• - الموافق2024/11/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
من القلب إلى الإسلاميين في تونس

مكايد الشيطان..وطرق الوقاية منها

سقط النظام التونسي بفضل الله – تعالى – ثم بصلابة الشعب التونسي، وبسقوطه تهاوت كثير من قلاع الظلم والبغي والاستبداد، وبدأ الناس يتنفسون الصعداء ويذوقون طعم الحرية والكرامة.

هرب الرئيس المخلوع غير مأسوف عليه، لكن بقيت أحزاب وتيارات وأعلام يسارية وجدت في عصره مناخاً خصيباً لاجترار الفكر اليساري وتسويقه في الساحة التونسية، وها هي ذي تستفز الشعب التونسي المسلم بدعواتها الإلحادية، وبخطابها المتمرد على ثوابت الشريعة وأصول الإسلام.

والآن تشهد تونس مخاضاً كبيراً يسعى لتشكيل الهوية الجديدة لها؛ فالشعب الذي حُرِم من دينه وعقيدته وقرآنه خلال العقود الخمسة الماضية يتطلع بكل شوق إلى العودة إلى منابعه الأصيلة وحياضه الكريمة، ولكن التيارات اليسارية تشده بتشنج وتوتر ليولي وجهه شطر فرنسا؛ بحجة الحرية تارة، وبحجة الحداثة تارة أخرى، ونحوها من الحجج المتهافتة، وتحاول جاهدة تحريضه على الإسلاميين، واستعداءه عليهم.

إنَّ صراع الهوية الذي تتسارع حدته مع مرور الأيام يتطلب من العلماء والدعاة وأهل الغيرة والإسلام أن يقوموا قومة رجل واحد لاستنقاذ البلد من طغيان اليسار، وتغول الاتجاهات العَلمانية الإقصائية؛ وذلك لن يتأتى إلا بتحصين المجتمع التونسي من لوثاتهم العقدية وغلوائهم الفكرية.

ومع خطورة هذه المعركة فإنني أشفق على إخواني الدعاة والمصلحين في تونس من خلافاتهم الداخلية التي أراها تُضعِف قوتهم، وتشتت جمعهم، وتوهن بنيانهم، وربنا - سبحانه وتعالى – حذرنا من ذلك بقوله: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46].

ومن منطلق الشراكة في المسؤولية، والمحبة التي تجمع بيننا، وواجب النصيحة الذي أُمرنا به شرعاً، أذكِّر إخواني الفضلاء ببعض الوصايا التي أرجو أن ينفعنا الله - تعالى - بها جميعاً، والذكرى تنفع المؤمنين:

أولاً: قوَّتكم في اجتماعكم:

مما لا تخطئه عين الزائر إلى تونس ذلك الشرخ الغائر بين الإسلاميين – وخصوصاً بين النهضويين والسلفيين – الذي يمتد أثره في معظم الطبقات الدعوية، ويؤثر فيها تأثيراً بالغاً. ولا شك أنَّ هناك اختلافات منهجية وفكرية حقيقية لا يمكن تجاوزها، أو التهوين من أمرها، لكننا أمام خيارين:

أحدهما: أن نشتغل بأنفسنا، ونتدافع في المساجد والمحاضن الدعوية، ونتفاضح في وسائل الإعلام، ومحصلة هذا الخيار: تشتيت الجهود وإضعاف الدعوة. ولا شك أن الاتجاهات العلمانية والأحزاب الليبرالية هي المستفيد الرئيسي من ذلك التدافع، وستسعى لتوظيفه في ترسيخ جذور العلمانية، وما أجمل قول مصطفى صادق الرافعي - رحمه الله -: (أضيع الأمم أمة يختلف أبناؤها؛ فكيف بمن يختلفون كيف يختلفون؟)[1].

والثاني: أن ندير خلافاتنا بمنهجية علمية منصفة وواعية بخطورة المرحلة وأولوياتها الشرعية، وهذا - في ما أحسب - مقتضى الشرع والعقل. ومن أبرز معالم هذه المنهجية:

1 - إحياء فقه النصيحة، والتواصي بالحق، واتساع الصدر للنقد العلمي البناء، وهذا سبيل أهل الإيمان. قال الله – تعالى -: {وَتَوَاصَوْا بِالْـحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: ٣].

2 - في مثل هذه النوازل التاريخية ينبغي أن تتسع صدورنا لبعضنا، ونحيي فقه التطاوع والتعاون؛ امتثالاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً وأبا موسى إلى اليمن: «تطاوعا ولا تختلفا»[2]. والتطاوع يعني الحرص على التوافق والملاينة في الرأي، والبعد عن النزاع والشقاق، وهذا من أخلاق أهل الإيمان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمنون هيِّنون لينون، مثل الجمل الأنف: إن قِيْد انقاد، وإن سيق انساق، وإن أنخته على صخرة استناخ»[3]. وليس المقصود أن يكون الإنسان إمَّعة مقلداً ضعيف الشخصية؛ وإنما المقصود أن يكون المؤمن متواضعاً لين الجانب مع إخوانه، بعيداً عن التعصب والاعتداد بالرأي.

3 - أن يكون المعيار الذي توزن به الاجتهادات، وتُقوَّم به المواقف، هو ميزان الكتاب والسنة، امتثالاً لقول الله – تبارك وتعالى -: {فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59]. ولقوله – عز وجل -: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلَى اللَّهِ} [الشورى: 10].

والفرق بين الإسلاميين وغيرهم، أن الإسلاميين يحملون رؤية شرعية ملتزمة بنصوص الكتاب والسنة وقواعد الشريعة؛ تلك الرؤية التي تصوغ الحراك السياسي والفكري صياغة شاملة، وتضبط جميع المشاريع والمواقف وردود الأفعال بموازين منهجية محكمة؛ امتثالاً لقول الحق – تبارك وتعالى -: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]، ومن واجبنا جميعاً أن نرشد المسيرة الدعوية، ونحرص على سلامتها واستقامتها.

4 - الحرص على العدل والإنصاف، والبعد عن التحيز والتحامل: فالحق يُقبَل من كل مَنْ قاله كائناً من كان، والخطأ يرد على صاحبه كائناً من كان، تحقيقاً لقول الله – عز وجل -: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: ٨].

5 - من الواجبات التي ينبغي التواصي بها: السعي لإصلاح ذات البين الدعاة، ونزع فتيل التهارش والتقاطع؛ امتثالاً لقول الله - جل وعلا -: {إنَّمَا الْـمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10]، وقوله - عز وجل -: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [الأنفال: ١]، وقوله - سبحانه -: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114].

والعاقل المصلح تراه دائماً يدرأ فتنة التنازع، ويبادر إلى تأليف القلوب، ويتقي بالكلمة الطيبة والعمل الصالح كل تحريش أو فرقة تضعف صفوف الصالحين، وهذا من أعظم أنواع البر، وقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا بلى. قال: صلاح ذات البين؛ فإن فساد ذات البين هي الحالقة»[4].

وهذا العمل الجليل لا يكفي فيه الكلام النظري؛ بل ينبغي أن يسارع الرواد والقدوات إلى تقديم مبادرات عملية جادة لرأب الصدع وجمع الشتات وإثبات حُسن النية، وحثاً للطلاب والشباب على تحقيق ذلك.

6 - الالتزام بالأدب القرآني الكريم الذي يستحث العبد علـى طيب الكـلام ومقـابلة الإسـاءة بالإحسـان، كما قـال اللـه – تعالى -: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ 34 وَمَا يُلَقَّاهَا إلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 34 - 35]، وكما قال – سبحانه -: {وَيَدْرَءُونَ بِالْـحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} [القصص: 54].

7 - ومن مقتضيات ذلك الحذر من المهاترات الكلامية، والبعد عن اللجاج والخصومة والمحادة، وينبغي أن نتربى على أخلاق النبوة: فعـن أنـس بن مالك – رضي الله عنه – قال: لم يكـن النبـي صلى الله عليه وسلم سـبَّاباً ولا فحَّاشـاً ولا لعَّـاناً، كـان يقـول لأحـدنا عند المعتبـة: «مالـه ترب جبينه؟»[5]، وعـن عبـد اللـه بن عمـرو – رضي الله عنهما – قال: إن رسـول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً، وقال: «إن من أحبكم أحسنكم أخلاقاً»[6]، وما أجمل قول عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: (إن أحق ما طهَّر الرجل لسانه)[7]!

إن من الآفات المحزنة التي تفرق الصفوف، وتزرع الجفوة بين الإسلاميين: العصبية الحزبية أو المشيخية، وعقد المحبة والولاء والتناصر على أساسها، وهذا – بلا شك – من الجهل والظلم الذي يحجب العبد عن رؤية الحقيقة، وقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «من نصر قومه على غير الحق؛ فهو كالبعير الذي ردي، وهو ينزع بذنبه»[8].

وقد رسم أئمتنا المنهاج القويم الذي ينبغي الالتزام به، وبيَّنوه أوضح بيان، ومن ذلك قول الإمام ابن القيم: (عادتنا في مسائل الدين كلها (دقها وجلها)، أن نقول بموجبها، ولا نضرب بعضها ببعض، ولا نتعصب لطائفة على طائفة، بل نوافق كل طائفة على ما معها من الحق، ونخالفها في ما معها من خلاف الحق، لا نستثني من ذلك طائفة ولا مقالة، ونرجو من الله أن نحيا على ذلك ونموت عليه، ونلقى الله به، ولا قوة إلا بالله)[9].

8 - يجب أن تتسع الصدور للاختلاف في المسائل الاجتهادية التي يسوغ فيها الخلاف: فقد اختلف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم خيرٌ من كل من جاء بعدهم، ولم يؤثر ذلك الاختلاف بينهم في استمرار المودة والمحبة، وقد وصف شيخ الإسلام ابن تيمية خلافهم بقوله: (وكانوا يتناظرون في المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة، وربما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية مع بقاء الأُلفة والعصمة وأخوَّة الدين)[10]، ونقل الإمام الشاطبي عن بعض المفسرين وَصْف خلاف الصحابة - رضي الله عنهم - بقوله: (وكانوا مع هذا أهل مودَّة وتناصح، وأخوة الإسـلام في ما بينهم قائمة)[11].

وهكذا كان أئمة الإسلام من بعدهم جيلاً بعد جيل، ومن ذلك قول يونس الصدفي: (ما رأيت أعقل من الشافعي؛ ناظرته يوماً في مسألة ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى! ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة؟)[12].

إن الإسلاميين أحوج ما يكونون في هذا الوقت الحرِج إلى مثل هذا الأفق الواسع الذي يؤلف ولا يشتت، ويجمع ولا يفرق، ويؤسس ولا يهدم، ويترفع عن الصراعات الجانبية التي تفسد القلوب، وتذهب بحلاوة الدعوة.

ثانياً: إعادة تشكيل الصورة الذهنية للدعاة:

لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة يوم الهجرة اجتمع الناس لرؤيته (من أسلم منهم ومن لم يسلم بعد)، وكانت الأعناق مشرئبة لرؤيته، والنفوس تتشوق لملاقاته، والقلوب تتطلع إلى سماعه، وقد وصف هذا المشهد العظيم عبد الله بن سلام – رضي الله عنه – بقوله: (لما قَدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس إليه، وقيل: قَدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجئت في الناس لأنظر إليه، فلما استثبتُّ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب).

فما الخطاب الذي رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبدأ به في هذا المشهد العظيم؟

تحدث - بأبي هو وأمي - بأبلغ إشارة وأوجز عبارة تلخِّص معالم هذا الدين الجديد الذي يحمله إليهم، وتقدِّم رسالة واضحة تعمر قلوبهم بالطمأنينة والارتياح. قال عبد الله بن سلام - رضي الله عنه -: وكان أول شيء تكلم به أن قال: «أيها الناس! أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلُّوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام»[13]، وفي بعض روايات الحديث زاد: «وصِلُوا الأرحام»[14].

فهذه أربع جمل: واحدة منها تنظم علاقة العبد بربه سبحانه وتعالى، وثلاث جمل ترسم معالم المجتمع الجديد؛ فهذا الدين دين المحبة والوئام، جاء ليؤسس مجتمعاً تسوده الطمأنينة والأُلفة، والتراحم والتواصل الاجتماعي، وتقوم أركانه على السماحة والرحمة وبذل المعروف، وإخلاص القصد لله – تعالى – والتذلل بين يديه.

وتأمَّل قوله صلى الله عليه وسلم: «أفشوا السلام»، فهو يحمل دلالة مهمة تهدف إلى بسط الأمن والسلم، واستنقاذ الناس من الأثرة والتقاطع والتدابر والتعانف الاجتماعي، وتحرره من الفوضى والاحتراب والصراع الاجتماعي والطبقي، وقد فصَّل ذلك في أحاديث أُخَر، منها: أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟ فقال: «تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف»[15]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنون حتى تحابوا، أَوَلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم»[16] وهكذا يجب أن يكون المسلم بشوشاً مع الناس، معطاءً خدوماً، يتميز بالسماحة ولين الجانب.

إن بذل المعروف ونصرة ذوي الحاجات، وإشاعة المحبة والتسامح والابتسامة «تبسمك في وجه أخيك صدقة»[17] من أبلغ ما يزيل الاحتقان والتوتر في المجتمع، وهذه رسالة في غاية الأهمية يجب أن يحملها الدعاة والمصلحون إلى شعوبهم؛ فبهذه المعاني السامية تتشكل صورتهم الإيجابية المشرقة.

ومما أوصي به؛ أن يعتني به المصلحون: إنشاء مؤسسات اجتماعية؛ تعين الفتيان والفتيات، وتساعد الفقراء والمرضى والأيتام، وتفرِّج كربات المحتاجين والضعفاء، تقضي حاجاتهم... إلخ، وذلك كله من أعظم أبواب البر التي تفتح مغاليق القلوب، وتوثِّق الصلة بالمجتمع، وقد حث على ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة؛ فعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أي الناس أحب إلى الله؟ وأي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً. ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحـب إليَّ من أن أعتكـف في المسـجد - يعني مسجد المدينة - شهراً، ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه، ملأ الله قلبه رجاءً يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجته حتى يتهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزل الأقدام»[18]

إن ثمة حقيقة مهمة يجب الالتفات إليها في هذه المرحلة؛ فقد اجتهد الإعلام بمنابره العلمانية الإقصائية المختلفة في تشويه صورة الدعاة والمصلحين، وإثارة الرعب والخوف منهم، وتسويق صورة ذهنية سلبية ملؤها العبوس والتشدد والغلظة، وربما أسهمت أحياناً ممارسات بعض المنتسبين إلى الدعوة في تأكيد ذلك، وبناء قطيعة مع المجتمع.

وفي السياق نفسه من المفيد الإشارة إلى أنه ليس من الحكمة في شيء أن ينعزل الدعاة عن المجتمع، أو يشعروه أنهم كيان منفصل متميز عن بقية الناس، ومن المظاهر التي كنت قد رأيتها عند بعض الدعاة في بعض البلدان، وأراها تتكرر عند بعض الشباب في تونس، تميزهم باللباس الخليجي[19]، وهجرهم للسائد في مجتمعهم من مذهب الإمام مالك بن أنس، رحمه الله تعالى؛ وهذا ربما يعطي انطباعاً لدى العامة أن هؤلاء الدعاة يمثلون جسماً غريباً منبتاً منفصلاً عن البيئة التي يعيشون فيها!

وأحسب أن هذه المرحلة التي أعقبت الثورة المباركة أوجدت فرصة تاريخية للدعاة والمصلحين أن يخاطبوا الشعب مباشرة من داخله، بعيداً عن سطوة النظام القمعي البائد الذي كمم الأفواه وأفسد المناخ الفكري. وها هو ذا الشعب التونسي بل العالم كله يرصد خطاب الدعاة ومشاريعهم العملية، ومن مقتضيات هذه المرحلة أن نقدم خطاباً دعوياً مطمئناً متوازناً، قادراً على إعادة تشكيل الصورة الحقيقية للدعاة؛ تلك الصورة المشرقة التي تعبِّر فيها الأفعال المباركة والمبادرات الإيجابية عن طبيعة الرسالة التي يحملها الدعاة؛ فإذا رآهم الناس استبشروا بهم وصدَّقوهم، وعرفوا أن وجوههم ليست بوجوه الكذابين.

لكن هذا الخطاب المطمئِن لا يعني تحريف الشريعة، ومجاراة أهواء الناس، والانهزام أمام ضغوط الواقع، والتنازل عن بعض أصول الإسلام وثوابت الدين؛ فـــ «من التمس رضاء الله بسخط الناس كفاه الله مُؤْنة الناس، ومن التمس رضاء الناس بسخط الله وَكَلَه الله إلى الناس»[20].

ثالثاً: انفروا خفافاً وثقالاً:

مرت البلاد التونسية بعقود متتابعة من القطيعة عن دين الإسلام، واجتهدت الأنظمة القمعية الباغية في مسخ الهوية والمعتقَد، وتغريب الفكر والثقافة، وتشويه القيم والأخلاق الاجتماعية.

فلما ترهلت تلك القلاع العلمانية، ثم سقطت سقوطاً مدوياً، عاد الناس إلى دينهم عَوداً حميداً، وأدرك جميع المراقبين أن الشعب التونسي محب لدينه، فخور بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وأن تلك القطيعة المصطنعة التي فرضها النظام لم تنزع هذه المحبة، ولله الحمد والمنة.

لكن الشعب التونسي أحوج ما يكون في هذه المرحلة إلى الدعاة وطلبة العلم الذين يبصِّرونه بأركان الإسلام، ويعرِّفونه بأصول ما أنزل الله، عز وجل. ويجب أن تستنهَض جميع الطاقات العلمية الدعوية، وتستنفَر جميع الجهود للتذكير والتعليم والدعوة إلى الله؛ فلا مكان في هذه المرحلة التاريخية للعجَزَة القاعدين، أو للمتثاقلين الباطلين. فالأمر جدٌّ ليس بالهزل، ووصية الله - عز وجل - للأنبياء جميعاً - عليهم الصلاة والسلام - أن يأخذوا هذه المسؤولية بحقها، كما قال الله عز وجل -: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12]، وقال - سبحانه وتعالى - لبني إسرائيل: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ} [الأعراف: ١٧١]، ولم يترك النبي صلى الله عليه وسلم عذراً لأحد مهما كان تأهيله العلمي أو قدراته الدعوية؛ فهو يأمر الجميع بالبلاغ كلٌّ حسب وسعه، في قوله صلى الله عليه وسلم: «بلِّغو عني ولو آية»[21]، ويستحثهم على بذل المعروف في قوله: «لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق»[22]، وتقصير الدعاة أو تباطؤهم في ذلك يعني أنهم أسلموا الساحة لغيرهم من أهل الأهواء والمفسدين.

ويحسُن في هذا المقام تذكير الدعاة والمصلحين بما يأتي:

الدعوة إلى الله تحتاج إلى علم وبصيرة: وفي هذا يقول المولى جل وعلا -: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْـمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108]، والتحصيل العلمي يحتاج إلى إعداد وبناء، وكثيراً ما يحدث الخلط والاضطراب عند بعض الدعاة بسبب ضعف العلم وقلة الفقه في الدين. ومن فقه الإمام البخاري أنه قال في كتاب العلم من صحيحه: (باب العلم قبل القول والعمل، لقول الله - تعالى -: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ} [محمد: 19])[23].

من الفقه في الدين البدء بالأَوْلى فالأَوْلى، وتقديم ما يجب تقديمه شرعاً من الأعمال والبرامج الدعوية. وفي هذا يقول سلطان العلماء العز بن عبد السلام - رحمه الله -: «لا يخفى على عاقل أن تحصيل المصالح المحضة، ودرء المفاسد المحضة عن نفس الإنسان وعن غيره محمود حسن، وأن تقديم أرجح المصالح فأرجحها محمود حسن، وأن درء المفاسد فأفسدها محمود حسن، وأن تقديم المصالح الراجحة على المفاسد المرجوحة محمود حسن، وأن درء المفاسد الراجحة على المصالح المرجوحة محمود حسن، واتفق الحكماء على ذلك...»، ثم قال: «واعلم أن تقديم الأصلح فالأصلح، ودرء الأفسد فالأفسد، مركوز في طبائع العباد نظراً لهم من رب الأرباب... ولا يقدِّم الصالحَ على الأصلحِ إلا جاهل بفضل الأصلح، أو شقي لا ينظر إلى ما بين المرتبتين من التفاوت»[24].

وتحديد الأولويات يتطلب حواراً وتشاوراً بين الدعاة من أجل تشكيل رؤية دعوية تستوعب احتياجات المجتمع التونسي، وتنهض بالمشروع الإسلامي لتحقيق أهدافه بفاعلية وكفاية. أما الارتجال وغياب الرؤية فإنه سيؤدي - غالباً - إلى ضعف الأثر وقلة التأثير.

من أكبر التحديات التي تواجه العمل الدعوي: القدرة على توظيف الطاقات توظيفاً مثمراً، واستثمار الإمكانات الهائلة التي يملكونها بطريقة واعية. أما حينما نخفق في استيعاب طاقات الشباب، أو نقصِّر في توظيفها وتوجيهها؛ فإنها تضعف ثم تتآكل وتضمر، وربما وُجَِّهت بطريقة غير صحيحة تؤثر على قوة العمل الدعوي واستقامته.

ولا شك أن الطاقات التي يُعتمَد عليها - بعد عون الله تعالى - في أي مجتمع هي طاقات قليلة؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة»[25]. ولذا ينبغي العناية باكتشاف الرواحل وإعدادها وتوجيهها، لتتحقق ثمرتها، كما ينبغي السعي لإيجاد المشاريع العملية التي تحيي الهمَّة وتستوعب الشباب، وأحسب أن هذا العمل من أَوْلى الأولويات التي ينبغي أن يعتني بها الروَّاد والقادة.

من الوسائل العلمية المفيدة: الحرص على الانطلاق الميداني من خلال المؤسسات أو الجمعيات، وينبغي العناية بتنوع تخصصاتها (علمية، واجتماعية، وثقافية، وشبابية، ونسائية... ونحوها)؛ بحيث يتحقق الشمول والتكامل واستيعاب احتياجات المجتمع.

وبناء المؤسسات سيحقق - بإذن الله - مصالح دعوية كثيرة، لكنه يحتاج إلى تدريب وإعداد، للارتقاء بالطاقات الإدارية التي ستتعاون لإدارتها.

لقد تعرض المجتمع التونسي لعقود من التغريب والتجهيل، ونشأت أجيال لم تسمع إلا بالخطاب العلماني المعادي للدين، وليس من المتوقع أن يتغير المجتمع في يوم وليلة، فيجب على الدعاة أن يصبروا وتتسع صدورهم للمظاهر والأخطاء التي يشاهدونها، ويتحلوا بالرفق واللين في تصحيح الواقع ومعالجة الأخطاء، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة؛ فقد امتن عليه رب العالمين بقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]. وكانت وصية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضي الله عنهم بالتيسير والرفق عند تبليغ الدعوة؛ فعن أبي بردة - رضي الله عنه - قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم جده أبا موسى ومعاذاً إلى اليمن، فقال: «يسرا ولا تعسرا، بشرا ولا تنفِّرا، وتطاوعا ولا تختلفا»[26]. وقال لعائشة رضي الله عنها -: «يا عائشة! عليك بالرفق؛ فإنه لم يكن في شيء إلا زانه، ولم ينزع من شيء إلا شانه»[27]. وعن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه -: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يُحرَم الرفق يحرم الخير»[28].

أيها الأحباب! أمام الدعاة معترك صعب، يستخدم فيه بعض المناوئين من الملأ المتنفذين، وبعض الأحزاب اللائكية المعادية، أساليب رخيصة في المكر والمكايدة والمخاصمة، وينبغي أن يكون الـدعاة على يقظـة من ذلك، ويتميـزوا بالنباهة والـذكاء؛ حتى لا يُستدرَجوا إلى معارك جانبية على حساب القضايا الكبرى، أو يُستفَزوا للوقوع في مشكلات تكون ذريعة لإقصائهم أو تشويه صورتهم.


 


[1] مجلة الرسالة العدد (76).

[2] أخرجه: البخاري رقم (3038)، ومسلم (1733).

[3] أخرجه: العقيلي في الضعفاء الكبير رقم (214)، وحسنه لغيره الألباني في السلسلة الصحيحة رقم (936).

[4] أخرجه: أبو داود رقم (4919)، والترمذي رقم (2509). وصححه الألباني في صحيح الترمذي رقم (2509).

[5] أخرجه: البخاري رقم (6031) و (6046).

[6] أخرجه: البخاري رقم (3759) و (6029)، ومسلم رقم (2321).

[7] أخرجه: ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت وآداب اللسان (7/80)، رقم (99).

[8] أخرجه: ابو داود رقم (5117)، وصححه الألباني في صحيح السنن، وفي صحيح الجامع رقم (6575).

[9] طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص:393).

[10] مجموع الفتاوى: (24/172).

[11] الموافقات: (5/163).

[12] سير أعلام النبلاء: (10/16).

[13] أخرجه: الترمذي، رقم (2485)، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه رقم (1334).

[14] أخرجه: أحمد رقم (23784)، وصحح إسناده الأرنؤوط في تحقيقه للمسند، والألباني في السلسلة الصحيحة رقم (569).

[15] أخرجه: البخاري رقم (6236)، ومسلم رقم (39).

[16] أخرجه: مسلم رقم (54).

[17] أخرجه: الترمذي رقم (1956)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم (572).

[18] أخرجه: الطبراني في المعجم الكبير رقم (13468)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة، رقم (906).

[19] ذكر غير واحد من أهل العلم أن السنة أن يلبس المرء ما اعتاد عليه الناس في بلدانهم، ما لم يكن لباساً محرماً، وكرهوا ثوب الشهرة، وهو ما خالف ثياب أهل البلد. انظر: الآداب الشرعية لابن مفلح: (3/396 - 397).

[20] أخرجه: الترمذي رقم (2414). وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم (2311).

[21] أخرجه: البخاري رقم (3461)، ونقل ابن حجر عن المعافي النهرواني قوله: (ولو آية: أي واحدة؛ ليسارع كل سامع إلى تبليغ ما وقع له من الآي ولو قلَّ، ليتصل بذلك نقل جميع ما جاء به صلى الله عليه وسلم) فتح الباري: (6/498).

[22] أخرجه: مسلم رقم (2626).

[23] صحيح البخاري: كتاب العلم: (1/159).

[24] قواعد الأحكام في مصالح الأنام: (4/1 - 5).

[25] أخرجه: البخاري رقم (6498)، ومسلم رقم (2547).

[26] أخرجه: البخاري رقم (6124)، ومسلم رقم (1733).

[27] أخرجه: مسلم رقم (2594).

[28] أخرجه: مسلم رقم (2593).

أعلى