة منه ثَمَن مائة ناقة، فقال: نأخذ من أربعين شاة، ولا نأخذ من الخيل شيئاً؟ فمن الأحرى أن تُجبى زكاة الخيل في عصرنا هذا الذي انتشر استخدامها في التجارة والرهانات والسباقات بدلاً عن الرِّباط والجهاد. ومنها جاء قياس العمارات المؤجَّرة للسَّكن ونحوها على الأرض الزراعية، والرواتب والأجور على الأُعطيات التي كان يأخذها ابن مسعود ومعاوية وعمر بن عبد العزيز - رضي الله عنهم - عند صرفها.

كما نقيس أيضاً القَزَّ والمنتجات الحيوانية كالألبان ونحوها على العسل الذي وردت الآثار بأخذ العُشر منه. ولذا ففي قيام هيئة كبار عُلماء المسلمين بأمر الاجتهاد الجماعي والقياس الصَّحيح مما يقود إلى استنباط فتاوى وتشريعات تخدم مسيرة الأمة مثل التكييف الزكوي للأموال والثروات والأنصبة، واعتماد مبدأ الخلطة في زكاة الشركات كما هو متعارف عليه في زكاة الأنعام.

ومن أولويات الهيئة أيضاً مساندة المصرف الإسلامي المركزي في سن القوانين والتشريعات التي من شأنها الإبقاء على المصارف الإسلامية؛ مع أسلمة باقي البنوك التقليدية، التي تتعامل بالربا كُلياً أو جزئياً، وتشجيعها لنيل عضوية المصرف المركزي مقابل حوافز وتسهيلات مغرية على ضوء الكتاب والسنة، مع منع كل المعاملات الربوية الناتجة عن تداول الصكوك والسندات وغيرها في البنوك وسوق الأوراق المالية (البورصة). فعمليات تداول مثل هذه الأسهم لا تخدم الاقتصاد؛ لأنَّها مجرد حركة للأموال بين الأيدي المتقاعسة من دون تحقُّق استثمار فعلي، ومنع فائض الأموال من الاتجاه للاستثمار الحقيقي، والمستفيد الوحيد هم المضاربون الخاسرون. وثاني مفسدة هي أنَّ الشركات المضاربة لا تستفيد من بيـع أسهمها أو تبادلها أو ارتفاع قيمة أسهمها؛ لأنَّه لن يحقق لها أموالاً بل على العكس يجرها للاقتراض والإفلاس. ومـثل هـذا التعاطي المحرَّم لا يعفـي صـاحــبه من دفع زكاة المال، التي تقتضي القيمة الاسمية للصك أو السند. وما تحقَّق من ربحٍ خبيثٍ فعلـيه التخـلُّص مـنه بعـيداً في أوجـه الخـير؛ لأنَّ الله - تعالى - طيـبٌ لا يقبل إلا طيباً. فيجب اعتماد نظام المرابحات والمضاربات الإسلامية من قِبَل المصرف الإسلامي المركزي لتعميمه على المصارف الأعضاء؛ لتحل محل الاستثمارات غير المشروعة أو المشبوهة؛ تحرياً للحلال ونفياً لمحق البركة الناتج من اختلاط الصالح بالطالح.

أيضاً من مزايا الهيئة الأخذ بالقياسات والاجتهادات الفردية المعتبَرة كما اجتهد فضيلة الشيخ القرضاوي - أثابه الله، وهو الذي يُعَد من كبار علماء العصر المتخصِّصين - عندما رجع لرواية عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - وبعض التابعين الآخذين بجواز صرف الزكاة على أهل الذِمة من غير المسلمين، ورأى أن تُؤخذ من أغنياء غير المسلمين ضريبة كزكاة عن أموالهم، باسم ضريبة التكافل الاجتماعي أو البِر - مع الاتفاق مع الـزكاة في الوعـاء والشروط والمقادير - لتصب في مصرف منفصل لِتُرد على فُقرائـهم قيـاماً بواجب التكافل والتراحُم الذي يشمل المسلم وغير المسـلم ما دام يعيـش في كنـف دولـة الإسـلام وتحقـيقاً لقوله - تعالى - في أهل الكتاب عامةً: {وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5]، وحتى لا يكيدوا حسداً لصرفنا عن الإيمان وبالذات الصَّلاة والزكاة كما قال - تعالى -: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْـحَقُّ} [البقرة: 109].

فهنا تتَّسع دائرة الزكاة إلى آفاق أرحب ومفاهيم أسمى للتعايُش والتغلغُل ترغيباً لغير المسلمين في ديننا القويم. وعند اندماج شعوبنا وترسيخ هويتنا تجتمع القلوب، وننسى الحدود، وننعم بالنصر الموعود.

هذا، والله أعلَم وأحكَم، وصلى الله على سيدنا مُحمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم.

وآخر دعوانا أن الحمدُ لله رب العالمين.



[1] متفقٌ عليه.

[2] رواه الحاكم وصحَّحه الذهبي والألباني.

[3] رواه البخاري.

[4] رواه مُسلم.

[5] الأحكام السلطانية والولايات الدينية، ص 145.

[6] متفق عليه.

[7] صحَّحه البيهقي والنووي.

[8] رواه مسلم.

 

 

أعلى