• - الموافق2024/11/26م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الانسحاب الأمريكي.. ممارسة الحرب بوسائل أخرى

الانسحاب الأمريكي.. ممارسة الحرب بوسائل أخرى


"الانسحاب" كلمة شاع استخدامها بكثرة عند الحديث عن السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط. فمنذ إعلان الرئيس الأمريكي باراك أوباما في عام 2009 عن انسحاب القوات الأمريكية من العراق وأفغانستان، وإطلاق "استراتيجية إعادة التوازن" في آسيا والمحيط الهادئ، ولم يتوقف استعمالها. وبدوره استعمل دونالد ترامب كلمة الانسحاب أكثر من مرة تجاه سياسة إدارته للشرق الأوسط. ذلك يعني أن هناك استمرارية للخط الذي بدأه سلفه أوباما. وبالفعل فقد أعلن ترامب مؤخراً أن القوات الامريكية ستنسحب من سورية، وقبلها قال إن قواته ستنسحب من سوريا وأفغانستان وستبقى في العراق. وعقب الهجوم على أرامكوا قال الرئيس الأمريكي لا حاجة لتواجد بلاده في منطقة الخليج.

بالنسبة لإيران وميلشياتها، يعد هذا الانسحاب علامة على انتصار "محور المقاومة"، وهي الآن تعكف على توكيد قوة منطقها السياسي وسلامه مسلكها تجاه "الشيطان الأكبر" في ترسيخ قاعدة أن تحالف القوى المحلية مع أمريكا من شأنه أن يدخل هذه القوى في مأزق مثلما يحدث في هذه الغضون لأكراد سورية عندما تخلت عنهم الولايات المتحدة الذي قال عنهم ترامب "يقاتلون بشكل أفضل عندما نقاتل معهم".    

بكلام آخر إن تفسير الانسحاب الأمريكي بأنه يعد نصراً لمحور المقاومة فيه كثير من التبسيط، وهو لا يحجب حقائقه السياسية فحسب بل ويمارس التغفيل في أن لهذا الانسحاب أهدافاً استراتيجيةً تستكمل به الاستراتيجية الأمريكية ما بدأته في المنطقة وليس بالقطيعة معها. 

تنطلق المقالة من فرضية ترى أن الانسحاب استمرار للحرب بوسائل أخرى. إذ تسعى الولايات المتحدة من ورائه إلى ممارسة السياسة بوسيلة مغايرة ترمي إلى إعادة تنظيم الجغرافية السياسية للحصول على نتائج فعالة في نقل الثروة من جهة لضبط منافس مكافئ أو شبه مكافئ من جهة أخرى. 

يتصاعد التوتر بين السعودية وإيران. فلقد حملت السعودية إيران مسؤولية الهجوم على منشآت أرامكو. في الوقت الذي أعلن ترامب عن نية بلاده من الانسحاب من منطقة الخليج العربي وأن على الصين أن تتكلف بحماية مصدر الطاقة هناك.  الموقف الأمريكي ههنا يريد أن يتلاعب بالمنطقة من خلال استدراج المحاور في لعبة سياسات القوة وعبر توريطها وإغراقها في حروب بينية لابتزازها وانهاكها مما يزيد من تشققها وتفريقها قوها. بمعنى آخر إدخال الحرب كعنصر في استراتيجية ترامب الجديدة وكفن من فنون الحكم السياسي لضبط المحاور المتنافسة بما يضمن ربط هذه القوى بمواثيق تضمن عدم تمردها أو محاولة منافستها لأمريكا.

الولايات المتحدة عازمة على تأخير الصعود الصيني ووضع العراقيل أمام مسيرة الصين الاقتصادية. ومن خلال توريط الصين في لعبة تنافس القوى في الشرق الأوسط لحماية مصالحها وخاصة امدادات النفط، وبالتالي تحويل المنطقة إلى منطقة صدام لإهلاك المحاور في صراعات بينية عبر إطلاق صراع واسع النطاق بينها يدفع المنطقة إلى مأزق أمني بفعل اشعال التنافسات الأمنية فيها من شأنها إدخالها في توترات متدحرجة قد تفضي إلى حروب بينية تحوِّل من خلالها ثروات المنطقة من الدول المتنافسة إلى الولايات المتحدة.

من غير المرجح إطلاق تعارك مباشر بين دول المنطقة وأمريكا. لقد اعتادت هذه الدول على الحماية الأمريكية. غير أن الولايات المتحدة تعيد طريقة استخدام قواعدها العسكرية المنتشرة في الخليج وشمال شرق آسيا للضغط على الدول الإقليمية خاصة تلك التي ترهن حمايتها بالولايات المتحدة فتغير من أبنية القوة بطرق تجعل النزاع أرجح منه اليوم. تهدف هذه الخطوة إلى نقل المسؤولية إلى القوى المحلية لتأخذ زمام المبادرة، ويبقى التدخل الأمريكي يقتصر على الضرورة.

إن أمريكا لا تريد تثبيت إيران قطباً إقليماً مهيمناً فحسب بل والتحكم في إمكانيات قوتها في الشرق الأوسط واستثمارها في تحفيز الدول، وبخاصة السعودية، للدخول في تنافس أشد معها. ويمكن للولايات المتحدة بصفتها القوى البحرية العظمى أن تنسحب من البر وتأسيس قوة هجومية بحرية في الخليج العربي وشمال شرق آسيا، تحافظ على أصول بحرية جوهرية متواضعة وفعالة على إطلاق عمليات تدخلية عند الضرورة.

 إن هذا الصراع بين المحاور يستهلك هذه الدول ويفرض عليها زيادة حصة الانفاق الدفاعي على حساب تنمية الجوانب الأخرى من شأنه أن يعرقل إمكانيات تحولها إلى أقطاب قد تهدد سيادة الولايات المتحدة على المنطقة. مما له آثار سلبية على اقتصاداتها وإيجابية على اقتصاديات الولايات المتحدة فمن خلال اشعال النزاعات تُنقل من خلالها ثروات الدول المتحاربة إلى الولايات المتحدة إذ ستسعى الأخيرة لتعبئة الفراغ الناجم انخراط الدولة المتحاربة الذي ستتركه أو عبر صفقات السلاح.

 إن تسعير التنافسات الأمنية بين الدولة يرسخ عدم الثقة بينها في المقابل تظهر أمريكا كطرف نزيه ليس له أغراض ومصالح خاصة إلا في ضبط الجيوبولتيك الشرق أوسطي المفكك العاجز عن ضبط نفسه بنفسه فهو بحاجة دوماً إلى إنقاذ خارجي من نفسه، أي استمرار الاستثمار العالمي بالولايات لمتحدة. وبهذا المعنى تصبح القوة الأمريكية الضامنة الأساسية للاستقرار العالمي. وبهذا المعنى ليس كما يقول زبيغنيو بريجنسكي بأنه "لا يوجد بديل واقعي للهيمنة الأمريكية" بل إن الصحيح هو أن الولايات المتحدة أوجدت استحالة البديل الواقعي للهيمنة الأمريكية وانعدام شروط إمكان ظهوره عبر هذا الترتيب الهرمي لتوزيع القوة على الخارطة الشرق أوسطية وشمال شرق آسيا فضلاً عن تفتيتها، الأمر الذي يضمن لها أن تبقى العنصر الأوحد الذي لا غنى عنه للأمن العالمي. 

إن الولايات المتحدة تسعى من خلال الانسحاب إلى المزيد من ترسيخ واقع جغرافي سياسي ممزق(تعددي) تكون فيه كل دولة المنطقة بالكاد تملك نظاماً خاصاً بها ولها دور مرسوم سلفاً محدود التأثير في هيكل القوة مصمم على العجز على مواجهة الولايات المتحدة. وفق هذه النظرية يجري تعيين اللاعبين لمصالحهم الخاصة في نطاق التصميم الأمريكي للنظام التعددي التنافسي الذي يقوم على حروب بينية في الشرق الأوسط يكون تنافسياً بين دول المنطقة وتصالحياً مع أمريكا، يؤدي إلى أن تكون الولايات المتحدة (الآخر) المحكم المهيمن والمؤثر في المنطقة كطرف ليس من المنطقة وله حضور في فيها كطرف داخل/ خارج أو كطرف متعالٍ يشكل أصل انضباط الجغرافية السياسية للشرق الأوسط.

من هذا اللحاظ ينكشف أمامنا ما تحاول إيران ومحورها تضليلنا به لبيع انتصار موهوم تصنعه لها الولايات المتحدة. إن حقيقة الانسحاب الأمريكي بالضبط هو ممارسة السياسة(والحرب) بوسائل أخرى ليس بالقطيعة مع ما قبل بل استمرار لنفس الخط الذي بدأته الإدارات الأمريكية. فهذه السياسية تناسب العمليات العسكرية غير التقليدية كونها تتفادى الحساسية الأمريكية تجاه فقدان الجنود أو جرحهم وسط المعارك وساحات الحرب. إن نظرية الانسحاب تجنب أمريكيا من الانخراط المباشر في العمليات العسكرية من خلال ضبط الجغرافية السياسية وتصميمها على نحو تكون قادرة على الصمود في مواجهة أي تطلعات لتحدي الهيمنة الأمريكية وللحيلولة دون ظهور منافس ند متوقع لتحديها وضمان عدم طردها إلى ما وراء الأطلسي. فمن نتائج الانسحاب استمرار تحقيق الولايات المتحدة تفكيك المنطقة وامتصاص قوتها الذاتية من أي إمكانية مستقبلية للتوحد ضدها فيما تتجمع القوة في يدها بوصفها الحكم المنزه عن الغرض الذي يقف فوق نزاعات الإقليمية.

أعلى