الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، وبعد:
يتفق جميع الدعاة وطلبة العلم وكافة العاملين في نصرة الإسلام على أهمية الوفاق والاجتماع، ووحدة الصف، وخطورة التفرق والتنازع والشقاق، فليس ثم أحد ينازع في ضرورة هذه المفاهيم، ولدى كل واحد منا رصيد معرفي كافٍ من النصوص الشرعية وأقوال العلماء وموازين المصالح والمفاسد المتعلقة بهذه القضية، والنتاج العلمي المنشور من مقالات وكتب ومحاضرات وندوات يفوق الحصر.
لكننا ما نزال نعاني من خلل كبير في كيفية تنزيل هذه المفاهيم الشرعية العميقة على واقعنا المعاصر، فما أسرع ما يدب الافتراق والاختلاف والتنازع في صفوف العاملين للإسلام، وما أسهل الأعذار التي تنهال تسويغاً لمثل هذه التجاوزات، بما يحتم ضرورة إمعان النظر في الأسباب الموضوعية التي تحدث هذا الافتراق بما يعطل تأثير المفاهيم الشرعية العميقة وتربية أنفسنا على كيفية التعامل معها، فنقدم لأنفسنا برنامجاً عملياً تطبيقياً يتجاوز مجرد التذكير والوعظ بضرورة الاجتماع والافتراق، فليس ثم أثر كبير لهذا التذكير الذي يتحول عادة لمادة جدال مع حدوث أول سبب موضوعي.
اللافت أن هذا التنازع والافتراق يشتد أواره بين العاملين للإسلام حتى في أشد لحظات الشدة والضيق والكرب التي تفرض ضرورة الاتفاق والاجتماع، ففي مواطن القتال والجهاد في سبيل الله حين تتكالب أمم الكفر والطغيان على انتهاك حرمات بلاد المسلمين، حتى في هذا الوضع الاستثنائي الذي يفرض ضرورة الاجتماع ونبذ الافتراق، تجد التنازع بيناً والشحناء ظاهرة والظنون السيئة بادية بين القائمين بواجب الدفاع عن حرمات المسلمين.
لقد أصبح مدركاً عند خصوم الإسلام سهولة التحريش بين العاملين للإسلام، فكان من أدوات حرب الإسلام التوظيف المباشر لبعض الأشخاص الذين يقومون بالتحريش وإثارة الشحناء والفرقة بين الدعاة والعاملين للإسلام، وقد نجحوا في كثيرٍ من مساعيهم، وتحتفظ الذاكرة المعاصرة بنماذج عدة منهم، بل أحياناً هم ليسوا بحاجة لمثل هذا التوظيف لأن ثم من يقوم بهذه المهمة من تلقاء نفسه، فهو يقوم بدور إثارة الظنون الفاسدة وبث الفرقة والتكفير والتحريش، التي تصب في النهاية في صالح خصوم الإسلام، ومهما أبدى من أعذار وحجج لهذه المواقف فيجب أن لا نغفل عن الصورة الكلية التي يجب أن لا تغيب عن أعيننا: وهي مشهد التفريق والتحزيب والتحريش بين المسلمين، وهو صورة فساد لا تقرها الشريعة، تخالف أحكامها وقطعياتها الظاهرة، وهو ما يجعلنا نطيل التفكير كثيراً في هذه المفارقة العجيبة: قناعة عميقة بضرورة الاجتماع، في واقع يجعل مهمة التحريش سهلة!