• - الموافق2024/11/23م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
انقلاب مجتمعي فكري وسياسي.. قيد الاكتمال في أوربا

لقد جاءت حرب أوكرانيا لتُعزّز نتائج تراجع الغرب دوليًّا -وحضاريًّا-، ولتوسّع نتائج أزمة كورونا، ولذلك يمكن القول: لم يبقَ وقت طويل حتى نكون أمام أوروبا مختلفة.


تنجرف أوروبا بعيدًا عن مسارها المعتمَد بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وهي في طريقها لتطوي صفحة النُّخَب التي حكمت بعد الحرب -فكرًا وسياسة واستراتيجيات- لمصلحة مجموعات قومية وعنصرية وفاشية ومتطرفة دينيًّا (يُطلَق عليها الشعبوية)، وهو ما يُمثِّل انقلابًا مجتمعيًّا شاملاً، يغيّر أوروبا التي عرفها العالم خلال التاريخ المعاصر.

 لن تكون أوروبا المستقبلية كتلك التي عرفناها -أو وفق ما عرفت هي بنفسها- وهي الآن في وضع صراعي داخلي عميق، قد لا يحتاج إلى وقت طويل حتى تتبلور نتائجه النهائية. هذا الصراع يُحْدِث اضطرابًا كبيرًا داخل الدول؛ إذ تغيّر تلك الجماعات مجمل توجهات المجتمع، وهو ما سيُعيد إنتاج الصراع بين أقصى اليمين وأقصى اليسار؛ إذ أنتج ظهور تلك الجماعات بروز تيارات يسارية متطرفة، كرد فعل في الاتجاه المضاد (وهو ما ظهر في نتائج الانتخابات البرلمانية الفرنسية الأخيرة). وسيُحْدِث الصراع اضطرابًا على صعيد العلاقات بين الدول الأوروبية؛ إذ تُعيد تلك الجماعات إنتاج نفس الأفكار والسياسات التي أدَّت لاندلاع حربين عالميتين. كما سيحدث هذا الصراع تغييرًا كبيرًا على الصعيد الدولي؛ إذ ستُغيِّر دول أوروبية كبرى سياساتها الدولية -تحت قيادة تلك التيارات- وربما اصطفافاتها الاستراتيجية. (المصطلحات حسب ما هو متداول من مصطلحات في الأوساط البحثية الغربية).

تذهب أوروبا في طريق آخر -أو لنقل: إنها تُعيد بعث ذاتها القديمة على طريقتها ووفق مكنونها الحضاري- لتصبح أوروبا مختلفة، غير تلك التي قدمت نفسها بها «للآخر» ما بعد الحرب العالمية الثانية. فتلك الجماعات العنصرية والقومية والفاشية والدينية-المتطرفة (الشعبوية) الزاحفة لتولي الحكم في الدول الأوروبية، تطرح جدول أعمال يقلب أوضاع الحكم وحالة واتجاهات الفكر والثقافة والبناء المجتمعي، والعلاقات بين دول أوروبا والعلاقات الدولية أيضًا.

تلك الجماعات تُشكِّل تهديدًا لفكرة وحالة الاتحاد الأوروبي؛ إذ تطرح العودة لحالة الدولة القومية (الوطنية) المستقلة -بعضها يتحدَّث عن استعادة الاستقلال، وهو ما حدث فعليًّا بخروج بريطانيا وهو ما يطرح الآن في إيطاليا-، وهي تطرح شعارات وتقوم بممارسات ضد معتنقي الأديان غير المسيحية في مجتمعاتها -والإسلامية تحديدًا-؛ إذ تَعتبر وجود المسلمين تهديدًا لجوهر الثقافة والبناء المجتمعي الأوروبي-المسيحي، وهي ترفع شعارات طرد المهاجرين بما في ذلك الحاصلون على الجنسيات الغربية، وهو ما يُغيّر مضامين العقد الاجتماعي في الدول الأوروبية، وبعضها يطالب بانسحاب دولها من حلف الأطلنطي، والاعتماد على قوتها الذاتية في الدفاع عن مصالحها.

وقد أصبح وجود تلك الجماعات حالة عامة تشمل كل دول أوروبا؛ إذ لا دولة واحدة في أوروبا لا تعيش وقائع هذا التغيير. الدول الكبرى في أوروبا (كألمانيا وفرنسا وإيطاليا) مثلها مثل الدول الصغرى (كالدانمارك وهولندا والسويد) تشهد نفس الظاهرة. وذلك أمر مختلف عن ما كان عليه الحال قبل الحرب العالمية الثانية؛ إذ انحصرت ظواهر الفاشية والنازية والقومية المتطرفة والرفض على أساس ديني، في ألمانيا وإيطاليا بالدرجة الأولى.

وهي مجموعات تتعايش وتستفيد من الأجواء الليبرالية -وآليات الديمقراطية- في تطورها وصعودها، إلا أن المخاوف حقيقية من انقلابها أو انقلاب بعضها على تلك الأجواء والقوانين في مرحلة تالية، كما كان الحال قبل الحرب العالمية الثانية؛ إذ وصلت مثل تلك التيارات للسلطة عبر آليات الديمقراطية، ثم انقلبت عليها وحكمت شعوبها بديكتاتوريات دموية.

ولقد ظهرت تلك الجماعات في البداية كمجموعات هامشية، وبدت كمحاولة مجتمعية للتعبير عن الاختناق الفكري والسياسي والاقتصادي، ووقتها انحصر دورها في تشكيل مناخ عام ضاغط على التيارات الحاكمة.

لكنَّ نفوذ تلك الجماعات تعاظَم خلال السنوات الأخيرة. وكل انتخابات بلدية أو برلمانية أو رئاسية لا عين ولا هاجس للمتابعين، إلا على كيف تقدمت تلك الجماعات، وكم أحرزت من الأصوات؟، وكم مقعدًا حصدت؟

لقد توسَّع الدعم المجتمعي لها، وصارت قوة انتخابية منافسة، بل صارت تنافس على المراكز الأولى للحكم عبر الانتخابات. وإذا كانت ممثلة هذا التطرف في فرنسا -مارلين لوبان- قد نافست على موقع الرئاسة الفرنسية الأخيرة، وحصلت على 41.5 في المئة من أصوات الناخبين، فقد حصلت جورجيا ميلوني -ممثلة التطرف في إيطاليا- على المركز الأول في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، على رأس تحالف يضم جماعات أخرى من نفس الصنف السياسي.

 وهكذا، فإذا جرت حركة التغيير لمصلحة تلك الجماعات، ببطء ملموس عند بداية إطلال تلك المجموعات برأسها، فكلّ العقبات التي أبطأت سيرها بأوروبا نحو هذا التغيير أُزيحت الآن.

لقد جاءت حرب أوكرانيا لتُعزّز نتائج تراجع الغرب دوليًّا -وحضاريًّا-، ولتوسّع نتائج أزمة كورونا، ولذلك يمكن القول: لم يبقَ وقت طويل حتى نكون أمام أوروبا مختلفة.

جدول أعمال أوروبي مختلف

قدّمت دول أوروبا نفسها للعالم بعد الحرب العالمية الثانية، كدول متسامحة تحترم الآخر- الديني القومي- في الخارج والداخل، ورفعت شعارات العولمة وانفتاح الأسواق والانفتاح على الآخر وحرية حركة الأموال ونقل السلع وانتهاء السيادة الشكلية للدول، وصارت تُطوّر أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية الداخلية للوصول إلى مرحلة الرفاه. بما أدى لانتشار دورها ونفوذها في العالم. كما أدى إلى وصول مهاجرين كثيرين من الدول الأخرى للعمل -خاصة الدول القريبة كالدول العربية- تلبيةً لطلب التطور والتنمية في الدول الأوروبية.

وتحركت أوروبا نحو تشكيل منظومتها الإقليمية لتطوي صفحات الاقتتال البيني -الذي وصل إلى ذروته خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية-، ولتحوّل علاقاتها البينية المتنافرة والمتقاتلة سابقًا إلى علاقات تكاملية، حتى صار الاتحاد الأوروبي قطبًا دوليًّا؛ إذ شهد تشكيله اندفاعة كبرى بعد انتهاء الحرب الباردة، حتى صار يتطلع للعب دور دولي سياسي وعسكري، مستقل عن الولايات المتحدة.

لكن كل تلك الرؤية، تخلي مكانها الآن، لمن يقدم أطروحات أخرى، تُشكّل انقلابًا على كل ما جرى ترسيخه خلال تلك المرحلة.

ظهرت جماعات فاشية وقومية (وطنية) وعرقية ودينية -متطرفة، تطرح أفكارًا ورؤًى وجدول أعمال مختلفًا. بدأت أوروبا تشهد أحداث نبش القبور، واضطهاد المجموعات الدينية غير المسيحية، ومطالبات بإعادة المهاجرين -العاملين واللاجئين إلى بلدانهم-، وتكاثرت الأعمال الإرهابية المعادية للإسلام والمسلمين، فجرى نَشْر الرسوم المسيئة، وارتُكبت علانية جرائم حرق المصاحف. كما ارتفعت شعارات الدفاع عن المسيحية -في مجتمعات علمانية-، ورُفعت شعارات عرقية؛ إذ بات هناك مَن يجاهر بعلو العرق (الألماني أو الإيطالي أو الفرنسي) على غيره. وكذا رسمت خطط للانسحاب من الاتحاد الأوروبي، للحفاظ على الذات القومية لكل مجتمع على حدة.

وكان اللافت أن قُوبلت تلك الممارسات بتسامح قياسي مِن قِبَل السلطات الحاكمة؛ إذ اعتبرتها ممارسة لحرية الرأي -وهي التي تتحرك بمنتهى القسوة، وبكل أدواتها، إذا شكك أحد في المحرقة أو أرقامها حتى-، وإن بدت تيارات الوسط الحاكمة، وكأنها تتماهى مع تلك الجماعات أو حتى في وضع المزايدة عليها سياسيًّا وانتخابيًّا. وكان الأخطر أن تحوّلت حالة الفكر والممارسات التي ابتدعتها تلك الجماعات إلى قوانين رسمية، كما هو الحال في قوانين حظر الحجاب وبناء المساجد.. إلخ.

وهكذا، فكما رأينا المتطرف الهولندي رئيس حزب الحريات، خيرت فيلدرز، يقول: «لا للإسلام لا لرمضان»، رأينا الرئيس الفرنسي ماكرون يقول -2020م-: «إن مسلمي فرنسا يمكن أن يُشكِّلوا مجتمعًا مضادًّا، وإن الإسلام يواجه أزمة في جميع أنحاء العالم»، ورأيناه يتحدث عن خطة لمعالجة ما اعتبره مجتمعًا موازيًا في فرنسا.

وكان اللافت أيضًا أن ظهرت أفكار وممارسات شبيهة في الولايات المتحدة (خلال حكم ترامب خاصة)، وهو ما أظهر أن المجتمعات الغربية، لم تتخلّص من إرثها الفكري والثقافي، وأنها تعيش حالة ارتداد عامة وليست أوروبا وحدها.

لكن الأغرب والأشد وضوحًا في هذه الظاهرة بإجماليتها، أنها تمترست وتمحورت حول رفض الإسلام وخطر المهاجرين المسلمين، وكأننا أمام إحياء للفكر الذي ساد أوروبا خلال مرحلة ما سُمِّي بالحروب الصليبية.

 

لماذا ظهرت تلك الجماعات؟

تميل أغلب التحليلات بشأن أسباب نشأة وتوسع تلك الجماعات، للأخذ بما تطرحه من شعارات، والدفع بها كأسباب لتفسير وجودها. فإذا كانت ترفع شعارات طرد المهاجرين؛ إذن فالهجرة سبب لظهور تلك الجماعات. وإذا كانت تطرح مواجهة الإسلام ومعتنقيه على أرض الدولة، فإن أحد أسباب نشأة تلك الجماعات، يعود لتوسع أعداد معتنقي الإسلام وممارساتهم الدينية ومظهرهم وملبسهم المختلف.

وإذا كانت أوروبا تتحدث دومًا عن تهديد عرقي وثقافي تُشكّله جماعات وافدة -المهاجرين- على مجتمعاتها أو على السكان الأصليين؛ فالسبب هو الشعور بالخطر على الذات الحضارية، وهكذا الحال بشأن حديثها عن ضرورة الحفاظ على الذات والهوية الوطنية أو القومية، وعلى أن المجتمع المسيحي مهدَّد مِن قِبَل أديان أخرى.

غير أن كل تلك الأسباب ليست إلا محفزات لنشأة الظاهرة. فيما تعود نشأة وقوة تلك الجماعات لأسباب أعمق؛ حيث إن تلك الجماعات تعبير عن حالة ارتدادية وعكسية لنتائج العولمة الغربية؛ فإذ أرادت النخب العلمانية الحاكمة في الغرب، اعتماد فِكرها وجعله فكرًا نهائيًّا مكتملاً -لا فكر بعده ولا قبله-، وإذ صارت تَفرضه على المجتمعات الأخرى، فقد تحوّل الأمر إلى الضدّ في مجتمعاتها نتيجة الاحتكاك الحضاري العميق الذي يشهده العالم خلال العولمة، وجراء اتساع أعمال الهجرة للعمل ولتوسع السياحة ولسرعة حركة رأس المال وتوسع دور ونشاط الشركات المتعددة الجنسيات، واكتساح الإعلام الفضائي ومواقع التواصل الاجتماعي للعقول في كلّ مجتمعات العالم.

وتلك الجماعات تعبيرٌ عن العودة للذات والمكنون الحضاري الغربي، ضمن ظاهرة عامة تشمل كل حضارات العالم للبحث عن حلول لمشكلات المجتمع المعاصر، وإذا كانت المجتمعات الإسلامية تعود في مواجهة مصاعبها وتراجعها لإحياء الإسلام (مثلاً)، فالمجتمعات الغربية تعود إلى ذاتها هي الأخرى أيضًا. لقد ظهرت تلك الجماعات، كاستجابة مجتمعية لتحديات لم تنجح التيارات والأحزاب القديمة في تقديم إجابات متناسبة معها.

وإذ تطرح تلك الجماعات منظومات فكرية مضادة للاتحاد الأوروبي وتنشد الارتداد إلى مرحلة الدولة القومية، فذلك يعود إلى طبيعة الاختلافات في اللغة والثقافة وطبيعة الصراع التاريخي بين القوميات الأوروبية، كما أن فترة النهضة الأوروبية قد بُنِيَت على فكرة الدولة القومية أو الوطنية.

وتلك الجماعات بمثابة عنوان لتراجع الحضارة الغربية الحديثة ولتراجع الغرب على الصعيد الدولي وهي نتاج لتغول الفكر الليبرالي (الليبرالي الجديد) بما يحدثه من صدمات للمكونات المحافظة داخل المجتمعات الغربية، والأمر واضح في طبيعة الجمهور المصطف حول ترامب والمناطق الجغرافية-السكانية الداعمة له في الولايات المتحدة.

أما لماذا ارتبط صعود تلك التيارات بالعداء للإسلام والمسلمين تحديدًا، وفق ما يسمى الآن بـ«الإسلاموفوبيا»، فنحن هنا أمام حاله مزدوجة، وجهها الأول يتعلق بسياسة حكومية غربية، سعت إلى تنميط المسلمين ووصمهم بالإرهاب، ووجهها الثاني يتعلق بتلك الحركات كمكون اجتماعي. وهو ما يستدعي البحث عن دور رسمي في التمهيد والدفع لنشوء تلك الجماعات.

مرحلة انحدار أوروبية

بدأت أوروبا نهضتها العلمية والفكرية في القرنين السادس والسابع عشر، وصارت تقدّم أفكارها نموذجًا للحرية والتحضر والرقي، وبناء المجتمع المدني بسيادة القانون وحرية الفكر. ونشرت أفكار الفلاسفة ديكارت (1596-1650)، وشارل مونتيسكيو (1689-1755)، وجان جاك روسو (1712-1778)، وغيرهم كرُوّاد للتغيير والتنوير في العالم.

لكنَّ كل تلك الأفكار سقطت وفقدت تأثيرها في الخارج، بعدما أنتجت نهضة أوروبا الفكرية والعلمية ظاهرة استعمار واستعباد للدول والشعوب الأخرى. وسقطت كليًّا حين تحولت كل تلك الأفكار إلى وقود للحرب العالمية الأولى بين الدول الأوروبية. ومرة أخرى انهارت سمعة أوروبا وضعف دورها المادي والفكري، بعد ما جرى في الحرب العالمية الثانية التي أشعلتها أوروبا أيضًا.

وإذ أعادت أوروبا توصيف وتقديم نفسها للعالم بعد الحرب العالمية الثانية، وتطوّرت وتقدّمت، فهي تنحدر الآن مجددًا. تلك المجموعات لا تظهر كعنوان لنهضة أوروبية، وإنما هي عنوان من عناوين ومن نتائج تراجع أوروبا. وتلك المجموعات لا تطرح سوى «اشتباك مجتمعي»، وهي لا تقدم منظورًا لنهضة أخرى. هي حالة ارتدادية لا حالة تطورية؛ فنشاط تلك التيارات المتطرفة والانعزالية في الغرب، ودفاعها عن الذات الحضارية، لا يجري تماهيًا مع تطوُّر نهضوي، كما الحال في النماذج الدولية الإنسانية الأخرى (الصين والهند وروسيا كأمثلة على ذلك)، بل هي نشاطات تجري مدفوعة بعوامل انحدار وتراجع، ولذا تجري تلك العمليات بالعودة إلى المفاهيم الأشد عدوانية وشراسة ضد الآخر، وباستعادة الميراث الاستعماري في أسوأ صوره.

الأزمة الأوكرانية كاشف ودافع

مثَّلت الأزمة الاوكرانية قوة دَفْع جديدة لتعميق التطورات الداخلية في الدول الغربية، باتجاه قوة تلك المجموعات.

كانت الحرب الأوكرانية كاشفة حين جرى استقبال المهاجرين الأوكرانيين في الدول الأوروبية -تحت ضغط الأعمال العسكرية الروسية- بالورود والتسهيلات ودون تأشيرات مع توفير مناطق السكن، بعد عدة أشهر من استخدام السلاح وقنابل الدخان على الحدود لمنع مرور مهاجرين من دول إسلامية تعرَّضوا للقتل ولتدمير منازلهم، من نفس القوات الروسية -مضافًا إليها الميلشيات الإيرانية وقوات بشار-، وقد قيل بوضوح عن لاجئي أوكرانيا: «هؤلاء ليسوا مسلمين من الشرق الأوسط، هؤلاء مسيحيون».

وجاءت الحرب الأوكرانية كاشفة على صعيد المواقف الفكرية والسياسية والاستراتيجية؛ إذ ظهر الساسة الغربيون (والمجتمعات) في موقع الداعم للأوكرانيين في صد اعتداء روسيا بالسلاح والإعلام والاقتصاد، فيما كانوا هم أنفسهم في موقع الداعم أو الصامت على الاعتداءات الأمريكية والبريطانية في العراق وأفغانستان وللاعتداءات الصهيونية في فلسطين، وفي موقع الداعم للنشاط الاستعماري الفرنسي في القارة الإفريقية.. إلخ.

وجاءت الحرب الأوكرانية لتدفع بفكرة العرق والقومية؛ إذ تجري أعمال التعبئة الفكرية والسياسية ضد روسيا على تلك الأسس. وكذا يجري الآن رَفْض مساندة أوكرانيا على أُسُس الاختلاف العرقي والقومي.

والأهم، أن الأزمة الأوكرانية جعلت المجتمعات الغربية في وَضْع الباحث عن حلول لأزمات صعبة ومباشرة وخطرة، بما يفاقم حالة التضاغط الداخلي، ويزيد الحراك الساعي للحصول على إجابات.

لقد زادت الأزمة الأوكرانية من أزمات أوروبا، وأوصلت بعض المجتمعات إلى وضع الاختناق. تلك الأزمة هيَّأت الأوضاع أكثر لإظهار فشل حكومات الوسط -بكافة أشكالها من يسار الوسط ويمين الوسط-، ووفَّرت بيئة اجتماعية لتقوية دور تلك المجموعات، التي تحرَّكت خلال الفترة الأخيرة «جماهيريًّا» لاستثمار موجات التضخم وارتفاع الأسعار، وأزمات الطاقة، وصارت تظهر للجمهور -وتقود أشكال تعبيره عبر التظاهرات- في الدول الأوروبية صحة أطروحاتها بفشل الاتحاد الأوروبي، وتطالب بتحرك الدول على أساس وطني (قومي)، ووفق مصالحها المنفردة. وما يزيد من تأثير تلك الأزمة أنها أزمة متطاولة، وأنها تأتي تالية لتدفق الخلافات بين الدول وداخل المجتمعات خلال أزمة كورونا.

وتلك الأزمة ستزيد من بحث وتفتيش الغرب في ذاته أو تجاربه وأفكاره، لعلاج مشكلات تراجعه. فكلما شعرت المجتمعات بالتراجع أو واجهت مشكلات كبرى تهدّد كيانها، ذهبت إلى تاريخها ومكنونها الحضاري وصارت تُقلّب في تجاربها، وهو ما سيمثل وقودًا جديدًا لنشاط تلك الجماعات.

 


أعلى