يرى النظام الإيراني الآن أنه مع طول مدة المفاوضات فإن هذا سيعطيه مساحة أكبر لزيادة قدرته العسكرية والحصول على خطوات متقدمة في برنامجه النووي.
يخطئ من يظن أن المفاوضات النووية الإيرانية أزمة خاصة بين النظام الإيراني والدول
الغربية؛ إذ إنها في الحقيقة تؤثر على مستقبل المنطقة كاملة، وهي من التعقيد
والتشعُّب ما يجعل من الجولات الثمانية مجرد محاولات للبداية ليس إلا.
لقد استغرقت طهران عشر سنوات كاملة من المفاوضات المضنية للوصول إلى توقيع الاتفاق
النووي السابق مع الرئيس الأسبق للولايات المتحدة باراك أوباما عام 2015م. وليس
لديها أية إشكالية أن تواصل في المفاوضات الجديدة مدة مثلها، شريطة أن تصل في
النهاية إلى أهدافها الإستراتيجية.
لا تبدو طهران أبداً في عَجَلة من أمرها للوصول إلى اتفاق نووي فقد امتصت صدمت
العقوبات الأمريكية إبَّان حقبة حكم الرئيس دونالد ترامب إذ بلغت العقوبات المفروضة
عليها الحد الأقصى. لقد استفادت إيران من فترة انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق
النووي فسعت إلى تعزيز قدرتها العسكرية وتدعيم مشروعها المتقدم للحصول على الصواريخ
البالستية، وزيادة وتيرة تخصيب اليورانيوم.
والآن مع وصول الرئيس الإيراني الجديد (رئيسي) فقد زادت ميزانية الحرس الثوري
الإيراني ضمن الميزانية المقترحة لعام 2022م بنسبة 58%. بالإضافة إلى زيادة الدعم
المخصص لـ (برنامج تعزيز الدفاع وبحوث الدفاع الإستراتيجي)، المسؤول عن الأنشطة
البحثية والعسكرية.
يرى النظام الإيراني الآن أنه مع طول مدة المفاوضات فإن هذا سيعطيه مساحة أكبر
لزيادة قدرته العسكرية والحصول على خطوات متقدمة في برنامجه النووي.
أضف إلى ذلك استغلال النظام الإيراني العقوبات الأمريكية في رفع شعار المقاومة وهو
ما يزيد من تماسك الجبهة الداخلية الإيرانية التي تعاني منذ عقود من زيادة معدل
المظاهرات والتململات الشعبية، ووجود العقوبات الأمريكية يعطي مبررات سياسية أمام
الشعب الإيراني لتردِّي الأحوال الاقتصادية، ويبرر علميات القمع المبالَغ بها لقوى
معارضة.
لذلك فهي تتشدد في المفاوضات وكلما وصلت وفود التفاوض إلى نقاط مشتركة سعت طهران
إلى إضافة شروط جديدة، وهي تعلم يقيناً أن ثمة صعوبات شديدة في الاستجابة لها، فهي
تطالب بضمانات لعدم انسحاب الولايات المتحدة لاحقاً من أي اتفـاق يتم التوصل إليه،
وهو ما يعني تحويل الاتفاق إلى معاهدة، وهذا يتطلب موافقة ثلثي أعضاء الكونغرس
الأمريكي، وهو الأمر الذي لا يملكه الرئيس الأمريكي بادين الذي لا تتعدى أغلبية
حزبه الديمقراطي بالكونغرس (50% +1).
هذا التعنت الإيراني تدركه الإدارة الأمريكية وتتعامل من منطلقه؛ فقد صرح وزير
الخارجية الأمريكي بقوله:
«قريباً
يفوت الأوان، ولم تنخرط إيران بعدُ في مفاوضات حقيقية».
وأضاف:
«ما
لم يحصل تقدم سريع... فإن الاتفاق النووي الإيراني سيصبح نصاً فارغاً. ما نراه حتى
الآن هو أن إيران تهدر وقتاً ثميناً في الدفاع عن مواقف لا تنسجم مع عودة إلى اتفاق
عام 2015م».
لذا تشعر الإدارة الأمريكية أنها في مأزق: فمن جهة لا تستطيع تلبية المطالب
الإيرانية، كما أنها لا تملك أدوات الضغط التي تمكِّنها من الحصول على تنازلات
كبيرة من طهران. وهو ما يفسر الموقف الإسرائيلي الساعيَ إلى التهديد بعمليات عسكرية
ضد المفاعلات النووية الإيرانية، تلك التصريحات تأتي في إطار دعم الموقف الأمريكي
المفاوض بزيادة الضغوط على إيران.
ومن جهة أخرى لا تستطيع إدارة بايدن إعادة الاتفاق النووي السابق كما هو حفاظاً على
الهيبة الأمريكية من الخضوع الكامل لطهران، كما أنها تتعرض لضغوط إسرائيلية وعربية
للحصول من طهران على ضمانات بشأن برنامجها النووي ودورها في العديد من الملفات
الإقليمية.
لذا تلجأ الدبلوماسية الأمريكية إلى التلويح بالحرب على لسان إسرائيل، أو التلميح
بأن هناك حلولاً أخرى إذا فشلت المفاوضات، تلك التهديدات المبطنة لم تعد تخيف
طهران؛ فهي تعلم أنها مجرد تصريحات لإثارة المخاوف، يقول الأمين العام للمجلس
الأعلى للأمن القومي علي شمخاني:
«لن
تكون هناك مواجهة عسكرية بين إيران وأمريكا إذ لا يوجد سبب لنشوب حرب. إلقاء
الاتهامات على دول أخرى أصبح أسلوباً شائعاً بين المسؤولين الأمريكيين أثناء
محاولتهم الضغط على دول أخرى»
بحسب ما نقلته وكالة إيران للأنباء.
سيناريوهات المفاوضات النووية الإيرانية كلها تلقي بظلال شديدة القتامة على مستقبل
المنطقة.
فالوصول إلى اتفاق نووي على أنقاض الاتفاق القديم يشابهه أو تتماثل بنودهما؛ سيطلق
يد طهران في المنطقة على نحو ما حدث إبَّان الاتفاق الأول إذ تباهت إيران وقتها
باستيلائها على عواصم أربع دول عربية حتى مع تجميد البرنامج النووي.
السيناريوهان الآخران - وهما توقُّف المفاوضات أو عدم الوصول لاتفاق - كلاهما
يدعمان طهران في مواصلة برامجها العسكرية والنووية التي تهدد المنطقة كلها ويزيدها
قوة في المنطقة.
لا شيء يفي بالوقوف أمام المشروع الأمريكي في المنطقة إلا الوقوف على القدرات
الذاتية لقد انسحبت أمريكا/ أوباما من المنطقة ولن تعود إليها، لا في عهد بايدن ولا
غيره من الرؤساء اللاحقين، لقد أصبحت لدى أمريكا جبهات أكثر أهمية باتت تهدد عرشها
العالمي.
والحقيقة أن سؤالات البرنامج النووي الحائرة، واضحة الإجابة، فأمريكا لن تحارب
طهران لا مباشرة ولا بواسطة. وهي كذلك لن تعود إلى سابق عهدها بوجود عسكري يحمي
المنطقة.
وإيران ماضية بزيادة قدرتها الاقتصادية والعسكرية سواء بوجود عقوبات أم بغيابها في
ظل اتفاق أو عدمه.
والأنظمة العربية أصبحت عارية إلَّا من اتفاق بينها تُعلي فيه المشتركات المصلحية
الجماعية ويتم التجاوز عن الخلافات المفتعلة، وإن صحت الأنباء عن محاولات سعودية
للحصول على برنامج أسلحة بالستية من الصين فإن هذا يعد العنوان الصحيح لموقف قوي
ينبئ عن استيعاب دول المنطقة لطبيعة المتغيرات الدولية والإقليمية. ففي ظل تلك
الأزمات التي تهدد أمن المنطقة واستقرارها ومستقبل شعوبها فإن القوة الذاتية
والتعاون المشترك هي السبيل الوحيد لردع الأعداء وحماية مصالح شعوب المنطقة.