لم يختلف اثنان من المحللين الغربيين في
تناولهم للثورات العربية التي أندلعت أولاً في تونس ثم مصر وامتدت إلى ليبيا
واليمن وسورية، على أن هذه الثورات الشعبية سوف تؤثر على المصالح الغربية في هذه
الدول؛ ولذلك انحصرت المخاوف - تحديداً - في احتمالات صعود الإسلاميين في هذه
الدول عقب الثورات العربية للسلطة أو لعبهم دوراً أكبر في الحياة السياسية
مستقبلاً.
أما الأهم من صعود أسهم الإسلاميين
والوطنيين للسلطة فهو تأثيرات هذا الصعود مقابل غياب الأنظمة التي كانت تقدِّم
خدمات للغرب ويعتبرونها كنزاً إســتراتيجياً. ومخاطر هذا على المصالح
الإســتراتيجية لأمريكا والغرب في المنطقة عموماً؛ سواء من جهة نهب ثروات هذه
البلدان العربية أو للسيطرة على منافذ وطرق إستراتيجية.
وكان أخطر ما واجهه الغرب في ما يخص الثورة
الشعبية في ليبيا هو مصير الثروة النفطية الليبية من جهة، والموقع الإستراتيجي
لليبيا عبر البحر المتوسط قبالة أوروبا من جهة أخرى، هو الذي دفع إيطاليا الفاشية
في زمن سابق للقفز على ليبيا واحتلالها باعتبارها أشبه ببوابة أمنية لأوروبا تمنع
الهجرات الشبابية العربية غير الشرعية، ومدخلاً لإفريقيا. ومطلوب تعاون أي نظام
بها لتأمين البحر المتوسط ضد أي أعمال إرهابية تنتقل من إفريقيا إلى أوروبا.
من هنا كان التعامل الغربي مع الثورة
الليبية مختلفاً مثلاً عن الحالة السورية، ذات الخصوصية المتعلقة بالصراع (العربي
- الصهيوني)، وتشير التحركات الغربية لتفضيلهم استمرار حكم بشار الاسد؛ لأنه يحافظ
على الهدوء وأمن إسرائيل، وجاء التدخل سريعاً ببلورة قرار عبر مجلس الأمن في غضون
24 ساعة يسمح بتدخُّلهم في ليبيا عسكرياً.
ولكن خطورة هذه التحركات الأمريكية والغربية
أنها سعت لسرقة الثورة من شعب ليبيا، وإسناد الفضل في انهيار حكم القذافي للغرب -
كما فعلوا مع صدام حسين - وليس للشعب، وهو ما قد يعطي صورة سلبية عن الثورة
الشعبية الليبية؛ باعتبار الثوار هم حصان طروادة الغرب من جهة. ومن جهة ثانية
تشوية صورة الثورات الشعبية في بلدان عربية أخرى - مثل سورية - وإعطاء الحكام
سلاحاً وهمياً في أيديهم؛ هو التحذير من التدخل الأجنبي والاستقواء بالكراسي
بدعاوى أنها ليست ثورة وإنما هي تدخُّل ومؤامرات غربية!
وبعبارة أخرى فقد سعت أمريكا والغرب عقب
الثورات المصرية والتونسية التي فاجأتهم للتفكير في كيفية ضبط الثورات العربية
الأخرى؛ حتى لا تصل هذه الثورات إلى نتائج لا ترضاها هي ولا إسرائيل؛ أي البحث عن
كيفية السيطرة على الثورات دون وقفها كي لا يتصادموا مع التيار الشعبي الرافض
للقمع وغياب الحريات ويظهروا بمظهر المنافقين لمبادئهم في ما يتعلق بالحرية
والديمقراطية؛ ولكنْ المشروطة بعدم تصادمها مع مصالح الغرب.
أين الدور العربي؟
إن المشكلة أن الدور العربي في هذه الأزمة
الليبية اقتصر (رسمياً) على إعطاء الغرب صك التدخل في ليبيا دون أن يضع ضوابط أو
قيوداً عليه! وحتى عندما انحرف الغرب بهذا التفويض لقتل المدنيين في طرابلس وإرسال
خبراء أجانب على الأرض بدعاوى تدريب ومساندة الثوار لم تسحب الجامعة هذا التفويض؛
وإنما اتبعت أسلوب العجز الرسمي نفسه؛ المتمثل في الشجب والإدانة لقتل المدنيين
دون إدراك أن من حق الجامعة العربية سحب هذا التفويض للغرب وطائراته في ليبيا.
وبالمقابل كان الدور الشعبي العربي عبر
منظمات الإغاثة هو الأكثر فاعلية في التعامل مع الأزمة في ليبيا؛ فقد قوبلت
القافلة الإنسانية المشترَكة لجامعة الدول العربية والمؤتمر الإسلامي التي زارت
ليبيا بحفاوة بالغة من قِبَل الشعب الليبي وكافة قيادته - سواء القبلية أو في
المجتمع المدني أو المجلس الوطني الانتقالي - في طبرق والقبة وبنغازي والبيضاء
وغيرها.
وأينما ذهبتَ في المناطق التي حررها الثوار
فسترى عربات تحمل مساعدات إنسانية أتت من دول عربية؛ خاصة مصر ودول الخليج، كما
أرسلت قطر والإمارات سفناً لإجلاء اللاجئين من مدينة مصراتة، وأعلام كثير من الدول
العربية ترفرف في ساحات المناطق الخاضعة للثوار خاصة مصر وقطر، ولكن هذه الحفاوة
بالإغاثة الشعبية العربية الإسلامية كانت تتغلف برغبة جامحة من قِبَل الثوار
الليبيين في مزيد من الدعم العربي، الذي يرون أن ذوي القربى من العرب والمسلمين
أحق به من أي أحد؛ فآمال الثوار الليبيين المعلقة بالعرب لا تقتصر على الاعتراف
بالمجلس الوطني الانتقالي وعلى النواحي الإنسانية؛ ولكنها تمتد أيضاً إلى ضرورة
تلبية الحاجة الماسة إلى المساعدات اللوجستية، كما يلمِّحون إلى ضرورة أن يقدِّم
لهم الأشقاء العرب دعماً في المجال العسكري لمواجهة تفوُّق قوات القذافي في مجال
السلاح والعتاد؛ إذ يؤكدون أن سلاحهم الرئيسي هو الروح المعنوية الهائلة، في حين
تمتلك كتائب القذافي، مدفعية ثقيلة وصواريخ غراد، ودبابات تي 92 الحديثة.
التوجس من الغرب:
وقد أكد بعض الثوار أنهم مضطرون لقبول
التدخل الغربي عبر القصف الجوي؛ لأنه كان الوسيلة الوحيدة لمنع وقوع مذبحة حقيقية
من قِبَل كتائب القذافي، ولكنهم شددوا على رفض أي وجود أجنبي على أرض بلادهم، وأن
أحفاد عمر المختار لن يقبلوا يوماً بوجود أقدام أجنبي على هذه الأرض التي يقولون:
إنها «ودودة حنونة مع الخيِّرين، وشرسة مع الأشرار».
وبقدر ما عبر ثوار ليبيون عن الامتنان إزاء
قرار مجلس الجامعة العربية الذي دعا مجلسَ الأمن إلى فرض الحظر الجوي على ليبيا -
وهو ما أنقذ المناطق الخاضعة للثوار في الجنوب من السقوط في أيدي نظام القذافي،
بعدما هدد سيف الإسلام بإكتساحها خلال 24 ساعة - فقد بدؤوا يُظهِرون مخاوفهم من
نوايا الغرب تجاه بلادهم لأنهم يدركون أن أهداف الغرب هي النفط والموقع
الإستراتيجي لا خدمة الثورة.
ويدلِّلون على هذا بما تم العثور عليه من
وثائق في مبنى تابع للحكومة الليبية أظهرت تعاوناً وثيقاً ربط وكالة الاستخبارات
المركزية الأمريكية (CIA) والاستخبارات البريطانية بمخابرات نظام معمر القذافي، بما في ذلك
نقل مشتبهين بالإرهاب إلى ليبيا لاستجوابهم.
فالوثائق التي تم العثور عليها في مقر
للهيئة الليبية للأمن الخارجي كشفت أن الـ (CIA) نقلت في ظل إدارة
الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش متهمين بالإرهاب إلى ليبيا واقترحت أسئلة
بعينها يوجهها المحققون الليبيون للمشتبهين، كما عمدت الـ (CIA) في عام 2004م إلى
تأسيس وجود دائم لها في البلاد، بحسب مذكرة للموظف البارز في الـ (CIA) ستيفن كابس وجَّهها
إلى رئيس الاستخبارات الليبية وقتها موسى كوسا.
فبحلول عام 2004م أقنعتْ الولايات المتحدة
الحكومة الليبية بالتخلي عن برنامجها للأسلحة النووية والمساعدة في منع الإرهابيين
من استهداف الأمريكيين؛ سواء في الولايات المتحدة أو خارجها. ومنذ ذلك الحين رضي
الغرب عن القذافي، وبدأ تعاون استخباري وثيق بين الطرفين لمحاربة التيارات
الإسلامية في ليبيا والمنطقة عموماً؛ بحجة مكافحة الإرهاب ونقلت الاستخبارات
الأمريكية مشتبهين بالإرهاب ثماني مرات على الأقل لاستجوابهم في ليبيا على الرغم
مما هو معروف عن ليبيا من انتهاج التعذيب في ذلك.
والحقيقة أن الخلل في الموقف العربي عموماً
تجاه ما يجري في ليبيا جاء نتيجة حالة عدم الاتزان التي تعيشها المنطقة العربية
منذ اندلاع الثورات الشعبية، ولكن التدخل لفرض منطقة حظر جوي - كما طالب العرب في
قرار تبنَّته الجامعة العربية – أعطى حلف الناتو وأمريكا المبرر للتدخل العسكري في
الصراع بصورة مبالغ فيها أدت لاستهداف مدنيين قيل: إن 1500 منهم على الأقل قتلوا
بضربات حلف الناتو في طرابلس.
وقد حاولت الجامعة العربية منع طيران
القذافي من إبادة المعارضة في الشرق - خاصة بعدما تبرَّأ نجله من العرب وقال: إن
ليبيا ستطرد كل العرب وتجلب عمالاً من الهند وأسيا - بالحديث عن فرض حظر جوي على
ليبيا بالتعاون مع الاتحاد الإفريقي، وهو ما لم تظهر بوادر مشجعة عليه؛ لأن الدول
العربية المجاورة لليبيا لم تتحمس لهذا ومنها مصر، كما أن كثيراً من دول إفريقيا
على علاقة جيدة مع القذافي رفضت الفكرة؛ بل لا تزال ترفض الاعتراف سوى بالقذافي.
وعلى الرغم مما قاله عمرو موسى (أمين عام
الجامعة العربية السابق) من أن الحظر الجوي الذي تطالب به الجامعة هو - أساساً -
«عمليات تشويش على الطيران الليبي على مساحة 1.8 مليون كلم مربع تمنع اصطياد
المدنيين، وعلى الرغم من أن هذا الحظر الجوي
إنما هو «إجراء وقائي وليس إجراء عسكرياً». فقد استغل الناتو هذه الرخصة
العربية في تحقيق أهداف الغرب في ليبيا ولو بتدمير منشآت ليبية واستهداف مدنيين
لتنتصر الثورة الليبية في النهاية ولكن بطعم الناتو.
تسديد الحساب للناتو:
والسؤال الأن بعد انتصار الثوار بدعم عسكري
غربي هو: ما هو الثمن الذي سوف يطلبه الغرب مقابل هذه الخدمات التي قدمها لصالح
انتصار الثوار من أرصدة الاستثمارات الليبية الخارجية؛ التي تتضمن أصولاً بأكثر من
65 مليار دولار تُسيل لعابَ عشرات الدول الغربية للتكالب عليها، علاوة على تكدس
الأموال بين 300 و 400 مليار دولار خلال سنوات الحصار على ليبيا.
وهناك مخاوف أن يجري تقسيم الغنائم على
الطريقة العراقية عبر مكافأة دول الناتو الغربية بصفقات تجارية ضخمة، وبامتيازات
نفطية أيضاً، أما في الداخل فستسير الأمور وَفْق طريقة توزيع واقتسام الغنائم بين
القوى التي شاركت في الثورة بدرجات متفاوتة.
فالمجلس الأعلى المؤقت الذي يدير شؤون ليبيا
حالياً سيكون مكبلاً بدفع ثمن لهذا الجميل وهذا الدور الذي لعبته طائرات الناتو
لتحقيق هذا الانتصار. وهنا لا نستبعد أن تسعى أمريكا وأوروبا لتنفيذ مخططاتها في
ليبيا وهي التي تدور حول الحصول على مليارات الدولارات مقـابلاً لـ «كعـكـة إعـادة
تنظيـم وبنـاء وتسـليح القـوات الليبيـة»، و «كعكة إعادة إعمار البلاد»، و «كعكة
حصص النفط وتوزيع العقود على شركات النفط الغربية»، فضلاً عن السعي للتدخل في
الشؤون السياسية لليبيا وتحديد سياستها المستقبلية والتدخل في صياغة نظامها
السياسي المقبل عبر دعم القوى الليبرالية الداخلية على حساب غيرها.
ولا ننسى هنا أن زيارة السناتور الأميركي
جون ماكين إلى بنغازي (معقل الثوار الليبيين)، وكذا زيارته - وهو المرشح الجمهوري
للانتخابات الرئاسية السابقة عام 2008م - جاءت رسالةً للثوار؛ أن الدعم قادم مقابل
امتيازات مستقبلية.
إن حصاد الأزمة الليبية يبدو - بناءً على
ذلك - نتاجاً لتراكم أخطاء عربية يسعى لصوص النفط في الغرب لاستغلالها؛ فالرئيس
الليبي أخذته العزة بالإثم ولم يقبل أن يطالبه شعبه بالرحيل بعدما جلس على كرسي
السلطة 42 عاماً حتى صار أقدم حكام العرب وإفريقيا معاً، ولو قَبِل التنحي منذ
البداية لجنَّب شعبه ويلات الحروب والشهداء.
والجامعة العربية أخطأت حينما أعطت الغرب صك
التدخل العسكري في ليبيا، ولم تحاول التدخل أو رفض تجاوزِ التصرفات الغربية سقفَ
الصك العربي، وتركت الغرب يقسم الغنائم بين دوله المختلفة في ما يخص نفط ليبيا.
ولكن الأمر الملِحَّ حالياً هو ضرورة مسارعة
الجامعة العربية ومنظمات عربية شعبية مختلفة لتدارك هذه الأخطاء العربية في ليبيا
وعدم ترك البلاد تقسَّم حسب المصالح الغربية. فالثوار هناك - شانهم شأن باقي
الثورات العربية - إسلاميون وليبراليون ويساريون، والغرب يمد يده لليبراليين ويشيع
الرعب من صعود الإسلاميين، وما لم يكن هناك تدخُّل عربي لطرح حلول تجميعية توحيدية
تنقل ليبيا لمرحلة أعلى (عربياً وإسلامياً) فسوف تقع ثمرة ناضجة في جحر الغرب
ويضيع جهد الثورة الشعبية، ويصبح العرب هنا – على طريقة «الزوج التيس» – مجرد
«محلِّل» للزواج الغربي من ليبيا.