• - الموافق2025/08/21م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
بلاد الشام بين عهدين... عهدٍ عبيدي سلف وعهدٍ نصيري خلف

وتختزن ذاكرة التاريخ الإسلامي بصورةِ محضر لمجموعة من العلماء المسلمين يفيد بأن العبيديين فرس وليسوا من أبناء النسب الطاهر، وأصحاب هذا المحضر هم: الشريفان الرضا والمرتضى، وابن الخزري، وأبو حامد الإسفراييني، وعبد الله الصيمري، وأبو الحسن القدوري، وأبو جعفر

دمشق الآلام والأحزان

عاشت دمشق في ظل الإسلام بجميع طوائفها على وفاق وأمن وأمان، في ظل الحكم الأموي، فكانت عاصمةَ الإسلام الثانية، ولم تبلغ دولةٌ في سَعة جغرافيتها، ما بلغته الدولة الأموية، وقد شاء الله لهذه الدولة نشرَ الإسلام في جميع البقاع التي وصلتها جيوش الفتح الإسلامي، من الصين مشرقاً حتى الأطلسي غرباً. وقد لعبت الفتنة السبئية لعبتها في المجتمع الإسلامي، ليولد من رحم هذه الفتنة فِرَق الرفض والزندقة والإلحاد، وقد قال الشاعر الأخطل النصراني في الحكم الأموي يصفه:

حُشْدٌ على الحقِ عيَّافو الخَنَا أُنُفٌ

إِذا أَلَـمَّت بهم مَكروهَةٌ صَبَروا

شُمْسُ العَداوةِ حتى يُستَقادُ لهم

وأعظمُ الناسِ أَحلاماً إذا قَدَروا

وشتان بين ما عاشته دمشق في عهد بني أمية، والعهود التي خلفته من بني العباس إلى العبيديين الذين نكَّلوا بأهلها وأذاقوهم الويل والثبور. وبعد تحرير الشام من الرافضة، تعاقب على سيادتها مجموعة دول، شهدت الاستقرار والأمن في جميع نواحيها، فكان منهم السلاجقة الأتراك، ثم الزنكيون ثم الأيوبيون ثم المماليك ثم العثمانيون الذي امتد حكمهم لها (413 سنة). وبعد انهيار الدولة العثمانية وقعت الشام تحت وطأة الاستعمار الفرنسي والبريطاني، وبعد أن استقلَّت سوريا عن الاستعمار الفرنسي، تعاقبت عليها عدة حكومات وطنية، حتى إذا جاء انقلاب الثامن من آذار سنة 1963م، دخلت البلاد في نفق مظلم من خلال حكم عسكري طائفي جائر، ساد فيه النصيريون في أرض الشام، لتعيش خمسين سنة في ظل هذا الحكم الباطني الذي دمر البلاد وشتت العباد، وبلغ عدد قتلى السوريين على أيدي النظام الباطني قريباً من المليون، وغادر الشامَ من أهلها قرابة (12 مليون) سوري، ولم يعرف السوريون هذا الوضع من الآلام والمآسي والأحزان من قبلُ إلا في العهد العبيدي الذي سيأتي الحديث عن مآسيه.

دمشق والشاعر أحمد شوقي

في سنة 1925م زار أحمد شوقي دمشق، وذلك إبَّان ثورتها على المستعمر الفرنسي، وشوقي رحمه الله كان صاحب استشراف وفهْم سياسيين؛ فقد ناهض الإنكليز في مصر فنفوه إلى إسبانيا، وأمام ما أدركه من مخاطر ستنزل على الأمة بعد سقوط الخلافة الذي كان سببه الثورة العربية الكبرى سنة (1916م) على يد الشريف حسين، وترتب على سقوط الخلافة استعمار دول المشرق العربي وتهويد فلسطين، فقد استنطق ذاكرة التاريخ الإسلامي في حال دمشق فيما كانت عليه في حالها الأموي، وما آلت إليه في حالها العُبيدي النصيري:

بَنو أُمَيَّةَ لِلأَنباءِ ما فَتَحوا

وَلِلأَحاديثِ ما سادوا وَما دانوا

كانوا مُلوكاً سَريرُ الشَرقِ تَحتَهُمُ

فَهَل سَأَلتَ سَريرَ الغَربِ ما كانوا؟

عالينَ كَالشَمسِ في أَطرافِ دَولَتِها

ففي كُلِّ ناحِيَةٍ مُلكٌ وَسُلطانُ

لَولا دِمَشقُ لَـمَا كانَت طُلَيطِلَةٌ

وَلا زَهَت بِبَني العَبَّاسِ بَغدانُ

وهنا شوقي تنتابه آلام الماضي الدمشقي، في ظل حكم العبيديين لها:

مَرَرتُ بِالمَسجِدِ المَحزونِ أَسأَلَهُ:

هَل في الـمُصَلَّى أَوِ المِحرابِ مَروانُ؟

تَغَيَّرَ الـمَسجِدُ الـمَحزونُ وَاِختَلَفَت

عَلى الـمَنابِرِ أَحرارٌ وَعبدانُ

فَلا الأَذانُ أَذانٌ في مَنارَتِهِ

إِذا تَعالى وَلا الآذانُ آذانُ!

وهنا يتحدث شوقي كما لو أنه عاش عصر العبيديين في دمشق عندما غيَّروا الأذان بكلمات غير مألوفة في دمشق عاصمة الدولة الإسلامية الثانية بعد المدينة المنورة، فقد دخل الأذانَ عبارة «أشهد أن علياً ولي الله»، وعبارة «حيَّ على خير العمل» ، واستمر الأذان على هذا الحال في دمشق وما جاورها 110 سنوات، حتى أعاده القائد السلجوقي (أتسز بن أوق) سنة (468هـ)، وفي حلب أعيد الأذان السني على يد الشهيد نور الدين محمود زنكي رحمه الله سنة (543هـ)، وذلك هو مراد الشاعر شوقي رحمه الله، والقصيدة طويلة اقتطعنا منها هذه الأبيات التي تخدم المادة التاريخية في حال دمشق أيام العبيديين.

النَّسب العبيدي

ما كان لدمشق المباركة في أرضها وأهلها أن تقع فريسة لكلاب المجوس من العبيديين سلفاً، والنصيريين خلفاً؛ فقد دفعت ثمن سقوط فارس المجوسية وفتح المسلمين لها، فتواصلت النكبات على دمشق وسوريا من النصيريين الذين قال فيهم ابن تيمية رحمه الله إنهم أكفر من النصارى وألعن من اليهود، فهم زنادقة كفرة، لا صلة لهم بعلي لكن الاستعمار الفرنسي سماهم بالعلويين حتى يرفع من شأنهم ويسقط عنهم لعنة التاريخ على تحالفهم مع الصليبيين، وجميع أصحاب الفرق الزنادقة يلتحقون بالنسب الشريف، وأول من أوذي من هؤلاء القتلة هم أبناء آل البيت. وتختزن ذاكرة التاريخ الإسلامي بصورةِ محضر لمجموعة من العلماء المسلمين يفيد بأن العبيديين فرس وليسوا من أبناء النسب الطاهر، وأصحاب هذا المحضر هم: الشريفان الرضا والمرتضى، وابن الخزري، وأبو حامد الإسفراييني، وعبد الله الصيمري، وأبو الحسن القدوري، وأبو جعفر النسفي وغيرهم من العلماء الأئمة من علماء المسلمين، وتلك هي صورة المحضر:

«هذا ما شهد به الشهود: أن معد (أو محمد) بن إسماعيل بن عبد الرحمن[1] بن سعيد منتسب إلى ديصان بن سعيد، الذي تنسب إليه الديصانية، وأن هذا الناجم بمصر[2] هو منصور بن نزار الملقب بالحاكم ابن معد بن إسماعيل بن عبد الرحمن بن سعيد، وأن من تقدَّمَه من سلفه الأرجاس الأنجاس أدعياءٌ خوارجُ لا نسب لهم في ولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأن ما ادَّعوه من الانتساب إليه زور وباطل، وأن هذا الناجم بمصر هو وسلفه كفَّار زنادقة ملحدون معطلون، وللإسلام جاحدون أباحوا الفروج وأحلُّوا الخمور وسبُّوا الأنبياء وادَّعوا الربوبية... وكُتب هذا المحضر في ربيع الأول سنة اثنتين وأربعمائة.

أولئك هم العبيديون (أحفاد ميمون القداح) فقد جاء في وفيات الأعيان لابن خلكان بيان لما فعله المعز عند وصوله مصر إذ شكك الناس بمصداقية نسبه، فيقول: «سلَّ المعز سيفه ونثر الدنانير على الحضور قائلاً: هذا نسبي، وهذا حسبي»[3]، وذلك إذا ما علمنا أن للعبيديين فقهاً خاصاً بهم، كتبه ابن كلس اليهودي.

دمشق الشام بين ماضٍ عبيدي وحاضرٍ نصيري

وجهان لا يختلفان لعهدين حكما دمشق، جمع بينهما العامل الرافضي في الاعتقاد المجوسي اليهودي؛ فقد تشابها في شكل الجرائم التي نزلت بأهل الشام، وصورة الشام اليوم تذكرنا بما عاشته دمشق وغيرها من بلاد الشام من مآسٍ في العهد العبيدي: مِن قَتْل وجرائم سلب ونهب واغتيال وإفقار، والصورة اليوم في العهد النصيري تغني المشاهد عن الذي لم يشاهدْه في ذلك العهد العبيدي البائد؛ فقد حكم العبيديون الشام قرابة 160 سنة، فتح هؤلاء الزنادقة الرافضة من حشاشين وقرامطة أبواب الشام للعبث فيها وارتكاب أعظم الأعمال المتوحشة والفظيعة، وكان ميشيل سورا الكاتب الفرنسي الذي قتله النظام السوري، ومثَّل في قتله أشنع تمثيل، يصف دولة الأب المجرم (حافظ الأسد) على جرائمه في حق الشعب السوري في عهده الذي حكم سوريا فيه بـ «سوريا الدولة المتوحشة»، فكان سلفاً سيئاً لخلف أشدَّ سوءاً هو ابنه بشار الذي جدد سياسة أبيه على الشعب السوري، كما جدد ما عاشته الشام في العهد العبيدي، في عشر سنوات من حكمه لسوريا، عرف فيها شعب سوريا الإذلال والتنكيل والقتل والتهجير وانتهاك الأعراض، في سجون لم تعرفها محاكم التفتيش في ظل سقوط الأندلس، بعد أن فتح هذا المجرم (بشار الأسد) الشام لقوى الرفض المجوسية الإيرانية والأفغانية واللبنانية والعراقية وغير هؤلاء من بلدان أخرى، تجمعهم جميعاً عقيدة الرفض والزندقة، في قتلهم لأهل الشام على أنهم أمويون مناصرون للحكم الأموي، ومن أهل السنة، على غرار العبيديين عندما فتحوا أبواب الشام لقوى الرافضة.

المؤرخ ابن القلانسي وتاريخ دمشق العبيدي

يعدُّ حمزة بن أسعد بن علي بن محمد التميمي، المعروف بابن القلانسي الذي عاش بين سنتي (470 - 600هـ/ 1077 - 1160م) خير من أرَّخ لدمشق في العهد العبيدي، وما نزل فيها من أعمال الرافضة وما جاورها من نكبات ومآسٍ على أيدي العبيديين أنفسهم والقرامطة والحشاشين، فهو دمشقي المولد والبلد وما كتبه رحمه الله وإن وجدت مصادر أخرى فهو من أهمها، فقد تكون تلك المصادر قد كتبت سماعاً، أما ابن القلانسي فكان شاهداً ومعاصراً للأحداث، كما تناول أخبار الزنكي والسلاجقة، وكتابه (ذيل تاريخ دمشق) احتوى أحداث ما بين سنوات (360 - 555هـ/ 813 - 1160م)، وقد استهل كتابه هذا بأخبار القرامطة وهجومهم على دمشق سنة (360هـ) فقتلوا واليها العبيدي جعفر بن فلاح، وكان يقود القرامطة أحمد بن بهرام القرمطي وجعفر بن فلاح هو من استبدل بالأذان السني الأذان الرافضي الذي يقولون فيه: «أشهد أن علياً ولي الله... حي على خير العمل»، وهو من قادة العبيديين الذي فتحوا دمشق، وكان قاتله هو بهرام القرمطي في يوم الخميس لستٍ خلون من ذي القعدة لسنة (360هـ) فاستبيحت دمشق من قبل القرامطة، ودانت لهم دمشق، ثم أرسل بعد ذلك المعز العبيدي جيشاً لإخراج القرامطة، وخاصة أن القرامطة ذهبوا في القول بعدم صحة نسب المعز لآل البيت، فاستعاد جيش العبيدي دمشق من القرامطة، وعادت من جديد للحكم العبيدي، واعتلى ولاياتها حاكماً لها ظالم بن موهوب العقيلي، وكان من القرامطة فاستطاع العبيديون إغراءه لترك القرامطة والالتحاق بركب المعز، فالتحق بالعبيديين وولوه على دمشق في (11 - رمضان 363هـ).

وعادت دمشق لاستباحة العبيديين من جديد بعد استباحتها من قبل القرامطة

في هذه الأحداث المؤلمة لدمشق وأهلها فقد ازداد ثقل الحمل عليها، من خلال ما جرى على يد العبيديين لها، وذلك بفتح أبوابها لأبناء الفرق الرافضية، والصورة اليوم فيما تعيشه دمشق والشام تتشابه مع تلك الأيام عندما فتح النصيريون الشام لأبناء الملل الرافضية؛ ففي الصورتين كلتيهما (العبيدية والنصيرية) عاشت فيهما الشام مستباحة بلا قانون ولا تشريع ولا أمن ولا أمان، فقد عاثت هذه الفرق فيها فساداً، وذلك من خلال استباحة كلٍّ من الشام والعراق بسياسة اغتيال علماء أهل السنة ووزرائهم وغيرهم من أولي الأمر، وما أشبه اليوم بالبارحة.

ففي كتاب مرآة الزمان في تاريخ الأعلام لسبط ابن الجوزي، جاء حديث عن الحال المؤلم الذي نزل بدمشق في أخبار سنة (469هـ)، فيقول: «لم يبقَ بها من أهلها سوى ثلاثة آلاف إنسان بعد أن كانوا خمسمائة ألف، أفناهم الفقر والغلاء والجلاء، وكان بها مائتان وأربعون خبازاً، فصار بها خبازان، والأسواق خالية، والدار التي كانت تساوي ثلاثة آلاف دينار، ينادى عليها بعشر دنانير فلا يشتريها أحد، والدكان الذي كان يساوي ألف دينار ما يشرى بدينار، وكان الضعفاء يأتون للديار ذات الأثمان الثقيلة، فيضرمون فيها النار فتحترق، ويجعلون أخشابها فحماً يصطلون فيه، وأُكِلَت الكلابُ والسنانيرُ، وكان لامرأة داران فقد أعطيت قديماً في كل دار ثلاثمائة دينار أو أربعمائة، ولما ارتفعت الشدة عن الناس ظهر الفأر، فاحتاجت إلى سنور فباعت إحدى الدارين بأربعة عشر قيراطاً، واشترت بها سنوراً» .

وقد ازداد الناس فقراً على فقرهم بعد أن سادت دمشقَ سطوةُ عصابات الباطنية من الحشاشين في ولاية العبيدي المعلى بن حيدرة، وقد وُصِف حكمه بأنه كان من أسوأ العهود التي عاشتها الشام في تاريخها، فقد هاجر مواطنوها الفلاحون، فغلت الأسعار، ونفدت من عند الأهالي المؤونة، الأمر الذي دفع بأهلها إلى الهجرة إلى غيرها من مدن الشام.

وعلى واقع ما تعيشه دمشق فقد وصلها القائد العسكري السلجوقي (أتسز بن أوق) وذلك في ذي القَعدة من سنة ثمانٍ وستين وأربعمائة للهجرة، فقام (أتسز) بحصار دمشق وتم له فتحها والولاية عليها، وإسقاط السيادة العبيدية عنها، وبولاية هذا القائد لها، كان حكم السلاجقة السُّنة لدمشق، وإسقاط السيادة العبيدية التي بلغت سنواتها مئة وتسع سنوات، وطال حكم (أتسز) تسع سنوات شهدت فيها دمشق الرخاء والعيش الكريم والأمان، ولهذا القائد يعود الفضل في عودة الوجه السني لدمشق؛ إذ ألغى الأذان الرافضي من مناراتها في المساجد، بعد أن امتدت سنواته في حدود (110) سنوات، ومع كل هذا فقد بقيت في دمشق جيوب متخفية لعصابات الرافضة، وكانت حلب كذلك تحت حكم الحمدانيين الشيعة، وكانت من أكبر مراكز الحركات الباطنية وخاصة الحشاشين والنصيريين وغيرهم.

في سنة (522هـ) وصل دمشق تاج الملوك السلجوقي السلطان بوري، حاكماً لها، وكان الرافضي (بهرام) زعيم طائفة الحشاشين قد أرعب اسمه أهل دمشق وعلماءها، لِـمَا أقدم عليه هو وعصابته من عمليات قتل وسلب ونهب، إذ أشارت المصادر التاريخية إلى أن هذا وعصابته يقتلون من يريدون قتله بأيديهم ولا يملك أحد أن يستنكر أو يتفوه بكلمة، وقد قَدِم السلطان (بوري) دمشق مع انعدام الأمن والفساد المستشري فيها، وكان وزيره أبو علي طاهر بن سعد المزدقاني، وكان وزير أبيه قبله، وقد كان تاج الملوك ذكيا متفتحاً على أحداث الحشاشين في دمشق، وخاصة في قوَّتهم بعد أن سلَّم ابن المزدقاني حصن بانياس على البحر المتوسط لزعيمهم (بهرام) المجوسي، وكان هذا المجرم على تواصل مع مجرمي فرسان القديس يوحنا، وفرسان مالطة، وقد وجد السلطان بوري نفسه أمام خطر حقيقي أحد كوامنه ابن المزدقاني، فوجد أن الخلاص من هذا الوزير المجرم هو الأصل قبل كلِّ شيء، فهو من أعان عصابات الرفض على الإجرام بحق الدمشقيين، وفي سنة (523هـ) حضر لمجلسه ابن المزدقاني ومعه مجموعة من الأفراد والمتقدمين، وشهد المجلس أحاديث وحوارات، وبنهاية المجلس خرج الجميع منه، وطلب السلطان بوري من الوزير أن يبقى، فظن الوزير أنه يريده للتشاور معه، فاستل بوري سيفه وقطع رأسه بيده بعد أن علم أنه هو رأس الفساد في دمشق في تعاونه مع الحشاشين، وبعد قتله وضع جثته في الساحة العامة ليشاهده الناس، وبعد ثلاثة أيام تم حرقها، وهلل الناس بقتله والقضاء عليه، وهنا كان الدمشقيون على موعد مع الثأر من هؤلاء الرافضة المجرمين في دمشق، فذهبوا إلى دار الدعوة وقتلوا كلَّ من كان فيها، وثار عوام دمشق وجيش السلطان بوري على الرافضة فقتلوهم جميعاً، وقد قُدِّر عدد الذين تمت تصفيتهم بالقتل قرابة عشرة آلاف رجل ولم يتعرضوا لحريمهم، ولا لأموالهم، فتم قتلهم بالسيوف ذبحاً ورمياً بالحجارة وصلبوا منهم جماعة على سور دمشق، ومن الذين صُلبوا شادي الخادم، تربية أبي طاهر الصائغ الباطني الذي كان بحلب، وجاء صلبه على السور ليشفي صدور قوم مؤمنين، وكان الحاجب يوسف بن فيروز شحنة البلد، ورئيسه الوجيه ثقة الملك أبو الذواد مفرج بن حسن الصوفي، قد ذهب في دفع الناس لقتل هؤلاء الرافضة، وتنظيف دمشق منهم، ولما علم إسماعيل الداعي، ما نزل بأصحابه في دمشق، وكان مقيماً في بانياس، هرب وأصحابه الذين معه عبر البحر والتجأ عند الإفرنج.

وانتقاماً وثأراً لِـمَا نزل بالباطنيين في دمشق، فقد انتدبوا اثنين من أتباعهم لاغتيال تاج الملوك بوري، وتنكرا بزي تركي على أنهما من الأتراك، ليلتحقا بفرقة حماية الملك بوري، واستطاعا أن ينضما لفرقة الحماية، وكانا يترقبان الفرصة المناسبة لاغتياله؛ فما إن خرج من الحمام قاصداً القلعة، وبعد أن تفرَّق عنه حُماتُه، هجم عليه الاثنان بقصد قتله، فضربه واحد منهما بالسيف على رقبته فأصابه بجرح فيها ونزل تاج الملوك من على حصانه فضرب مَن ضربه فقتله، لكن الثاني هجم عليه فطعنه بخنجر في خاصرته، فكان جرحه سبب وفاته رحمه الله.

وما تم ذكره غيض من فيض خلدته ذاكرة كتب التاريخ الإسلامي عن هذه الجماعات الكافرة والملحدة، التي لم تتسع كتب التاريخ لفضائحها، وعلى الرغم من كل الذي سمعناه في أخبار الأمم، إلا أننا لم نسمع بمسألة قتل الرجل وهو حي، وذلك عن طريق سلخ جلد العالم من علماء أمة الإسلام وهو حي حتى ينزف دمه وهو يسلخ جلده، وشاهدنا في أحداث الشام الآن كيف يقوم أبناء عصابات النصيرية بدفن الشخص وهو حي، فتحفر له حفرة في الأرض ويوضع الشخص إلى حد الرأس مطموراً في التراب، ثم يقولون له: (مين ربك؟ مين اللي خلقك؟)، ويريدون منه أن يقول: (بشار) والعياذ بالله، فيأبى القول بما يريدون، فيقول: الله ربي، وقد سمع العالم كله عن قضية قيصر[4]، وهي صور لعشرات الآلاف من الأبرياء في سجون النصيرية. والعبيديون والنصيريون وجهان لعملة واحدة في كفرهم وزندقتهم، وواقع اليوم يشهد بذلك.

جرائم العبيديين في ذاكرة التاريخ الإسلامي

أصول هذه الدعوة وسائر الدعوات الرافضية تقوم في الأصل على نظرية الثأر بالقتل، وقد مارست هذه الطوائف أبشع أنواع الجرائم في الغدر والقتل والاغتيال والخيانة، بأبشع الصور السادية في قتل المخالف ممن ليسوا على معتقدهم، من المعز (عبيد الله المهدي) إلى سائر أبنائه من بعده، وخاصة القاسم وله عدة أسماء، وهذا من جملتها (سعيد) هو عبيد المهدي الذي ينسب له العبيديون، وعبيد هذا كان يظهر الرفض ويبطن الزندقة، قال أبو حسن القابسي: «الذين قتلهم عبيد الله وبنوه بعده ذبحاً في دار النحر، التي كانوا يعذبون فيها الناس ليردوهم عن الترضي على الصحابة، أربعة آلاف رجل ما بين عالم وعابد اختاروا الموت على لعن الصحابة»، فالذين قتلوهم من عامة المسلمين فيما بين المغرب الأقصى ومصر فلا يعلم عددهم إلا الله.

وفي باب الاغتيالات كما يقول ابن القلانسي، كان يقتل العالم أو غيره في الشارع دون سبب، ولا يتجرأ أحد أن يتقدم منه، وممن تم قتلهم على أيدي هؤلاء الزنادقة:

وزير الدولة نظام الملك (السلجوقي) سنة (485هـ)، وهو صاحب المدرسة النظامية في بغداد.

أبو طالب السميري وزير السلطان السلجوقي محمود، ذبحوه ومثَّلوا به.

وزير السلطان سنجر معين الملك أحمد بن الفضل.

الوزير فخر الملك بن نظام الملك، فقد واجه مصير والده وقتل وهو صائم يوم عاشوراء.

جناح الدولة حسين صاحب حمص، قتل وهو ذاهب لصلاة الجمعة.

الأمير مودود بن النوكتين قتل في ساحة الجامع الأموي سنة (407هـ).

والي الموصل آق سنقر البرسقي سنة (520هـ).

الخليفة المسترشد العباسي سنة (529هـ).

ابن الخليفة الراشد في أصبهان سنة (532هـ).

ابن إمام الحرمين الجويني قتلوه غدراً سنة (492هـ).

الفقيه أحمد بن الحسين البلخي سنة (494هـ).

الفقيه عبد اللطيف بن الجندري سنة (523هـ)

الفقيه أبو الحسن الروياني (502هـ)

القاضي أبو العلاء مساعد النيسابوري قتلوه بجامع أصفهان (499هـ).

القاضي أبو سعد محمد بن نصر الروي قتل في جامع همدان (518هـ).

 الواعظ أبو جعفر المشاط قتل في المسجد بعد أن أنهى درسه في الجامع الخاص فيه.

وهذا الهالك جيش بن محمد الصماصمة الذي نصب والياً على دمشق بمنتصف سنة (388هـ)، والذي هلك في يوم الأحد لتسع خلون من شهر ربيع الآخر سنة تسعين وثلاثمائة عقب ما أنزله وأغرق فيه دمشق من الظلم في سفك الدماء والجور، في مجارزه بحق أبناء دمشق.

وفي ذات يوم كان الدمشقيون قد ركنوا لحكمه خاضعين لجبروته، فأمَّنهم واستخلص رؤساءهم، واستحجب جماعة منهم، فقد ذهب في أحد الأيام بتوجيه الدعوة لهم على طعام في مجلسه، وبعد أن انتهى الجميع من الطعام، جعل خروجهم من باب غير الذي دخلوا منه، يؤدي إلى غرفة مغلقة، وقد أوعز إلى جنده في هذه الغرفة بإحكام السيف في رقاب هؤلاء المدعويين؛ فقتل من أهالي دمشق في هذه الدعوة كلَّ من حضر، وكانوا يقدَّرون بالمئات، ولم يكتفِ بالذي فعله بل اعتقل أشراف المدينة وقضى عليهم وصادر أملاكهم، وامتد حكم هذا المجرم لدمشق ستة عشر شهراً.

وهكذا عاشت دمشق وأهلها على ما نزل فيهم على أيدي الباطنيين الفجرة، والصورة اليوم تجددت في دمشق على يد النصيريين، فهذا حال دمشق في مآسيها عبر التاريخ المنصرم والحاضر، وفي التاريخين كليهما المجرم واحد من أعداء ملة الإسلام من أبناء الفرق الباطنية.

 

 


 


[1] «وهو القائم ومن جملتها سعيد، وسعيد هذا هو عبيد الله المهدي، والذي ينسب له العبيديون، وعبيد هذا يظهر الرفض ويبطن الزندقة».

[2] «وهو الحاكم بأمر الله، قال ابن كثير بأنه ادعى الألوهية كما ادعاها فرعون من قبله».

[3] 1/ 259 - 272.

[4] هذا قانون قيصر، وقيصر هو اسم مجازي لمن استطاع أن يهرِّب أحد عشر ألف صورة لضحايا التعذيب في سجون الحاكم النصيري، وقُدمت الصور إلى الكونغرس الأمريكي في عهد الرئيس ترامب، فشرع قانون عقوبات على النظام النصيري تحت اسم (قصير).

 

أعلى