أكملت الدنمارك الشق الآخر من عملية التغريب بطريقة أكثر بشاعة، فقد غرست الهيئات الطبية الدنماركية العاملة في «جيرنلاند» عشرات آلاف لولب رحمي (IUD) في رحم فتيات «جرينلاند» من سن 13 عامًا؛ لمنعهم من الحمل
إنها أكبر جزيرة في العالم -إذا استبعدنا أستراليا، باعتبارها جرفًا قاريًّا-؛
«غيرنلاند»
تلك الجزيرة التي تقع بين المحيط المتجمد الشمالي والمحيط الأطلسي، شرق أرخبيل
القطب الشمالي الكندي. والتي تمتعت منذ أعوام قليلة بالحكم الذاتي داخل مملكة
الدنمارك التي ظلت خاضعة لها منذ أوائل القرن السابع عشر الميلادي.
الجديد في تلك الجزيرة، هو تاريخ قديم كُشِفَ عنه حديثًا، يروي لنا إحدى قصص
الإبادة.
بدأت القصة في العام 1951م حين قرَّرت الدنمارك أنه آنَ الأوان لتحديث الشعوب
الأصلية لهذه الجزيرة؛ فقامت بسرقة أطفال شعب الإنويت (السكان الأصليين)، وتم إرسال
برقيات إلى الكهنة ومديري المدارس يطلبون منهم تحديد الأطفال الأذكياء الذين تتراوح
أعمارهم بين ست و10 سنوات.
سرقت الحكومة الدنماركية آلاف الأطفال من
«جرينلاند»
من بين أذرع أمهاتهم، وانتُزِعُوا انتزاعًا من أُسَرهم، وأُرْسِلُوا إلى المدارس
الداخلية الدنماركية، وشاعت حالات التبنّي مِن قِبَل الأُسَر الدنماركية، وأُطلق
على هؤلاء الأولاد
«الطلائع»،
تم تدرسيهم اللغة الدنماركية والعادات والتقاليد الغربية، فنسوا لغة قومهم،
وانفصلوا تمامًا عن مجتمعاتهم، وصارت القِيَم والتقاليد الأوروبية هي أسلوب حياتهم،
ثم جرى إعادتهم إلى
«جرينلاند»
ليكونوا طلائع المجتمع نحو خطة التغريب لهذا الشعب المنكوب.
وأكملت الدنمارك الشق الآخر من عملية التغريب بطريقة أكثر بشاعة، فقد غرست الهيئات
الطبية الدنماركية العاملة في
«جيرنلاند»
عشرات آلاف لولب رحمي (IUD)
في رحم فتيات
«جرينلاند»
من سن 13 عامًا؛ لمنعهم من الحمل، وعقَّمت أكثر من أربعة آلاف من الذكور.
ما الذي حمل الدنماركيون على تجفيف نسل تلك القبائل المسالمة، وتعقيم نسائهم، مع أن
أعدادهم في الأصل قليلة، وهو يحيون فوق أرضهم لم يذهبوا إلى حدائق المتحضرين، ولا
حاولوا تسلُّق أسوارهم، ربما لأنهم متوحشون بالفطرة، يريدون أن يحيوا مثل بقية
البشر، يكوّنون أُسَرًا ويُربُّون أولادًا، ربما خشي الأوربيون من أن هؤلاء مع طول
أُلفتهم للتوحش وحياتهم في أدغالهم سيكونون في المستقبل همجًا، فلن يقبلوا بأن يطأ
الرجلُ الرجلَ والمرأةُ المرأةَ، أو أن تنقلب المرأة رجلاً والرجل امرأة، إنهم
حقًّا همجيون تعساء؛ إذ لم يقبلوا بمثل هذه الحضارة، فباطن الأرض لهؤلاء أفضل من
ظاهرها؛ لأنهم سيُشكّلون خطرًا على تلك الحضارة.
أو ربما هي المخاوف التي عبّر عنها
«جوزيب
بوريل»
المفوّض الأعلى للسياسة الخارجية والأمن بالاتحاد الأوروبي، وحذّر الأوروبيين من
أنهم إن لم يذهبوا إلى الغابات وإلى المتوحشين من أهلها؛ فإن هؤلاء الهمج الرعاع
سيأتون إلى أوروبا التي وصفها بالحديقة وسط الأدغال، وساعتها لن تنفع الأسوار
العالية؛ لذا دعا بوريل الأوروبيين أن يذهبوا إليهم.
والحقيقة أن أجداد بوريل من قبل ذهبوا كثيرًا وما زالوا، إلى أدغال أمريكا الشمالية
ذهبوا فصنعوا دولة حديثة أسموها كندا، والتي سنَّت في عام 1867م قانونًا سُمِّي
بقانون الهنود الحُمر، وشرعت الحكومة في انتهاج سياسة الإدماج الإجباري لأطفال
القبائل في المجتمع المتحضّر، فأنشأت العشرات من المدارس الداخلية التي كان يُزَجّ
بصغار الهنود فيها بعد أخذهم عنوة من أهلهم، وظلت الانتهاكات تَطال هؤلاء الأطفال
الصغار، الذين مُنِعُوا من معرفة آبائهم وأُسَرهم، ويطالهم التعذيب إن تلفَّظ أحدهم
بكلمة واحدة من لغته الأصلية، -مثلهم تمامًا مثل أطفال الإنويت- فكانوا يُعذَّبون
بالمنع من النوم والاستمرار في الوقوف طوال الليل، وتم إجبارهم على الذهاب إلى
الكنيسة وتغيير دينهم، ناهيك عن التحرش الجنسي والضرب والمعاقبة بالمنع الطعام
لأدنى مخالفة للقوانين القاسية التي فُرِضَت عليهم، أدَّت هذه الممارسات إلى موت
المئات منهم وتم دفنهم داخل أفنية الكنسية دون عِلْم من ذويهم.
لقد ذهب أجداد بوريل من قبل إلى غابات إفريقيا، ولكن في هذا المرة أحضروا الأفارقة
إلى الحديقة لا كي يتعلموا ويفيدوا من حضارة الأوربيين -المزعومة-، بل وضعوهم في
أقفاص بجانب القردة والحيوانات؛ ليشاهد الأوروبيون في حديقتهم المتوحشين، وقد
جُلِبُوا إليهم من الغابات قبل أن يتسلقوا عليهم الأسوار؛ فيضحكون منهم ويلقون
إليهم بفتات الطعام كما الحيوانات. وليست تلك الحدائق من زمننا ببعيد؛ فقد أنشأت
النرويج في حدود سنة 1914م حديقة حيوان بشرية بأوسلو، وقد تضمَّنت هذه الحديقة ما
لا يقل عن 80 رجلاً إفريقيًّا جيء بهم من السنغال، ووُضِعُوا في أقفاص، ووقف
الأوربيون في طوابير طويلة ليروا تلك الكائنات المتخلّفة داخل الأقفاص.
لقد ألهمت حدائق الحيوانات البشرية هذه قريحة المفكرين المتنورين داخل الحدائق
الغربية، فخرجت علينا النظريات التي تجسّد عصارة حضارتهم الممقوتة. فعلى سبيل
المثال أقدم المحامي الأمريكي ماديسون غرانت سنة 1918م على نشر كتابٍ تضمّن العديد
من النظريات العنصرية اعتبر غرانت العِرْق الأبيض عرقًا سيدًا على البشرية، ولهذا
السبب وجَب عليه إبادة بقية الأعراق من أجل تكريس سيادته على الأرض بشكل نهائي؛
-حسب رأيه-.
وفي العام 1904هـ حاول عالم الأنثروبولوجيا، ويليام ماكغي، ترويج فكرة جديدة؛ حيث
مثّل كل عرق بشري بمرحلة من مراحل تطور الإنسان -وعلى حسب أفكاره-؛ فقد كان الإنسان
الأبيض الأوروبي على رأس قائمة الأعراق، بينما كان الإنسان الأسود في أسفلها.
لا تبدو أفكار بوريل وتصريحاته عن الحديقة والغابات والأسوار والذهاب إلى المتوحشين
قبل أن يأتوا إلى أسوار الحديقة العالية، غريبة أبدًا أو جديدة، بل هي أفكار
متجذّرة في الوجدان الجمعي لدى المجتمعات الأوروبية نُخَبها وعامّتها، قديمًا
وحديثًا، غير أن القليل منهم يصرّح بها من دون دبلوماسية الخداع المعهودة لدى
قادتهم وزعمائهم.
الفروق كانت فقط في تنفيذ تلك الأفكار وجَعْلها على أرض الواقع، قديمًا ذهبوا إلى
تلك الشعوب المسالمة في أوطانهم فاصطنعوا معهم الحروب، فامتطوا ظهور الخيل والبغال،
وصوّبوا فوّهات البنادق والبارود إلى صدور العُزّل من هؤلاء فأبادوهم، ولم تكن تلك
الشعوب تملك من القوة العسكرية ما يُمكّنها من الدفاع عن أرضها في مقابل تلك
الهمجية البشعة، لكنهم قاتلوا على أيّ حال وماتوا شرفاء. أما الآن فإن أفكار بوريل
ودعواته تنفّذ حرب الإبادة والتغريب بطريقة جديدة ومن دون استخدم البارود، فاكتفت
من تلك الحرب بإرسال الخيل والبغال فقط بعد أن درّبوهم جيدًا، والحقيقة أنهم أجادوا
ففعلوا ما لا تفعله فوهات البنادق.