عرض المشاهد الصارخة في وسائل الإعلام بين القبول والرفض
الصورة بألف كلمة:
قيل: «إن الصورة بألف كلمة»؛ إذ إنها تختصر العبارات والمواقف للمتلقي، وتُغنِي المتحدثَ عن الكثير من الكلام، لكن الأمر ليس على إطلاقه؛ لأن للصورة ضوابط في عرضها عبر وسائل الإعلام، قد تكون ضوابط شرعية أو ضوابط مهنية، أو تقنية، وإلى غير ذلك من الضوابط التي ينبغي أن تتقيد بها وسائل الإعلام في عرض المشاهد والصور. موضوع هذا التحقيق هو نوع من الصور يُطلق عليها بعض الإعلاميين الصور الصارخة أو الصادمة، فهل هذا النوع من الصور التي تُعرض في وسائل الإعلام؛ هل هي أمانة إعلامية واجبة التبليغ كحقيقة واقعة، أم أنها تكرّس العنف في المجتمعات وتحرّض عليه؟
فنحن بين فريقين:
الفريق الأول: يرى أن تلك المشاهد الصارخة هي أكثر أوجه الحقيقة قوة، وأنه من واجب القنوات الإعلامية عرض تلك المشاهد من باب أنها حقائق ماثلة، ثم إن المجرم لن يرتدع ما دمنا نتكتم على جريمته، وتلك الفظائع لا ينبغي أن تُرتَكب ثم تمر كأن لم تكن؛ وإذا قلنا بعدم عرضها؛ فكأننا نقول للجناة ومجرمي الحرب: لا بأس عليكم، افعلوها ثانية، ولا تخشوا من وسائل الإعلام !! ويعزز وجهة نظره بأن عرض الصور والمشاهد الصارخة هو السبب المباشر للمساعدات الإنسانية لضحايا الحروب والكوارث.
الفريق الثاني: يرى أن من واجب وسائل الإعلام أن تتجنب عرض المشاهد الصارخة؛ لأنها في حسهم تؤثر على المشاهدين –لاسيما الأطفال منهم-، وتولّد ثقافة العنف في المجتمعات؛ واستندوا في دعواهم إلى بعض الدراسات الغربية التي أُجريت في هذا الشأن.
ونستعرض آراء وحجج كلا الفريقين بشيء من التفصيل:
تحدث الأستاذ وضاح خنفر مدير شبكة الجزيرة حول هذا الموضوع إلى برنامج خير الكلام بقناة الجزيرة للأطفال، فقال: "عرض الصور والمشاهد الصارخة في كثير من الأحيان يصبح ضرورة إخبارية؛ وذلك من أجل: إما لكشف جريمة، لا يمكن أن تُكشف هذه الجريمة إلا بوجودها، وإما تحريك للمشاعر والمواقف السياسية من أجل التدخل الفعلي لوقف ما يجري على الأرض ، ومن هنا: الصورة في كثير من الأحيان تصبح ضرورة، وعرضها يصبح مسألة مهمة، وإخفاؤها يصبح وكأنه تواطؤ مع المعتدي".
بعض الأمثلة من القضايا الكبرى التي خدمتها المشاهد والصور الصارخة :
1- مجزرة غزة: عندما أغار الكيان الصهيوني على القطاع بسلاح الطيران، وهدم البيوت على رءوس المدنيين، واستخدم في ذلك الهجوم الغادر أسلحةً محرمة دوليًّا، ومن ذلك الرصاص الذي ينفجر داخل الجسم محدثًا التسمم الداخلي بشكل يستحيل معه إسعاف الشخص حتى بعد استخراج الرصاص والشظايا من جسده.
2- عندما أظهر الإعلام الذي كان يغطّي الأحداث لحظة بلحظة مشاهد الدمار، والفقر والحصار والإصرار من الشعب الفلسطيني المقاوم، أنتج ذلك تعاطفًا عالميًّا مع القضية الفلسطينية، وتوالت قوافل الإغاثة على القطاع، وفضحت جرائم الاحتلال.
3- التعذيب في سجون الصهاينة، بعض المشاهد التي تم تسريبها فضحت جرائم الاحتلال وطرقه في نزع اعترافات أسرى المقاومة.
4- معتقل جوانتاناموا والمعاملة التي لم يكن أحد ليصدقها، أو يتصور وجودها إلا بالصور والمشاهد التي فضحت الحضارة الأمريكية، وفضحت دولة حقوق الإنسان، عندما يسجن بمعتقل جوانتاناموا شيخ أفغاني يبلغ من العمر مائة وعشرين عامًا!!
ومن فوائد عرض الصور الصارخة أن عشرين دولة حول العالم تستخدمها على علب السجائر كأسلوب فعّال للإقلاع عن التدخين ، عندما يرى المدخن الصورة المفزعة للرئتين السوداوين أو التورم المقزز بالجهاز التنفسي؛ فإنه سيكره السيجارة إن توقع أنه سيئول أمره إلى مثل هذا.
هل يولد عرض المشاهد الصارخة ثقافةَ العنف في المجتمع؟؟
نشرت مجلة السلام "بيس ماجازين" تعليقًا على الدراسات النفسية التي قامت بها منظمة الائتلاف الدولي للعنف التلفزيوني، والتي تُظهر الأثر التراكمي للعنف التلفزيوني:
دراسة الائتلاف الدولي التي انتهت عام 1988م بعدما استغرق البحث فيها 22 عامًا قام فيها الباحثون بدراسة تقارير عن 1500 فيلم تم عرضها في 61 دولة حول العالم على مدى أربعين عامًا؛ حيث أظهر البحث الأثر التراكمي للتلفزيون الذي قد يمتد حتى عشرين سنة لتظهر نتائجه. وأثبت البحث وجود علاقة مباشرة بين مشاهد العنف في الستينيات، وارتفاع مستويات الجريمة في السبعينيات والثمانينيات. وخلص البحث إلى أن الدول الأكثر عنفًا على مستوى العالم هي: هونج كونج، والولايات المتحدة، والمكسيك، وبها أعلى نسبة من الأفلام العنيفة، وتلتها بريطانيا وإيطاليا ويوغسلافيا وفرنسا، وكانت اليابان أقل عنفًا، ثم ألمانيا الغربية، ثم دول الاتحاد السوفييتي.
يقول المصمم الصحفي الأستاذ أيمن شلتوت: إن صديقًا له أطلعه على مقاطع ومشاهد صارخة من فيلم لمذبحة جزر الملوك بإندونيسيا، والتي أظهرت تقطيع النصارى لجثث المسلمين بالسيوف، فلم يستطع نسيان المشهد لفترة طويلة، وأصابه ذلك بحالة نفسية سيئة، واستمرت عالقة في الذاكرة معه لفترة طويلة. لذلك فهو يرفض عرض مثل تلك المشاهد على وسائل الإعلام؛ إذ إنها تحمل آثارًا نفسية سيئة، وقد تولد الشعور بالرغبة في الانتقام –على حد تعبيره-.
كما يرى هذا الفريق أن كثرة رؤية تلك المشاهد تجعل الإنسان يعتاد تلك المناظر، فيُصاب بعد المبالاة بما يراه مجددًا، وكما يقال: "كثرة المساس تُذهب بالإحساس".
وعلى العكس من ذلك يؤكد الفريق المؤيد أن عرض المشاهد الصارخة على وسائل الإعلام يمكن توظيفه لخلق نوع من المشاعر الإنسانية عند المشاهد، فهي أداة قوية لكشف العنف وتحقيق التضامن بين شعوب العالم، كما أنها سبب قدوم منظمات الإغاثة من مختلف البلدان، وبسببها أصبح هناك من يشعر بمعاناة الآخرين على الجهة الأخرى من العالم. كما أن العديد من القنوات الإخبارية تقوم بالتنويه مسبقًا عند عرض مشاهد صارخة لا يصلح أن يشاهدها الأطفال وضعاف القلوب ، وفي هذه الأثناء ينبغي على الكبار تحويل القناة أو صرف الأطفال لمكان آخر حتى لا يشاهدوا تلك المشاهد.
مناقشة حجج الرافضين:
الرافضون لعرض المشاهد الصارخة قد يطعنون في مصداقية مقاطع الفيديو والصور الملتقَطة، منهم الدكتور شعراوي خليفة الذي قام بدراسة إعلامية يشكّك في مصداقية بعض الصور، لاسيما بعد أن أصبح بالإمكان أن تعالج أي صورة معالجة رقمية بالتقنيات الحديثة التي تتيح ذلك لقطاع عريض من غير المتخصصين؛ لذلك فالثقة لم تعد كافية، بل إنها تصبح أداة لقلب الحقيقة. والرد على ذلك يتلخص في أن وسائل الإعلام المحترمة لا تبث مشاهد مفبركة؛ لأن هذا العصر يتميز بتنوع المصادر، فمن المحتم أنه سيتم اكتشاف الزيف والخداع بسهولة ويسر؛ وذلك لكثرة الشهود. ومن ناحية الوثوق في الصورة يقول الإعلامي وضاح خنفر: "في أي مؤسسة إعلامية توجد ضوابط ومواثيق وخطوات معتمدة يشرف عليها محررون وخبراء، ولا تبث كل ما لديها من صور، لكن تحاول التأكد بما لا يدع مجالاً للشك بأن الصور حقيقية وصادقة ويمكن بثها، وإن كان هناك شك؛ فإن الكثير من المؤسسات الإعلامية تلجأ إلى عدم بث تلك الصور؛ فالمسألة تعتمد على العقل والأداء التحريري".
طرحنا سؤالاً على الدكتور / طلعت عفيفي الخبير التربوي والأستاذ بجامعة الأزهر، هل تؤيد عرض المشاهد الصارخة في الإعلام؟ (مثل مذابح الكيان الصهيوني ضد إخواننا في فلسطين)؛ حيث إن البعض يرفضها لتأثيرها السلبي على الأطفال؟
فأجاب: ليس كل المشاهدين للتلفزيون من الأطفال، الأطفال شريحة من شرائح المجتمع التي تشاهد هذه القنوات، وتشاهد هذه المآسي، فمن الممكن للأب أو للأم أن يجنّبوا أطفالهم رؤية هذه المشاهد؛ إذا كان لديهم خوف أن تؤثر سلبًا على هؤلاء الأولاد الصغار. وأضاف: لكن لا بد من بيان الحقيقة، لا بد أن يرى العالم كله ما يفعله أعداؤنا بنا، هؤلاء يفعلون ما يفعلون، وينجحون إعلاميًّا في أن يقنعوا العالم بسلامة قضيتهم، ويتحول هذا المجرم الآن في نظر العالم إلى ضحية. وأردف عفيفي قائلاً: نحن الآن في عصر السماوات المفتوحة، والعالم يرى الحدث في وقت حدوثه في الكرة الأرضية ككل، فليس أقل من يطَّلِعُوا على قضيتنا، وأن يشاهدوا ما يُصنَع بنا .
وطرحنا السؤال نفسه على الدكتور محمد نبيل الأستاذ بجامعة القاهرة، فأجاب: نعم أؤيد عرضها، لعلها تستنهض الهمم، وتثير فينا النخوة والنجدة نحو إخواننا المؤمنين في فلسطين، أو غيرها من البلاد الإسلامية التي اغتُصبت أراضيها، وانتُهِكت حرمات الناس فيها، وأُريقت دماؤهم في الدفاع عن أنفسهم وحقوقهم.
وفي الختام كان هذا عرضًا لرأيين متعارضين في هذه المسألة، قمنا بعرض الرأيين في حياد ، ويبدوا أن حجج الفريق المؤيد أقوى من حجج الفريق الرافض لعرض المشاهد الصارخة، والأولى بالرافضين أن يعملوا على وقف عرض أفلام الكرتون العنيفة التي تربي أجيالاً من الأطفال على ثقافة العنف .