الانتظار.. قد يكون استراتيجية
في دراسة خطيرة أجراها المحاضر في جامعة ستانفورد مايكل والش على مجموعة أطفال أعمارهم بين 4 و5 سنوات حيث خيرهم بين أخذ قطعة بسكويت واحدة الآن أو قطعتين من البسكويت بعد 20 دقيقة فاختار أغلب الأطفال أخذ قطعة واحدة من البسكويت مباشرة. وبعد قرابة أربع عشرة سنة تمت متابعة هؤلاء الأطفال الذين أضحوا في السنة الأخيرة تقريبا من الثانوية فكانت النتيجة: الأقلية التي اختارت الانتظار وتحكموا بذواتهم وسيطروا على رغباتهم واخذوا قطعتين مؤجلة نجحوا في حياتهم وكانوا أكثر سعادة وأقل توترا وأكثر ثقة بالنفس وأكثر حزماً وأعظم تقديراً للذات وأقوى على التكيف مع الأزمات والتفاعل الايجابي معها وأكثر اعتمادا على أنفسهم وأكثر قوة وثباتا أمام الاستفزازات إضافة إلى قدرتهم الكبيرة على التحصيل العلمي وهو ما يعكس قوة مهارة الانتظار الاستراتيجي أو تأجيل الإشباع.. بعكس الفريق الأول حيث ضعف الثقة بالنفس وتوتر العلاقات مع الآخرين إضافة إلى تردي مستواهم العلمي مما يوحي بإرهاصات فشل عام في الحياة.
وكما جرى استخدام استراتيجية الانتظار على الصعيد الشخصي في الجوانب التربوية فإنه تم تطبيقها أيضا في الصراع السياسي وأصبحت إحدى استراتيجيات هذا الصراع مع ما بدأ يطلق عليه البعض استراتيجية الانتظار أو الترقب وهو يعني تحين فرصة أخرى مناسبة عندما يصل الفعل السياسي أو العسكري أو الاثنين معا لأفق مسدود ويصبح أحد أطراف الصراع عاجزا عن المبادرة وتكملة ما يخطط له وتحقيق أهدافه.
وقد يكون اللجوء إلى الانتظار وتحين فرصة أخرى ليس الخيار الوحيد ولكنه الخيار الأقل تكلفة أو الأقدر على تلبية الطموحات وتحقيق الأهداف الاستراتيجية وليست الأهداف الآنية.
وهناك مثالان تم استخدام نظرية الانتظار فيهما بنجاح:
المثال الأول: القنبلة النووية الباكستانية
في أوائل الستينات من القرن الماضي عندما ترامى إلى الأسماع أن الهند شرعت في برنامج لإنتاج السلاح النووي حاولت باكستان انشاء برنامجها النووي ولكن أثرت الحروب التي خاضتها باكستان مع الهند على العمل بجدية في هذا المشروع حتى جاءت الهزيمة المذلة لباكستان في حرب عام 1971 على يد الهند التي نجحت في شطر باكستان إلى قسمين أحدهما استقل باسم بنجلاديش كما تم أسر ما يقرب من تسعين ألف من الضباط والجنود الباكستانيين في هذه الحرب التي في أعقابها قامت الهند بإجراء تفجير كاختبار لأول سلاح نووي لها الأمر الذي جعل باكستان تأخذ الأمر بجدية وتسعى هي الأخرى لامتلاك سلاح نووي حتى لا يأتي الوقت وتجد فيه نفسها وقد ابتلعتها الهند مرة أخرى وتم استجلاب العالم النووي الباكستاني عبد القدير خان ليقود مشروعا نوويا طموحا قاد في نهاية عام 1978 لتصميم القنبلة النووية ...هنا تدخل الأمريكان ليوقفوا هذا البرنامج حتى أنهم ضغطوا على شركات فرنسية التي انسحبت بالفعل من هذا المشروع وتوالت التقارير الصحفية الأمريكية منذ بداية الثمانينات والتي تتحدث عن مدى تقدم البرنامج النووي الباكستاني ففي عام 1981 نشرت وكالة اسوشيتدبرس محتويات تقرير لوزارة الخارجية الامريكية جاء فيها ان لدينا سببا قويا للاعتقاد ان باكستان تسعى الى تطوير القدرة على التفجير النووي وانها تنفذ برنامجا لتصميم وتطوير نظام إطلاق التفاعل في الاسلحة النووية وفي اواخر عام 1981 صدر كتاب بعنوان القنبلة الاسلامية يتحدث عن الجهود الباكستانية الاخيرة لتنفيذ تجربة نووية وفي عام 1983 جاء ختام تقرير سري امريكي للحكومة الامريكية تم الكشف عنه ان هناك دليلا بشأن سعي باكستان الحثيث لتطوير برنامج اسلحة نووية....كان البرنامج النووي الباكستاني قد قطع شوطا بعيدا وكان ينقصه خطوة واحدة وهي التفجير التجريبي لاختبار قوة قنبلته ونتيجة هذه الضغوط أجل الرئيس الباكستاني حينذاك هذه الخطوة وفضل استراتيجية الانتظار وخرج بتصريحات أن برنامجه سلميا والدليل أنه لم يجر أي تفجيرات التي بسهولة يمكن رصدها سواء من الهند المجاورة أو عن طريق عملاء المخابرات الأمريكية.
في ذلك الوقت تعاظمت الحرب السوفيتية في أفغانستان وقررت الولايات المتحدة جر السوفييت إلى المستنقع الأفغاني واستنزافه في حرب عصابات طويلة ومرهقة ومكلفة فسلحت فصائل من المقاتلين والمجاهدين الأفغان وكانت باكستان هي الممر والجسر لهذه المساعدات فكانت الحاجة الأمريكية لها كبيرة وضخمة.
وجاء عام 1985 واشتد الاعتماد الأمريكي على باكستان خاصة أن باكستان قد نجحت في السيطرة وتوجيه الفصائل الأكبر من المجاهدين الأفغان فتحرك ضياء الحق ليعطي أمرا بأول تفجير نووي باكستاني وايذانا بتدشين عصر الذرة العسكرية في باكستان وصدقت حسابات ضياء الحق في استراتيجية الانتظار حين اضطرت الولايات المتحدة إلى غض الطرف عن ما فعلته باكستان لأنها كانت في حاجة إلى اسقاط الاتحاد السوفيتي أكبر من حاجتها إلى تحجيم القنبلة النووية الإسلامية ولذلك حين بدأ التراجع السوفيتي في أفغانستان بدأت الولايات المتحدة في تحجيم باكستان ومحاصرتها وعقابها على هذا الفعل ولكن كانت القنبلة النووية الباكستانية قد وصلت لمرحلة اللاعودة.
أما المثال الثاني: اجتياح القوات السورية لبيروت الشرقية
مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975 وجد الرئيس السوري حافظ الأسد فرصة لمد نفوذه إلى لبنان فأخذ يتلاعب بالطوائف اللبنانية والفلسطينية وميليشياتهم ويخترقهم تارة وبتدخل مباشر بجيشه تارة أخرى ولكن بعض الميليشيات خاصة المسيحية المارونية خافت على نفوذها في لبنان من الأسد فسارعت إلى الارتماء وطلب النصرة من إسرائيل أحيانا ومن فرنسا باعتبارها حاضنة لنصارى لبنان تاريخيا وبمرور السنوات استطاع الجيش السوري مد نفوذه وتمدد في شتى أنحاء لبنان ماعدا بالطبع الجنوب الذي اعتبر محمية إسرائيلية ولكن عجزت قوات الأسد وألاعيبه ومخابراته عن السيطرة على بيروت الشرقية معقل المارونيين بزعامة قائد الجيش اللبناني المسيحي في ذلك الوقت ميشيل عون المدعوم من فرنسا والتي وضعت للأسد بيروت الشرقية كخط أحمر لا يستطيع تجاوزه وساندت الولايات المتحدة فرنسا في هذا الموقف.
وهنا لجأ الأسد إلى استراتيجية الانتظار فتوقف عن محاولات دخول بيروت الشرقية لعدة سنوات حتى تتغير الظروف والبيئة الاستراتيجية وبالفعل تغيرت المعطيات عندما انهار الاتحاد السوفيتي وبدأت الولايات المتحدة في تشكيل بيئة دولية تتبوأ فيها منفردة مركز القيادة لنظام عالمي جديد فدفعت بطريقة غير مباشرة صدام حسين لاجتياح الكويت في أغسطس عام 1990 ومن ثم شرعت الولايات المتحدة في بناء تحالف دولي واقليمي بقيادتها لمهاجمة العراق واخراجه من الكويت وفي نفس الوقت اثبات قدرتها على تشكيل النظام الدولي الجديد.
في ذلك الوقت احتاجت الولايات المتحدة لسوريا مستغلة ثقلها الاستراتيجي في المنطقة ولعب الأسد بخبثه وحنكته بورقة لبنان وبيروت الشرقية فرغم كرهه الشديد لصدام ورغبته في تحييد العراق إلا أنه تريث ليستطيع قطف ثمرة انتظاره في لبنان وقبض ثمن وقوفه مع الولايات المتحدة وبالفعل ضغطت أمريكا على حليفتها فرنسا لترفع دعمها عن المارون في لبنان وعن مساندتها لميشيل عون فاجتاحت القوات السورية المنطقة الشرقية لبيروت وكل ما استطاعت فرنسا أن تعمله أن تأخذ عون الذي لجأ لسفارتها إلى خارج لبنان....وهكذا أثمرت استراتيجية الانتظار التي اتبعها الأسد في سقوط لبنان في حجره.
في النهاية فإن استخدام استراتيجية الانتظار له شروط ليكون انتظارا إيجابيا وليس سلبيا فالانتظار الذي لا يعني بأسباب القوة ووسائل تحصيلها بشتى السبل سواء قوة على الصعيد السياسي أو الاستراتيجي أو العسكري أو التكنولوجي أو العقائدي والتربوي وغيرها من أنواع القوة فهو انتظار سلبي مذموم ويجر إلى مزيد من الضعف والانتكاس والتراجع وعكسه هو الذي ينتظر كالفهد الذي يراقب وينتظر ويرصد الصراع والمعلومات بجدية وصبر ويتزود بما يستطيع بأسباب القوة ...فهذا هو الانتظار الإيجابي الذي يتقدم أصحابه إلى الأمام.