انحسار الدور الأمريكي والأقطاب المتعددة
مع اقتراب العقد المقبل، تقف الولايات المتحدة عند مفترق طرق تاريخي فيما يتعلق بسياساتها الخارجية والداخلية، ويصبح الأمر يوماً بعد يوم مرهون بنتائج الانتخابات الرئاسية وانتخابات الكونغرس لعام 2020. فهل سيستمر الانسحاب الأمريكي من قيادة المجتمع الدولي أم ستنتهي الظاهرة الإترامبية بإعتبارها إنحرافاً أوجد فجوات سياسية وأيديولوجية بين الديمقراطيين والجمهوريين تسببت في شلل الإدارة؟! وماذا بشأن إستمرارية الطفرة الاقتصادية التي استمرت السنوات الماضية أم انها ستتحول إلى حالة ركود، وستتأثر الولايات المتحدة بالتغيرات الديمغرافية خلال العقد القادم ويؤثر ذلك على القيم السياسية والحالة الاجتماعية؟!
حظي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في أول سنوات حكمه بما لم يحظى به رئيس أمريكي آخر، فقد كُتب عنه الكثير من الكتب عن شخصيته وسلوكياته وعاداته وحتى السخرية منه وعجرفته مع العاملين في البيت الأبيض والمؤسسات الرئاسية، وصنع الكثير من الخلافات إثر إقالته لمسؤولين كبار عبر تغريدات "تويتر" وغير بشكل غير مسبوق وجه الدبلوماسية الأمريكية عبر تضخيمه لإنجازاته ومهاجمته لوسائل الإعلام وخصومه في الكونغرس ومؤسسات الدولة.
ما دعم الإستثناء الذي حظي به ترامب هو وجود تيار انجيلي محافظ تصل نسبته إلى 40% من الناخبين، وهذا الأمر انعكس على مطالبات التحقيق معه بشأن ملف المساعدات الأوكرانية وملف التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية إذ أن الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ حدت من نفوذ الديمقراطيين ومنعت عزله.
ستؤكد الانتخابات المقبلة إلى أي اتجاه تنتمي الظاهرة الاترامبية وهل ستكون ظاهرة عابرة أم اتجاه يجري تعميقه في المجتمع الأمريكي. يتحرك الحزب الديمقراطي منذ بداية القرن ومع صعود باراك أوباما للحكم باتجاه اليسار فقد دعم نظام الرعاية الصحية بأسعار معقولة، الأمر الذي فسر من قبل الجمهوريين على انه توجه لتحويل الولايات المتحدة إلى دولة اشتراكية وبذلت جهود قوية لإحباطه منها تشكيل حركة "الشاي" ضمن الجزب الجمهوري التي دفعت الجمهور الأمريكي بقوة في الانتخابات التمهيدية إلى اقصى اليمين وتسبب ذلك في عام 2016 بخسارة هيلاري كلينتون للانتخابات الرئاسية وسادة حالة إرباك ضمن الحزب الديمقراطي انعكست على انتخابات الكونغرس عام 2018 وأدت إلى فوز أربع نساء من خلفيات شرق أوسطية ولاتينية سعياً لتشكيل تحالف يقود الحزب نحو اقصى اليسار.
يقول معهد (بيغن- السادات)، على مدار العقد الماضي كان نظام الحكم الأمريكي مبني على التوازنات والحلول الوسط بين الأحزاب المختلفة والسلطات، ومع التنافس الحاد بين اليمين الجمهوري واليسار الديمقراطي اختفت هذه الميزة، وظهر استقطاب وعمق وكراهية عميقين في المجتمع الأمريكي لم يشهد مثلهما منذ حرب فيتنام أو حتى الحرب الأهلية.
من أبرز العوامل المؤثرة في تزايد حجم الكراهية هو التغيير الديمغرافي الحاصل على حساب البيض، إذ ستخسر تلك الكتلة السكانية المزيد من نصيبها بينما تستمر الأقليات في الزيادة وخاصة الأمريكيين من أصول لاتينية، ورغم أن البيض بلغ تمثيلهم 65.2% خلال عام 2010 ستنقص هذه النسبة لتصل إلى 47% خلال 2050. وستصل نسبة اللاتيين إلى 29% بعد أن كانت 16.3% بحسب مكتب الإحصاء الأمريكي ومركز بيو للأبحاث.
ستواصل الكتلة البيضاء في الإنخفاض باستمرار حتى منتصف القرن الماضي وهذا الأمر سيسبب خسارتهم للأغلبية الحاسمة التي عرفوها منذ تأسيس الولايات المتحدة وسينعكس ذلك سريعا على توجهات الناخبين والقيم السياسية للولايات المتحدة.
ورغم دعم الأقليات التقليدي للحزب الديمقراطي لكونه يقف مع احتياجاتهم إلا أن ذلك كان أحد أسباب فوز ترامب في الانتخابات السابقة إذ أنه يمثل الفئة البيضاء التي تكافح للحفاظ على مكانتها في المجتمع لذلك أعلن حملة شعواء لمكافحة الهجرة من أمريكا اللاتينية وفرض إقامة جدار عازل على حدود المكسيك وفرض اشتراطات صعبة على القادمين من البلدان الإسلامية.
سعى ترامب لإنقاذ الاقتصاد الأمريكي واستثمرت خبرته في مجال الأعمال لدعم أكبر اقتصاد في العالم رغم أن السكان يمثلون فقط 5% من إجمالي سكان العالم، إذ ينتج الاقتصاد الأمريكي 20% من الإنتاج العالمي. أشارت جميع المؤشرات إلى نمو الناتج القومي الإجمالي بواقع 2% وانخفض مستوى البطالة إلى 3.5% وفي الوقت نفسه بلغ الدين القومي 20 تريليون دولار لأول مرة في التاريخ لأن الضربة الحقيقة التي يتلقها الاقتصاد الأمريكي كانت قادمة من الصين لذلك اندلعت حرب تجارية بدأت نيرانها تخفت مع إيقان الطرفين بضرورة وضع حلول وسط لخلافاتهم.
رغم أن التوقعات تشير إلى تباطؤ النمو وتراجع مؤشراته الرئيسية إلا أن ترامب سيحاول جاهداً الحفاظ على حالة النمو لكونه الورقة الرابحة في يده مع قرب الانتخابات، وهذا هو السبب الرئيسي وراء تراجعه عن الحرب التجارية مع الصين وإجراء محادثات للتوصل إلى اتفاقات تفيد الجانبين. إذا فاز ترامب على الأرجح لن تتغير سياساته لكن إذا فاز الحزب الديمقراطي سيكون هناك تغييرات جوهرية تتعلق بالرعاية الصحية والتعليم والميزانية التي يجب أن يوافق عليها الكونغرس.
الانتصارات الأمريكية في الحربين العالمية الأولى والثانية والحرب الباردة فرض على العالم أن تكون واشنطن "شرطي العالم"، وفي هذا الصدد يتبنى ترامب نفس سياسات سلفه أوباما من خلال فك الارتباط مع المنظمات الدولية والقوى الأخرى مثل ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وبدأ يتخلص من الدبلوماسية متعدد الأطراف مثل اتفاق إيران النووي واخذ موقفاً سلبياً اتجاه المنظمات الدولية التي اتهمها بالفساد. ورغم أن الحديث عن نظام دولي جديد متعدد القوى قد يكون أمر مبكر لآوانه إلا ان الاتجاه الانعزالي للولايات المتحدة مستمر في التقدم لا سيما بعد استمرار فشلها في حرب أفغانستان وزيادة قوة الصين على الصعيد الاقتصادي وتوسع النفوذ الروسي في الشرق الأوسط. كذلك فشلت واشنطن في الحد من انتشار الأسلحة النووية سواء في إيران أو كوريا الشمالية رغم الدبلوماسية والتهديد التي استخدمت خلال مفاوضات ترامب مع زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون.
كذلك انسحبت واشنطن من شمال سوريا ولم تقم برد حاسم على تجاوزات إيران في الخليج العربي لاسيما اسقاط الطائرة الأمريكية ومهاجمة المنشآت النفطية العراقية ذلك أدى إلى اثبات فشل واشنطن في دورها القديم كشرطي للعالم. من جانب آخر ذهب ترامب بعيداً في دعم بنيامين نتنياهو والحكومة الإسرائيلية على حساب تفاهمات السلام بين السلطة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي واتجه إلى تجاهل أي مواثيق دولية حول الأمر نفسه، وهذا الأمر جعل رصيده مرتفع بين اللوبي اليهودي في أمريكا، لكنه الحزب الديمقراطي انتهج نهجاً مخالفاً لترمب وهدد بقطع المساعدات عن "إسرائيل" في حال رفضت الإلتزام بالمواثيق الدولية، لذلك يرجح أن فوز الديمقراطيين في الانتخابات سيعيد سياسات أوباما السابقة إلى الواجهة مع "إسرائيل".
لذلك يمكن الاستنتاج أن السياسيات الأمريكية على المستوى المحلي والخارجي لديها الكثير من التحديات المكلفة التي تفرض التغيير وتجبر واشنطن على التنحي لإحلال دور لأقطاب جديدة سواء على المستوى الإقليمي أو العالمي، فالكلفة الاقتصادية لتحدي الصين في حرب تجارية أظهرت عجزت ترامب مع وجود ديون ضخمة على الخزينة الأمريكية كذلك على الصعيد الأمني تواصل روسيا الانتشار على حساب التمركز الأمريكي في المنطقة مع الأخذ بعين الاعتبار الفشل في العراق وسوريا وأفغانستان والتغيرات الديمغرافية الجارية على الصعيد المحلي.