إن المؤمنين قومٌ شغلتهم عيوبهم عن عيوب الناس، فاشتغلوا بإصلاح أنفسهم، وشغلوا أوقاتهم بما يُقرّبهم من الله -تعالى- ورضوانه ودار كرامته. وأعرضوا عن الدنايا وسفاسف الأمور، واشتغلوا بالغايات الحميدة، والمقاصد السَّنِيَّة.
اللغو
هو الكلام الفارغ،
والحديث الذي لا طائل تحته، ولا حاصل وراءه. بل هو الهذيان الذي يَقتل الوقت دون
أن يُضيف إلى العقل زادًا جديدًا، ولا معرفة مفيدة. وهو البذيء من القول الذي
يُفسد القلب واللسان، سواءٌ وُجِّهَ إلى شخصٍ أم حُكِيَ عن غائبٍ.
قال
الإمام البيهقي عن اللغو: «واللغو: الباطل الذي لا يتصل
بقَيْد صحيح، ولا يكون لقائله فيه فائدة، وربما يكون وبالًا عليه. ثم ينقسم فيكون منه
أن يتكلم الرجل بما لا يَعنيه من أمور الناس، فيُفشِي سرائرهم، ويذكر أموالهم وأحوالهم
من غير حاجة به إلى شيء من ذلك، عادة سوءٍ ألفها، فلا يريد النزوح عنها. ويكون منه
الخوض فيما لا يَحِلُّ من ذِكْر الفُجَّار والفجور والملاهي.. ويكون منه إنشاء الأشعار
المقولة في ضروب الأكاذيب.. وكل ما كان لغوًا فينبغي ألا يُشتغل به»[1].
إن
القلوب المؤمنة لا تلهو، ولا تلعب، ولا تلغو ذلك اللغو، ولا تَستمع إلى ذلك الهذر
من القول؛ لأنها مشغولة بتكاليف الإيمان، وتَبِعات الآخرة، وتصون أوقاتها أن تضيع
فيما لا يعود على المرء بالنفع في الدنيا والآخرة.
ولأجل
ذلك، فهي مُعرِضة عن اللغو ولا تخوض فيه؛ قال الله -تعالى-: {وَإذَا سَمِعُوا
اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ
سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْـجَاهِلِينَ} [القصص: ٥٥]؛ أي: لا يخالطون
أهل اللغو، ولا يعاشرونهم. وإذا سَفِه عليهم سفيهٌ، وكلّمهم بما لا يليق بهم
الجواب عنه، أعرضوا عنه ولم يقابلوه بمثله من الكلام القبيح، ولا يَصْدر عنهم إلا
الكلام الطيب[2].
وقال
الله -سبحانه وتعالى- عن عباد الرحمن: {وَإذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا
كِرَامًا} [الفرقان: 72]؛ قال الإمام ابن جرير الطبري في تأويل هذه الآية
الكريمة: «إن الله -تعالى- أخبر عن هؤلاء
المؤمنين الذين مدَحهم بأنهم إذا مروا باللغو مرُّوا كرامًا. واللغو في كلام العرب
هو: كل كلام أو فِعل باطل لا حقيقة له ولا أصل، أو ما يُستقبَح. فسبُّ الإنسانِ
الإنسانَ بالباطل الذي لا حقيقة له من اللغو، وذِكْر النكاح بصريح اسمه مما
يُستقبَح في بعض الأماكن؛ فهو من اللغو، وكذلك تعظيم المشركين آلهتَهم من الباطل
الذي لا حقيقة لما عظّموه على نحو ما عظّموه، وسماع الغناء مما هو مُستقبَح في أهل
الدين، فكل ذلك يدخل في معنى اللغو... فتأويل الكلام: إذا مرُّوا بالباطل فسمعوه
أو رأوه {مَرُّوا كِرَامًا}: مرورهم كرامًا في بعض ذلك بأن لا يَسمعوه،
وذلك كالغناء»[3].
إن
المؤمنين قومٌ شغلتهم عيوبهم عن عيوب الناس، فاشتغلوا بإصلاح أنفسهم، وشغلوا
أوقاتهم بما يُقرّبهم من الله -تعالى- ورضوانه ودار كرامته. وأعرضوا عن الدنايا
وسفاسف الأمور، واشتغلوا بالغايات الحميدة، والمقاصد السَّنِيَّة.
وهم
أيضًا لا يجاملون أهل الباطل واللهو، ولا يَجلسون في مجالسهم، ولا يرتادون
نواديهم، ولا يُكثّرون سوادهم، حتى لا تقول لهم الملائكة عند احتضارهم تبكيتًا
وتوبيخًا: {قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ
قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء: 97].
ولأجل
هذا، يجب على المؤمنين هَجْر مجالس: اللهو، واللعب، والباطل، والغناء، والموسيقى،
والغيبة، والنميمة، والسخرية، والاستهزاء بالناس.
وفي
قوله -تعالى- عن صفات المؤمنين الذين يَرِثون الفردوس هم فيها خالدون: {وَالَّذِينَ
هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: ٣]؛ أي يعرضون عن السقط وما لا
يُعتدُّ به من كلام وغيره، ولا نفع منه ولا فائدة فيه[4].
«وإذا
كانوا معرضين عن اللغو، فإعراضهم عن المحرَّم من باب أولى وأحرى. والعبد إذا ملك لسانه
وخَزَنه -إلا في الخير- كان مالكًا لأمره، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل - رضي الله عنه - حين وصَّاه بوصايا
قال: «ألا أُخبرك بملاك ذلك كلِّه؟»
قلت: بلى يا رسول الله. فأخذ بلسان نفسه، وقال: «تكفّ
عليك هذا». فالمؤمنون من صفاتهم الحميدة:
كَفُّ ألسنتهم عن اللغو والمحرمات»[5].
ولخطورة
اللغو في تضييع أوقات الناس وهدر أعمارهم فيما لا نفع ولا فائدة فيه -إذ هي
رأسمالهم الذي ينبغي أن يتزوَّدوا به لمعادهم وآخرتهم-؛ جاء ذِكْره في الكتاب
العزيز بين ركنين عظيمين من أركان الإسلام هما الصلاة والزكاة. والصلاة والزكاة
شأنهما عظيم، ولا يُفصل بينهما إلا بعظيم. قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ
الْـمُؤْمِنُونَ 1 الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ 2 وَالَّذِينَ هُمْ
عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ 3 وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ}
[المؤمنون: ١ - ٤][6].
وذلك
ليتنبَّه المؤمنون، ويحذروا من اللغو ويتوقوه، وينزّهوا أنفسهم عن الخوض فيه؛ لأنه
سَفَه ونَقْص في المروءة، ومَضْيَعة للزمان، وهو الوقت النفيس الذي سيُسْأَل عنه
الإنسان يوم القيامة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لن
تزول قدمَا عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن عمره فيما أفناه، وعِلْمه فيما عمل به، وعن
ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه»[7].
ومجمل
القول:
إن الإنسان العاقل، الكيِّس الفَطِن، الذين
يحسب حساب الآخرة، ويحمل همّها، ويريدها ويسعى لها، حين يقارن بين عمره في الدنيا
وهو قصير، سريع الزوال؛ إذ لا يتجاوز إذا عَمَّرَ مائة عام، وبين الحياة في
الآخرة، وهي الحياة الحقيقية الأبدية التي لا نهاية لها؛ إذ تساوي كل ثانية من
عمره في هذه الدنيا آلاف الملايين من السنين في الآخرة، سيستخلص العبرة من أهمية
الوقت النفيس، فلا يُضيّع زمانه فيما لا يعود عليه بالنفع في المعاد. بل يسعى
جاهدًا إلى استثمار جميع أوقاته في العبادة والدعوة إلى الله تعالى، ونشر العلم
النافع، والحثّ على العمل الصالح، والمسابقة إلى فِعْل الخيرات والمبادرة إلى
الطاعات والقُرُبات.
[1] البيهقي: شُعَب الإيمان، 7/415.
[2] ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، 6/245.
[3] الطبري: جامع البيان، 8/6176.
[4] عبد المنعم تعيلب: فتح الرحمن في
تفسير القرآن، 4/2265 (بتصرف).
[5] السعدي: تيسير الكريم الرحمن في تفسير
كلام المنان، ص 640. والحديث أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الفتن، برقم 3973،
2/1314.
[6] نحو عودة صادقة للقرآن، ص 44.
[7] أخرجه الترمذي في سننه، كتاب صفات
القيامة، برقم 2417، 4/612. وقال: حديث حسن صحيح.