أنَّ أسلوب «التقديم والتأخير» إعجاز فيّاض عظيم التدفّق، لا يحدُّه حدّ، والتعرُّض لفيوضاته وتلمُّس أسراره لا يقف عند كلمة أوْ جملة، بلْ يشهد السياق في مجملهِ بستانًا مُورِقًا يانع الثمار والأزهار، لا تكاد تمد يدًا لقطف ثمرة إلاَّ وتجذبك الأخرى والأخرى، فل
«أفلا
ترضون - يا معشر الأنصار - أن يذهبَ النَّاس إلى رحالهم بالشاء والبعير، وتذهبون
برسول الله إلى رحالكم؟».
«التقديم
والتأخير»
مِن أوسع أساليب القرآن وأكثرها في كافَّة السياقات، ولهذا الأسلوب دور بارز لا
سيّما في آيات الأحكام وأساليب الحوار. وقد احتوى القرآن على صورٍ كثيرة من التقديم
والتأخير، فيبدأ بكلمة سابقة على غيرها: كتقديم
«السمع»
على
«البصَر»،
والعكس أحيانًا، وتقديم
«الإنس»
على
«الجن»،
والعكس أحيانًا، وتقديم
«السماء»
على
«الأرض»،
والعكس أحيانًا، وتقديم
«اللعب»
على
«اللهو»،
والعكس أحيانًا، وغير ذلك.
والتقديم نوعان: إمَّا أنْ يكون تقديم الألفاظ بعضها على بعض في غير العامل، وذلك
نحو قوله -تعالى-: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة:
173]،
وقوله: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: ٣].
أوْ تقديم اللفظ على عامله: ومِن هذا الباب تقديم المفعول به على فِعْله، وتقديم
الحال على فعله، وتقديم الظرف والجار والمجرور على فِعْلهما، وتقديم الخبر على
المبتدأ، ونحو ذلك. وهذا التقديم في الغالب يفيد الاختصاص.
ومثل هذا التقديم في القرآن كثير، مِن ذلك قوله: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ
نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: ٥]؛ فقد قدّمَ المفعول به {إيَّاكَ} على فِعل
العبادة، وعلى فعل الاستعانة دون فعل الهداية، فلم يقل إيَّانا اهدِ كما قال في
الأُولَيَيْنِ، وسبب ذلك أنَّ العبادةَ والاستعانة مختصَّتان بالله -تعالى-، فلا
يُعبَدُ أحدٌ غيره، ولا يُستعانُ بأحدٍ سواه. وهذا نظير قوله -تعالى-: {بَلِ
اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر: ٦٦]. وقوله:
{وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إن كُنتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:
172]؛
فقدَّم المفعولَ به على فعل العبادة في الموضعيْنِ؛ ذلك لأنَّ العبادة مختصة بالله
-تعالى-. وكذا قوله -تعالى-: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: ٣].
ومثل التقديم على فعل الاستعانة قوله -تعالى-: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْـمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم:
12]،
وقوله: {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} [الأعراف: ٩٨]. وقوله: {عَلَيْهِ
تَوَكَّلْتُ وَإلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: ٨٨]؛ فقدَّم الجار والمجرور للدلالة على
الاختصاص؛ ذلك أنَّ التوكّل لا يكون إلاَّ على الله وحده، والإنابة ليست إلَّا
إليه.
ومِن هذا النوع من التقديم: قوله -تعالى-: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ
وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} [الملك:
29]
؛ فقدَّم الفعل
«آمَنَّا»
على الجار والمجرور (به)، وأخّر
«توكَّلنا»
عن الجار والمجرور (عليه)؛ لأنَّ الإيمان لمَّا لم يكن منحصِرًا في الإيمان بالله،
بلْ لا بدَّ من الإيمان برسله وملائكته وكتبه واليوم الآخِر وغيره ممَّا يتوقف صحة
الإيمان عليه، بخلاف التوكل؛ فإنه لا يجوز إلَّا على الله وحده؛ لتفرُّده بالقدرة
والعلم، قدَّم الجار والمجرور فيه ليُؤذن باختصاص التوكل من العبد على الله دون
غيره؛ لأنَّ غيره لا يملك ضرًّا ولا نفعًا فيُتوكل عليه.
ومن ذلك أيضًا، قوله -تعالى-: {أَلا إلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} [الشورى:
53]؛
لأنَّ المعنى هو أنَّ الله مختصّ بصيرورة الأمور إليه دون غيره. ونحو قوله -تعالى-:
{إنَّ إلَيْنَا إيَابَهُمْ
25
ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية:
25،
26]؛
فإنَّ الإياب لا يكون إلاَّ إلى الله، وهو نظير قوله: {إلَيْهِ أَدْعُو
وَإلَيْهِ مَئَابِ} [الرعد:
36].
وقوله: {إلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْـمَسَاقُ} [القيامة:
30]
؛ فالمساق إلى الله وحده لا إلى غيره، وهذا التقديم ليس من أجل مراعاة المشاكلة
لرؤوس الآي -كما ذهب البعض-، بلْ هو لقصد الاختصاص؛ نظير قوله -تعالى-: {إلَيْهِ
مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} [يونس: ٤]، وقوله: {وَإلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ
كُلُّهُ} [هود:
123]،
وغير ذلك من الآيات.
ومِن هذا الباب: قوله -تعالى-: {إلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} [فصلت:
47]،
فعِلْم الساعة مختصّ بالله وحده لا يعلمه أحد غيره، ونحوه قوله -تعالى-: {إنَّ
اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان:
34]،
فقدَّم الظرفَ الذي هو الخبر على المبتدأ، وهو نظير الآية السابقة.
ونحو قوله: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إلَّا هُوَ}
[الأنعام:
59]؛
فقدَّم الظرفَ الذي هو الخبر على المبتدأ {مَفَاتِحُ الْغَيْبِ}؛ وذلك
لاختصاصه -سبحانه- بِعلْم الغيب... ألَا ترى كيف أكَّد ذلك الاختصاص بأسلوب آخَر،
هو أسلوب القصر فقال: {لا يَعْلَمُهَا إلَّا هُوَ}!
وقد يكون التقديم من هذا النوع لغرض آخَر: كالمدح والثناء والتعظيم والتحقير،
وغير ذلك من الأغراض، إلاَّ أنَّ الأكثر فيه أنه يُفيد الاختصاص.
ومِن التقديم الذي لا يفيد الاختصاص: قوله -تعالى-: {وَوَهَبْنَا لَهُ
إسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ} [الأنعام:
84]
، فهذا ليس من باب التخصيص؛ إذْ ليس معناه أنّنا ما هدينا إلاَّ نوحًا، وإنما هو
مِن باب المدح والثناء. ونحو قوله: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ
9
وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى:
9،
10]؛
إذْ ليس المقصود به جواز قهْر غير اليتيم ونهْر غير السائل، وإنما هو من باب
التوجيه؛ فاليتيم ضعيف، وكذلك السائل، وهما مظنَّة القهر، فقدَّمهما للاهتمام
بشأنهما.
تقديم الأهم والأوْلَى والأنسب
وقد يأتي التقديم والتأخير في سياق الآية القرآنية مِن باب تقديم الأهم
والأوْلَى، أوْ الأنسب، أوْ حسب مقتضَى الحال، أوْ مِن باب تقديم الأكثر على الأقل،
وغير ذلك.
ففي خطابه لآدم وحواء، قال: {وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا
تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة:
35].
وفي خطابه لبني اسرائيل، قال: {وَإذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ
فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا} [البقرة:
58].
نلاحظ في الآية الأولى قدَّمَ {رَغَدًا} على {حَيْثُ شِئْتُمْ} في
خطابه لآدم وحواء؛ لأنَّ طعامهما كان أهمّ عندهما، أمَّا المكان المدلول عليه
﴿حَيْثُ شِئْتُمَا﴾ فما كان يعنيهما في شيء؛ لأنهما اثنان، والجنَّة فسيحة لا
تَضيق بهما. بينما قدَّمَ ﴿حَيْثُ شِئْتُمْ﴾ في خطابه لبني إسرائيل؛ لأنه
أهم عندهم؛ إذْ كانوا جمعًا من الناس والمدخول فيه قرية، فقد يظنون أنها تضيق بهم
إذا سعوا فيها ابتغاء الرزق والسكْنى؛ فقدّم ما هو عندهم أهم. فبنو إسرائيل كانوا
هاربين من مصر، والهارب من مكان إلى مكان أول ما يَعنيه في المكان الجديد أن يسير
حيث شاء.
* في (سورة البقرة) عند حديثه عن الكافرين، قال: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى
قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ
عَظِيمٌ﴾ [البقرة: 7] بينما في سورة النحل، قال: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ
مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ
وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [النحل :87].
نلاحظ أنّ الترتيب بين (السمع - البصر - الفؤاد) اختلف كل مرة حسب مقتضى الحال؛ ففي
آية البقرة، أيْ: عندما يَنضُج الإنسان، ويصل إلى مرحلة التكليف الشرعي؛ يصير العقل
أعظم النِّعم التي أنعم اللهُ بها على الإنسان، ومِن ثمَّ يكون ترتيبها كما يلي:
فؤاد + سمع + بصر. أمَّا في آية النحل: فلمَّا كان مقتضى الحال بيان نعمة العطاء
الربّاني من جهة، وبيان أهمية ما ترتَّبَ على هذه النعمة مِن تحمُّل المسؤولية من
جهة ثانية، فذكر السمع أولًا ثمَّ البصر ثمَّ الفؤاد.
وعلى هذا الأساس؛ تترتَّب تلك الكلمات الثلاثة حسب أهمية الجوارح الثلاثة؛ أيْ:
أنَّ القرآن الكريم يُوظِّف هذه الكلمات الثلاث دائمًا وبصفة مطَّرِدة لا تتخلف
أبدًا بحسب مقتضى الحال؛ فإنْ كان الحال هو بيان عطاء النِّعم قدَّم السمع، ثمَّ
ثنَّى بالبصر، وأخَّر العقل، وإنْ كان مقتضى الحال هو بيان سَلْب النِّعم عكست
المسألة، فقدَّم العقلَ وأخَّر السمع.
كما أنَّ آية البقرة تحدثت عن
«الختْم»،
والختم إنما يكون للقلب؛ فالإنسان قد يسمع ويُبصِر حسيًّا، ولكنَّ قلبه مختوم عليه،
فابتدأ بذِكْر الختم على القلب فهو أول ما يُبتدَأ به قبل الختم على السمع والبصر.
أمَّا آية النحل؛ فإنها تُوافِق ما توصل له العِلْم بأنَّ أول حاسة تُخلَق للجنين
وهو في بطن أُمّه حاسّة السمع، فناسبَ سياق الآية أن يأتي بها أولًا لإتيانها أولًا
عند خَلق الجنين.
* في (سورة الأنعام) قال: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ
خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ [الأنعام:
201].
بينما في سورة غافر قال: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لاَ
إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ [غافر:
26].
لماذا قدَّمَ في سورة الأنعام ﴿لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ﴾ على قوله:
﴿خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾، بينما حدث العكس في سورة غافر؟!
عند التأمل في
«الأنعام»
نرى زعْم المشركين بتعدُّد الآلهة؛ حيث جعلوا له شركاء الجن، فقُدِّمتْ ﴿لاَ
إِلَهَ إِلاَّ هُوَ﴾؛ لأنَّ فيها نصًّا على نفي التعدُّد المزعوم. أمَّا في
«غافر»
فهو مَقام تعدُّد وتذكير بنِعم الله، فناسب ذلك تقديم ﴿خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾؛
فالتقديم هنا من باب تقديم الأنسب فالأنسب.
* في سورة الأنعام قال: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًا
شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ﴾ [الأنعام:112]. بينما قال في سورة الرحمن:
﴿يَا مَعْشَرَ الجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ﴾ [الرحمن:
33]. فلماذا قدَّم ذِكْر (الإنس) في الآية الأولى، بينما قدَّم ذِكْر (الجن) في
الثانية؟
قدَّمَ الإنس في الآية الأولى؛ لأنَّ الموضوع هو بيان أعداء الأنبياء وخصومهم،
ومعروف أنَّ شياطين الإنس أكثر تعرضًا لأهل الحق من شياطين الجن. وفي الآية
الثانية: قدَّم ذِكْر الجن على الإنس، والسرّ هنا يكمن في درجة القدرة والعِلْم
الذي يُمكِّن أحد الطرفيْن من النفاذ في السماء والخروج من الأرض، ومعلوم أنَّ
عِلْم الجن في هذا المجال أخطر وأقدم مِن عِلْم الإنس، أيْ: قدَّم الذي هو أعلم وهم
الجن؛ لأنهم أقدر من الإنس، كما هي حال مسترقي السمع {وَأَنَّا لَمَسْنَا
السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا...} [الجن: 8]
الآيات... وحديث ركوب بعضهم على بعض إلى السماء.
* في (سورة الأنعام) قال: ﴿وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلادَكُم مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ
نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾ [الأنعام: 151]. بينما قال في سُورة الإسراء:
﴿وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ
وَإِيَّاكُمْ﴾ [الإسراء:
13].
عندما نتأمل في الأنعام، نجد تقديم رزق المخاطَبين ﴿نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ
وَإِيَّاهُمْ﴾، وقال قبلها: ﴿مِنْ إِمْلاقٍ﴾. وفي الإسراء، نجد تقديم
رزق الأولاد ﴿نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ﴾، وقال قبلها ﴿خَشْيَةَ
إِمْلاقٍ﴾. فما السرّ في تقديم رزق المخاطَبين في الأنعام، وتقديم رزق الأولاد
في الإسراء؟
الجواب: إنَّ الخطاب في
«الأنعام»
مع قومٍ فقراء يهمّهم رزقهم أولاً، ثمَّ رزق أولادهم ثانيًا، فقدَّم رزقهم؛ لأنه
عندهم أهمّ. لكن في
«الإسراء»
الخطاب مع غير فقراء، لكنّهم يخشونَ وقوع الفقر في المستقبل فتجوع أولادهم، فرزق
أولادهم -لأنه مظنَّة القلّة المتوقعة- أهَمّ عندهم من رزقهم؛ لأنهم حاصلون عليه،
فقدَّم رزق أولادهم على رزقهم؛ لأنه أهمّ لديهم، والدليل التعبير في الأُولى بقوله:
﴿مِنْ إِمْلاقٍ﴾ أيْ: فقر واقع فعلًا، وفي الثانية ﴿خَشْيَةَ إِمْلاقٍ﴾؛
أيْ: فقر متوقَّع.
*
عند الحديث عن سيدنا زكريا -عليه السلام-، قال: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ
وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ﴾ [الأنبياء: 90]؛ فكيف
قدَّم البشارة بــ»يحيى»
على إصلاح الزوجة؟
أراد تقديم البشارة بالغلام؛ الذي كان مبتغاه ومطلبه الأعظم في الدعاء، أمَّا
إصلاح الزوجة؛ فهو من باب الزيادة في الهِبة على المطلوب تفضُّلًا مِن الله
ومِنَّة.
*
في (سورة الحج) قال: ﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا
وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ﴾ [الحج :32]؛
فقدَّمَ التحلية والزينة بالمجوهرات على اللباس؛ لبيان كثرة ما هم فيه من النعمة
والترف، فالتحلية فيها زيادة نعيم، ودليل على رغد عيْشهم، فالتحلية والزينة شيء
زائد عن اللباس.
*
في سورة الفرقان قال: ﴿لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا
خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا﴾ [الفرقان:49]؛ فقدَّمَ حياة الأرض
على حياة الناس؛ لأنَّ حياة الأرض سبب فيما بعدها من حياة الأنعام والناس.
*
في سورة فاطر قال: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ
عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ
سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [فاطر:32]، هذا من باب تقديم الأكثر
على الأقل.
*
في سورة الشورى قال: ﴿يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ
الذُّكُورَ﴾ [الشورى:49]. يقول الدكتور عبد العظيم المطعني[1]:
«جاء
تقديم الإناث على الذكور في معرض الهِبَات؛ لأنَّ الأنثى أقلّ شأنًا من الذَّكَر في
معرض الهِبَة لديهم، وكان العرب يرون هبتها عارًا، فقُدِّمَتْ الإناث على الذكور
تنبيهًا لهم على خطأ تلك النظرة؛ لإفادة أنَّ الأنثى والذَّكَر سواء كلاهما هبة من
الله. ثم عرّف الذكور دون الإناث كأنما هو جَبْر لتأخير ذِكْرهم».
*
في سورة الضحى قال: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ
9
وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ
10
وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: ٩ - ١١].
قدَّم حق اليتيم والسائل؛ لأنهما محتاجان، وتقديم حق المحتاج أولى. وقدَّمَ اليتيم
على السائل؛ لأنَّ اليتيم أضعف من السائل؛ إذْ هو لا يكون يتيمًا إلاَّ دون البلوغ
والرشد، أمَّا السائل فقد يكون بالغًا راشدًا.
هذا؛ ويتجلَّى أسلوب التقديم والتأخير في متشابهات القرآن:
*
من ذلك قوله -تعالى-: ﴿وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا
وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ [الأنعام: 70]. وقوله: ﴿اعْلَمُوا
أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ
وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ﴾ [الحديد: 20]. وقوله: ﴿وَمَا
هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ
لَهِيَ الْحَيَوَانُ﴾ [العنكبوت: 64].
فآيتا (الأنعام، والحديد) في معرض الحديث عن الدنيا وأحوالها، وفي تدرُّج من
الأدنى إلى الأعلى، فاللعب أول مراحل الطفولة، والتكاثر في الأموال والأولاد نهاية
المطلب وقمة اعتلاء عروش الدنيا. أمَّا آية (العنكبوت) فهي في معرض المقابلة بين
الدنيا والآخرة، فالأُولَى لهْوٌ ولعب، والثانية هي الحياة البالغة، وكان لأسلوب
المقابلة هنا حُسن التنسيق والإيقاع الجميل، وهي من جُملة طُرق العرض التي تُستعمل
في القرآن، وهي متكاملة متجانسة مع بقية الأساليب لأداء الأغراض والقِيَــم التي
يريدها المنهج القرآني. وقال الكرماني[2]:
بدأ بذِكْر اللهو؛ لأنه في زمان الشباب، وهو أكثر من زمان اللعب وهو زمان الصبا.
*
ومِن ذلك قوله -تعالى-: ﴿وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى
قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ
إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ﴾ [القصص: 20]. وقوله -سبحانه-: ﴿وَجَاءَ
مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا
الْمُرْسَلِينَ﴾ [يس: 20].
بالنظر إلى الآيتيْن نجد تقديم (رجُل) في الأُولى وتأخيرها في الثانية لاختلاف
المقام فيهما، ففي الآية الأولى تقدُّم كلمة (رجل) لتسليط الضوء عليه، ولفْت الذهن
إليه وما يحمله من نبأ المؤامرة، وبوصوله إلى موسى -عليه السلام- يتغيّر الموقف،
ويخرج موسى مُتخفيًا مترقّبًا.
أمَّا في الآية الثانية: فالمقام يقتضي تسليط الضوء ولفْت الانتباه إلى
«المدينة»
وطول المسافة التي قطعها هذا الرجل.
التقديم والتأخير بين
«السماء»
و«الأرض»:
عندما تُقدّم السماءُ على الأرض فهذا هو الأصل الوارد في سياقات القرآن؛ لحكمة
يقتضيها السياق ويتطلّبها المقام، كقوله -تعالى-: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [فاطر: 38].
ولا شكَّ أنَّ ما غاب في السماوات كان أعظم وأكثر وأشمل، فقدّم ذِكرها، ثمَّ قال في
نفس السورة: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ
اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي
السَّمَاوَاتِ﴾ [فاطر: 40].
فقد ذُكِرت الأرضُ أولًا؛ لأنها في سياق تعجيز الشركاء عن الخَلْق والمنازعة،
وأمر الأرض في ذلك أيسر من السماء، فبدأ بالأرض مبالغةً في بيان عجزهم، ثمَّ قال:
﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ
زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا
غَفُورًا﴾ [فاطر: 41]. فقدّم السماوات تنبيهًا على عِظَم قدرته -سبحانه-؛ لأنَّ
خَلْقها أكبر مِن خلْق الأرض.
وبالنظر إلى سياق الآيات السابقة؛ نجد أنَّ السماوات مُقدَّمة على الأرض، وهذا هو
الكثير المعتاد في آيات القرآن، وقد تُقدّم الأرضُ على السماء خلافًا لهذا الأصل
تبعًا لاقتضاء السياق كما في قوله -تعالى-: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ
فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ
مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ﴾ [البقرة: 22]. فقد بدأ بذِكر الأرض؛ لأنها
أقرب إلى النظر والتأمل، وفيها المستقر والمعاش والفراش، وقد وردت هذه الآية في
سياق توجيه النظر إلى وجوب عبادة الله وحده وشكره على نعمه؛ فقال -سبحانه- قبل هذه
الآية: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ
وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 21].
وقوله: ﴿وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ
وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾ [يونس: 61]؛ لأنَّ الكلام قبل هذه الآية على أهل الأرض؛
حيث قال -تعالى-: ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ
وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ
فِيهِ﴾ [يونس: 61].
فإنْ قلتَ: لِمَ قُدّمتْ الأرضُ على السماء بِخلاف قوله في سورة سبأ:
﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي
لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي
السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ﴾ [سبأ: 3]؟ قلتُ: حق السماء أنْ تُقدّم على
الأرض، ولكنه لمَّا ذَكَر شهادته على شؤون أهل الأرض وأحوالهم وأعمالهم، ووصل بذلك
قوله: ﴿لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ﴾ لاءَمَ ذلك أنْ قدّم الأرضَ
على السماء، على أنَّ العطف بالواو حُكمه حُكم التثنية.
وقدّم الأرضَ على السماء –أيضًا- في سورة إبراهيم في قوله: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ
تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي
الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾ [إبراهيم: 38]. فقدّم ذِكْر الأرض أولًا؛
لأنها خُلِقَتْ قبل السماء، ولأنَّ هذا الداعي في الأرض. وقُدّمتْ الأرضُ في سِت
سُوَر: [آل عمران: 5، ويونس: 61، وإبراهيم: 38، وطه: 4، والعنكبوت: 22، وفاطر: 40].
مِن هنا نعلم: أنَّ أسلوب
«التقديم
والتأخير»
إعجاز فيّاض عظيم التدفّق، لا يحدُّه حدّ، والتعرُّض لفيوضاته وتلمُّس أسراره لا
يقف عند كلمة أوْ جملة، بلْ يشهد السياق في مجملهِ بستانًا مُورِقًا يانع الثمار
والأزهار، لا تكاد تمد يدًا لقطف ثمرة إلاَّ وتجذبك الأخرى والأخرى، فلا تستطيع
الفراغ حتى تأتي على البستان كلّه.. فسبحانَ مَن هذا كلامه، وهذا بيانـه!
[1] بيان القرآن، د. عبد العظيم المطعني، مكتبة وهبة، القاهرة، 2004م.
[2] البرهان في متشابه القرآن، للكرماني.