يودع الشعب الليبي في هذه الأيام
المباركة مرحلة كانت مظلمة في تاريخه، قاده فيها معمر القذافي الذي انقلب على
الملك إدريس الأول عام 1969م هو ومجموعة من الضباط في الجيش ليحكم البلاد مدةً
زادت على الأربعين عاماً، عانت خلالها ليبيا من انعدام حرية الرأي والتعبير،
والتهميش السياسي، وشهدت سجون النظام الليبي جرائم بحق المعارضين الإسلاميين الذين
أعدمَ كثيرين منهم دون محاكمة. وأشهر جرائم القذافي كانت مجزرة (سجن بو سليم) عام
1996م؛ حيث قتل 1200 من سجناء الرأي، وكانت هذه الجريمة سبباً في تأجيج الثورة
الليبية؛ ففي بداية العام الحالي اعتقلت السلطات الليبية محامي أُسَر الضحايا
(فتحي التربل) فخرجت مسيرات في بنغازي تطالب بالإفراج عنه وتأججت التظاهرات نتيجة
قمع النظام الليبي حتى أُطلِق عليها اسم ثورة 17 فبراير وتم تشكيل المجلس
الانتقالي الليبي في الشهر الثاني من الثورة ليمثل جميع المدن الليبية بقيادة وزير
العدل السابق مصطفى عبد الجليل.
تخلى الكثيرون من أتباع القذافي
عنه بعد أن بدأ الثوار بتشكيل جيش لتحرير ليبيا ساهم في تأسيسه اللواء عبد الفتاح
يونس (وزير الداخلية السابق في نظام القذافي) لكنه لم يكمل مهمته وقُتِل في ظروف
غامضة. وأقيم تحالف دوليٌّ مكوَّن من فرنسا وإيطاليا وألمانيا والولايات المتحدة
وبريطانيا وقطر والإمارات وتركيا تحت مسمى (مجموعة الاتصال الخاصة بدعم الثورة
الليبية)، وقام هذا التحالف بحشد قوة عسكرية ساهمت في تدمير القدرة العسكرية لقوات
القذافي ومساندة تقدُّم ثوار ليبيا في معاركهم خلال السيطرة على المدن الليبية.
لكن هذا التدخل الغربي وُجِّه له انتقادات لاذعة خشية من أطماع غربية للسيطرة على
الثروات النفطية الليبية.
وتعيش ليبيا حالة اقتصادية سيِّئة
على الرغم من قلة عدد السكان الذي لا يتجاوز 5 ملايين نسمة مقارنة بمساحة الأراضي
الواسعة التي تقارب مليوني كم2، وكذلك الثروات النفطية التي تقدَّر بــ 41.5 مليار
برميـل من النفط الخام تصدِّر منه يومياً 2 مليون برميل، وعلى الرغم من كل ذلك فإن
متوسط دخل الفرد لا يتجاوز 500 دولار أمريكي بسبب تعمُّد النظام سلبَ ثروات
البلاد.
بعد أن ودَّعت الثورة الليبية في
أخر معاركها في طرابلس الغرب (آخر معاقل) القذافي آلافَ الشهداء تبدأ قيادة الثورة
الممثلة بالمجلس الانتقالي بتوجيه البلاد إلى مرحلة الاستقرار، وكان رئيس المجلس
الانتقالي (مصطفى عبد الجليل) حذر في تصريحات لقناة الجزيرة الفضائية الأحد
22/8/2011م من لجوء بعض الثوار إلى القصاص مضيفاً: أن ليبيا تتجه إلى مستقبل مشرق.
وتضم قيادة الثورة أقطاباً سياسة
مختلفة التوجهات؛ فمنهم الإسلاميون ومنهم الليبراليون، لكن الجميع يراهن على أن
مستقبل الحكم في ليبيا ستحسمه انتخابات ديمقراطية.
وقال أيضاً: إنه لا وقت للاقتصاص،
وإن هناك دولة جديدة ستبنى في ليبيا وكشف النقاب عن أنه فكَّر في الاستقالة، ورفض
وجود عقليات وصفها بالمتطرفة في صفوف الثوار.
ونقلت صحيفة البيان الإمارتية عن
مصدر مقرَّب من المجلس الانتقالي أن هناك خطة يُعِدُّها المجلس لإدارة ليبيا تتضمن
تقسيم ليبيا إلى خمسة أقاليم إدارية، وكذلك تبنَّى وثيقة دستورية تنص على تسليم
البلاد إلى مجلس منتخَب خلال ثمانية شهور.
وتتضمن الخطة تقسيم ليبيا إلى
خمسة أقاليم هي (برقة، وطرابلس، ومصراتة، وجبل نفوسة، وفزان)، ويضم إقليم برقة
المنطقة الشرقية ويتكون من محافظات (تبرق، والبيضاء، ودرنة، وبنغازي، وأجدابيا،
والكفرة)، ويضم إقليم مصراتة محافظات (سرت، وبني وليد، وترهونة، وزليطن، والجفرة).
ويمتد إقليم جبل نفوسة من مدينة زوارة على الساحل الشمالي إلى مناطق الطوارق في
الجنوب، وتكون عاصمته مدينة يفرن ذات الحضور الأمازيغي المكثف، وستكون المناطق
العربية في غرب ليبيا مثل الزنتان والرجبان وبدر وتيجي والعجيلات ورقدالين... وغيرها
جزءاً من الإقليم الأمازيغي، وسيُسمَح لهذا الإقليم بوضع إشارة خاصة على عَلَم
الاستقلال في إقليمهم.
أما إقليم طرابلس فسيضم المناطق
المجاورة مثل (الجفارة، والزاوية، والنواحي الأربعة، وتاجوراء) على أن يتم تقسيم
مؤسسات الدولة بين طرابلس وبنغازي، ويختص إقليم فزان بمناطق الجنوب الأوسط وتكون
عاصمته سبها.
وينوي المجلس الانتقالي بعد
السيطرة على طرابلس تعيين مجلس تنفيذي مؤقتاً وهو ما يشبه حكومة انتقالية تقوم
بتصريف شؤون البلاد.
وستكلَّف الحكومة بتنظيم انتخابات
لاختيار (مؤتمر وطني) في مهلة أقصاها 240 يوماً (ثمانية أشهر)، وسيكون المؤتمر
بمثابة برلمان انتقالي يضم 200 عضو.
وبعد انعقاد الجلسة الأولى
للمؤتمر الوطني، يتخلى المجلس الانتقالي عن السلطة ليصبح المؤتمر الوطني هو الممثل
الشرعي والوحيد للشعب الليبي. وخلال مهلة لا تتعدى ثلاثين يوماً، يعيِّن البرلمان
الانتقالي رئيساً للوزراء يشكل حكومة تُطرَح لنيل الثقة في البرلمان.
ومنذ يوم الأحد 22/08/2011م بدأت
قوات الثورة تدخل العاصمة طرابلس وسيطرت على المدينة بسهولة وبدأت تحاصر باب
العزيزية الذي يُعَد مركز حكم القذافي، وكان هناك تفاوض بين المجلس الانتقالي
ومحكمة الجنايات الدولية لتسليم سيف الإسلام القذافي (نجل العقيد القذافي) للمحكمة
الدولية.
وعلقت صحيفة «ذي تايمز» على حالة
الفرح التي يعيشها الشعب الليبي بمناسبة تحرره بالقول: «على الرغم من الثوار الذين
يحتفلون في شوارع طرابلس؛ إلا أن الوصول لنتيجة نهائية للصراع أمر بعيد وغير
مأمون».
وتعتقد الصحيفة أن صراعاً سينشب
بعد الانتهاء من القضاء على نظام القذافي بين الثوار بسبب اختلافاتهم السياسية.
ورأت الصحيفة أن «الأسابيع
المقبلة ستحدد ما إذا كانت ليبيا ستستطيع التماسك في ظل تحديات إعادة إعمار البلاد
عقب القذافي، أَمْ أنها ستسقط في فوضى عندما يؤدي تدمير النظام القديم إلى تسارُع
الإسلاميين وقادة القبائل ووحدات الجيش وعناصر الجيش من أجل ملء فراغ السلطة».
لكن الشعب الليبي الذي يشكل أهلُ
السُّنة الغالبية العظمى منه، يعتقد كثيرون من قيادات الثورة أن خياراته واضحة إذا
ما أتيح له انتخابات حرة ونزيهة، لكنَّ مخاوف غربية تخرجها الصحف الغربية خوفاً
وتهويلاً من سيطرة الإسلاميين على السلطة؛ لأنهم الفئة الأكبر من الذين ساهموا في
الثورة (عسكرياً وسياسياً).