الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِه وصحبِه، وبعدُ:
تُعرَف أفغانستان بأنها مقبرة الإمبراطوريات؛ فقد احتلها الإنجليز سنوات عدة ثم خرجوا منها مقهورين، ثم أعقبهم السوفييت ومكثوا فيها قرابة عشرين عاماً ثم اندحروا جارِّين أذيال الهزيمة كسابقيهم، ثم جاء دور الأمريكان ليذوقوا هم أيضاً مرارة الهزيمة على يد هذا الشعب الصابر المجاهد.
في قوانين الفيزياء هناك ما يُعرَف بقانون مرونة المواد يعرفه أصحاب هذا العلم بقدرة المادة على استعادة وضعها الأصلي بعد زوال السبب الذي أدى إلى تشوهها عند تأثير قوة خارجية عليها: كحرارة شديدة أو ضغط كبير أو قوة شد جاذبة... وهكذا. ولذلك وضع العلماء لكل معدن مُعامِل مرونة يختلف عن نظيره؛ فليس الذهب كالفضة، ولا النحاس كالحديد مثلاً.
وما مِن شعب أو أمة إلا وتكتنفها مراحل تتعرض فيها لضغوطات شديدة - تماماً كما تتعرض المعادن - قد تغيِّر من ثقافتها أو قيمها أو سلوكيات أفرادها، ومع زوال تلك الضغوطات - سواء كانت حروباً، أو فاقة أنتجت مجاعاتٍ وأحوالاً معيشيةً قاسيةً، أو تعرضت للاحتلال... أو غيرها من الضغوط والقوى الخارجة عن إرادتها - فإن عودة الشعوب إلى ثقافتها وقيمها تتفاوت من أمة إلى أخرى ومن شعب إلى آخر. وهو ما يمكن أن نعرفه بمُعامِل مرونة الشعوب.
فكم من أمة خرج منها الاحتلال بقوَّته العسكرية وبقي بدينه أو ثقافته، ونجح في تغيير أنماط سلوك الشعوب التي احتلها. لكن الشعب الأفغاني لم يُخرِج المحتلين واحداً تِلْوَ الآخر فقط؛ بل لم يستطع الاحتلال أن يبُثَّ في عروق هذا الشعب سمومَه الخبيثة إلا قليلاً ثم يتعافى، أو يُثبِّت له قدماً من عُرْف أو تقليد يتنافى مع قيم هذا الشعب ودينه وتقاليده.
فمن الشعوب من يتلمَّس خطى محتليه وإن أخرجهم من أرضه، ومنهم من يتلمسها من دون احتلال، ومنهم الأفغان لا يعطون العـدوَّ الدَّنيَّة: لا أرضاً ولا ديناً وقيماً؛ فالنـاس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام.