الاستثمار الروسي لأزمة العلاقات الأوروبية الأمريكية
كان الاجتياح الروسي لأوكرانيا عام 2014 لحظة فاصلة في تاريخ العلاقات الروسية الأوروبية الحديث إذ بدأت عقبها مرحلة فرض عقوبات أوروبية ضد روسيا بإشراف أمريكي هدفه تقزيم تدخل الروس في الملف الأوروبي ووضع حد لتقدمها العسكري في شرق أوكرانيا.
في الفترة الماضية قالت الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا(PACE)، وهي أعلى منظمة حقوقية أوروبية إن روسيا ستعود لعضويتها بعد تعليق دام خمس سنوات على خلفية ضم شبه جزيرة القرم. كذلك بالتناغم مع الضغط الأمريكي على أوروبا وسياسات الرئيس دونالد ترامب التي ضغطت مؤخراً على الاوروبيين في قضايا عدة منها ملف الضرائب والمطالبة بدعم أكثر لحلف "الناتو" والانسحاب الأخير من شرق سوريا، بدأت روسيا بإستغلال هذا الخلل في العلاقات للتقارب مع أوروبا من خلال تحسين علاقاتها بأوكرانيا ومولدوفيا وجورجيا.
خلال الأشهر الثلاثة الماضية، عقدت في موسكو وكييف عدة اجتماعات بين مسؤولين من البلدين وتم تبادل أسرى الحرب وأحرزت المفاوضات تقدم بشأن إجراء انتخابات في دونباس ولوهانسك وهي مناطق إنفصالية شرق أوكرانيا. وقد عقدت لقاءات في 26 سبتمبر بين وزير الخارجية الأوكراني ونظيره الروسي سيرجي لافروف لأول مرة منذ الإجتياح الروسي في عام 2008. وهذا الأمر يعد تحولاً واسع النطاق في سياسات موسكو خلال الأشهر القليلة الماضية شجعه ضعف الموقف الأوروبي الموحد تجاه روسيا. ستتقاعد المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل قريباً، ومن المرتقب أن يتولى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون منصباً قيادياً في الاتحاد الأوروبي قد يساعده على بلورة مواقف أوروبية أكثر تقارباً مع أوروبا تعود بالفائدة على باريس. فقد دعا ماكرون الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى قلعة بريجانسون في فرنسا، وقد ألقى ماكرون خلال اللقاء رسائل سياسية تحتوي على المفهوم الديني المسيحي الذي يجمع أوروبا، وقال خلال اللقاء " لايمكننا إعادة بناء أوروبا دون إعادة بناء علاقات جيدة مع روسيا". ورداً على غضب بعض السياسيين من اللقاء صرح ماكرون في حينه بأنه يجب إعادة النظر في رؤية أوروبا موحدة من لشبونة إلى فلاديفوستوك.
وعقب تلك الإجازة التي قضاها مع بوتين بأيام انتقد الرئيس الفرنسي العقوبات الأوروبية على روسيا وصرح قائلا:" دفع روسيا من أوروبا يعد خطأً استراتيجياً عميقاً". وأشار إلى أن ابتعاد روسيا عن أوروبا سمح لها بتوسيع نفوذها في سوريا وليبيا وافريقيا والتحالف مع الصين على حساب أوروبا. التحولات الجيوسياسية التي تحدث على المدى القريب في أورواسيا سمحت لروسيا بأن ترى التصارع الغربي مع الصين يصب في صالح خطتها التوسعية في المنطقة. وعلى غرار ما يجري في شرق أوروبا بسبب الخلافات الأوروبية الأمريكية والأوروبية الأوروبية تسعى روسيا لإستغلال التوسع الصيني الكبير في آسيا الوسطى، للعودة بقوة لتلك المنطقة التي تعد من أهم مراكز ثروات الطاقة في العالم. وتسعى لإستغلال تحسن العلاقات مع أوروبا لعدة أهداف أهمها القدرة على التدخل بحرية في الملف الأوكراني وجنوب القوقاز بالإضافة إلى وقف توسع الناتو في الفناء الروسي الخلفي وإشغال المساحة التي تحتلها واشنطن في المنطقة. الخلافات الصادمة التي صنعتها واشنطن مع الصين وتركيا وروسيا فرضت على أوروبا أن تعمل بقوة أكبر للتنافس مع تلك القوى والحفاظ على مجالها السياسي نقي بعيداً عن الصراعات بين الأقطاب الكبرى.
قد تحصل روسيا على رفع كامل للعقوبات واعتراف ضمني بحكمها لشبه جزيرة القرم، لكن سيفتح ذلك نافذة فرص كبيرة للروس من خلال السوق الأوروبية الموحدة المفتوحة أمام الأراضي الأوكرانية، ويمكن القول أن المشهد السياسي في أورواسيا يتغير بشكل كبير لصالح روسيا في ظل استمرار أزمة العلاقات الصينية الغربية وهذا الأمر يمنح روسيا المزيد من القوى للتدخل في الملفات الكبرى والقيام بدور بديل عن الموقف الأمريكي لا سيما في ظل عملها المشترك مع أعداء واشنطن في ملفات مثل الملف السوري الذي يعد أبرز الملفات المربكة لأوروبا في ظل أزمتها مع تركيا.