الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:
يقول المؤرخ اليوناني هيرودوت - الذي عاش قبل الميلاد بنحو 400 عامٍ - في أول تاريخه: «يزعم الفرس وهم أخبر الناس بالتاريخ أن الفينيقيين [هم] الذين مهدُهم في القديمِ شواطئُ البحر الإريتري ثم هاجروا إلى شواطئ البحر المتوسط ليستقروا في البلاد التي يسكنونها الآن».
إن هيرودوت يشير إلى مذهب تاريخي غاية في الأهمية يرى أن الفينيقيين (أو الكنعانيين) إنما جاءوا من جنوب الجزيرة العربية ثم ارتحلوا عن طريق سواحل الخليج العربي وربما البحر الأحمر إلى بلاد الشام. وكما هو معلوم فإن اللغة الكنعانية هي أصل اللغة العبرية - بل هي هي - باعتراف علماء اللغات القديمة، بل بإقرار أسفار اليهود، إذ تُدعى اللغة العبرية في توراة اليهود «سْفَت كنَعَن» أي «شفة أو لسان كنعان» (إشعياء 19: 18).
إذا ثبت هذا المذهب التاريخي فإنه يعني أن اللغة العبرية التي يريد بعض المستشرقين ومن سار في ركابهم أن يجعلها أصلاً للعربية لا تعدو كونها لهجة من لهجاتها الجنوبية القديمة التي تطورت فيما بعد حتى أصبحت لغة مستقلة كما هي حال الإنجليزية التي استقلت عن العائلة الجرمانية.
ومما تجدر الإشارة إليه أن كثيراً من الكلمات العبرية نجدها مستعملة في نقوش اللغة السبئية التي هي من اللغات الجنوبية القديمة. فكلمة (ء ب ن) في العبرية تعني «حجر» وهي كذلك في اللغة السبئية؛ وكلمة (ي د ع) تعني «عَلِم» وهي أيضاً في السبئية بالمعنى نفسه. والأمثلة على هذا كثيرة لا يمكن بسطها هنا.
فلما صدم بعض المستشرقين بهذه الحقائق ادعى أن السبئية هي التي تأثرت بالعبرية وليس العكس؛ وهو رأي سقيم لا يؤيده التاريخ ولا النقوش. ولهذا رد مرجوليوث - برغم تعصبه - على هؤلاء بقوله: «فقط عندما نجد هذه الأساليب العبرية في النقوش العربية الجنوبية، يحق لنا أن نعتقد أننا تتبعنا هذه الكلمات أو الاستعمالات إلى مواطنها. إنها بالتأكيد لم تأت من فلسطين إلى سبأ، لعلها جاءت من سبأ إلى فلسطين».
فإذا كانت العبرية بُنيَّةً من بنيات العربية القديمة، فما شأن السريانية التي تصغرها سناً؟!