ما يريد القارئ العربي أن يعرف عن عمران خان
سألني أحد الأصدقاء العرب، عن تقييمي لرئيس وزراء بلادي الجديد – عمران خان – وهل لديه هوى شيعي أو صوفي؟ فأجبته:
أمّا الأولى، فليس للرجل علاقةً أو خلفيةً بالشيعة. وإن كان لا يخلو من بطانة شيعية. فالقوم إن فاتهم كونُ الزعيم منهم، حيث البلد أغلبية سنية، تداركوه باحتلال المقاعد العليا في الحزب. وقد ظفروا بشيء من ذلك، كحالهم في كل حزب.
على أن الرجل جديدٌ على صراع العرب والفرُس! لم يسبق له صداقة بالسعوديين، كما سنح لسَلَفِه الديمقراطي نواز شريف، ضيفِ الرياض سنوات نفْيِه على يد پرويز مشرف، وكما سنح لسَلَفَيه العسكريين، ضياء الحق ومشرَّف، الذين عُرِفا بانحيازهما إلى "الأصدقاء السعوديين" على حساب علاقتهما ب"الجيران الإيرانيين".. ما يجعل الرجل – عمران خان – أمْيَلَ إلى سياسة "الحياد" نحو السعودية وإيران، في صراعهما الذي يشغل المنطقة، مذ الثورة الإيرانية. وهذا يعني ضرورةَ تدفُّقِ "العطاء السعودي" من جديد، إذا ما أريدَ كسب وُدِّ الزعيم الجديد، الطَموح – عمران خان – وهو بصدد إنقاذ اقتصاد بلده، من الهاوية التي أوشك التردي فيها، سيما وهو يعاني قسوة الجفاء الأمريكي، نتيجةَ تحرُّرِ البلد النسبي من "الوصاية الأمريكية" والتقارب غير المعهود مع الصين!
أما الثانية، فلا عهدَ للرجل بالصوفية. والغالب عليه، فيما يخُصُّ تَوَجُّهاتِه الدينية، ميلانُه إلى شخصياتٍ دينية، يجدها مختلفةً عن النمط التقليدي "المَوْلَوِيّ"، كعادة أكثر المثقفين بالبلد. وتعبيرًا لهذا التوجُّه، مرَّت علاقةُ عمران خان – خلال العقدين الماضيين – برموزٍ دينية، أبرزها شخصان: أحدهما ألدُّ أعداءِ الصوفية يسمى جاويد أحمد غامدي، وهو إمام العصرانيين بالبلد، وإن كانت ضعفت علاقته به في الآونة الأخيرة، كما يبدو، لكون الأخير ساءت سُمعتُه كثيرًا، وباتت كافة الفئات الدينية تنظر إليه باشمئزاز. وثانيهما البروفيسور محمد رفيق أختر الملقب "جوگی"، شيخ طائفةٍ صوفيةٍ، لا تمِتُّ إلى العلم الشرعي وأهلِه بِصِلة، وهي تنتظم عددًا غيرَ قليل من دارسي الثقافة الحديثة. وهذا الثاني – "جوگی" – لا يبدو السبب الرئيسي لإعجاب عمران خان به، ميل الأخير إلى الصوفية، وإنما كون الأول زعيماً روحياً حليقًا، متخَفِّفًا من السمات الدينية التقليدية "المَوْلَوِيّة"، يُتْقِن الإنجليزيةَ، ويُحسِن مخاطبةَ عقولِ النُّخَب، من غير أن يُثقِل كاهِلَهم بأعباءٍ دينيةٍ كثيرة. فالأمر راجع – على الأصح – إلى عَجْزِنا نحن – أصحاب السنة – عن جذب الأجيال الناشئة، أكثر منه إلى ميل أولئك إلى اعتناق أهواء المبتدعة. (يُذكِّرك بالشكوى العمرية: جَلَد الفاجر وعَجْز الثقة)!
وبالنسبة لالتزام الرجل الفعلي بالدين، فقد تكون الصلواتُ الخمسُ كثيرةً عليه – مما يبدو من أحواله – وإن كان الأشهَرُ أنه يواظب على صلاته منذ أن تَوَجَّهَ إلى الدين. ولا يزال نَمَطُ حياته أشبه بحياة الشخص الأوربي، حيث يملأ بيتَه أنواعُ الكلاب، وتُمثِّل حشوده الحزبية، مخالطةً مُستَقبَحةً بين الفتيان والفتيات، يتخللها الغناء والرقص، وهو في هذا صاحبُ سُنَّةٍ سيئةٍ، سرعان ما تَبِعَهُ فيها غيرُه من الأحزاب، لكونها تجذب "الشباب"، وتستلفت "كاميرات الإعلام"، الباحثة عن الإثارة! وهو مع هذا، لا تفوته الدندنة حول إعجابه الشديد ب"دولة المدينة" التي أقامها رسول الله صلى الله عليه وسلم، في فجر الإسلام، وتبعه فيها خلفاؤه رضي الله عنهم، تثبيتًا لها وتمديدًا، سيّما "العدالة" و"الرفاهة" اللتين يُعرَف بهما العهدُ العُمَري. كما يَنشُد، في طرحه الإصلاحي، ضرورةَ تحرُّر المسلمين من وصاية الغير، والاعتماد على الذات، والتوكل في ذلك كله على الله، مستشهدًا ب"إن الله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم". كما يدعو إلى التخلص من الزعامات التي كانت وراء "تبعية" الأمة. ومُتَّكأ الرجل في هذه الرؤية التغييرية، التي كثيرًا ما يُحَمِّسُ بها الشباب، آيةٌ من سورة الفاتحة، يستَهِلُّ بها خُطْبَتَه في كل مرة: "إياك نعبد وإياك نستعين"! وقد جعل الآيةَ شعارًا للحزب. وكثيرًا ما يكرر عن نفسه أنه ليس مسلمًا مثاليًا فيما بينه وبين ربه، غير أنه لن يتوانى عن محاربةِ "الظلم" و"الفساد" السائدين في المجتمع، سيّما "العصابة" التي تناوبت فی حکم البلاد، فاحتكرت مواردَها، وتلاعبت بثرواتها، حتى كادت تطحن الشعب، وتموّته جوعًا، رغم خصوبة البلاد، وتوفُّر الخيرات، وفيضان المواهب. ومن أجْل ذلك كله؛ فقد انتدب هو وحزبُه "حركة العدالة"، لملاحقة من يُشهِرهم بأسمائهم، ويطلق عليهم "اللصوص" و"القُطّاع" وغيره من أبشع الألقاب، حتى يُنَكِّل بهم، ويستنقذ منهم الحق المهضوم، ليتنفس الشعب الصعداء. وهذه غايةٌ قطع على نفسه أن يبلغها أو يهلك دونها.
هذا عن حاضره. أما عن ماضيه الذي قضاه في نوادي الغرب، ومراتع الشرق، أيامَ كان من ألمع نجوم "الكريكيت"، ومركزًا للأنباء الساخنة والقصص المغرية التي جرت بها سُنّة "النجوم" – مما ملأت به جرائد تلك العقود – فشيءٌ يُطوَى اليومَ ولا يُروَى، لأنه قَبْلَ هذا "المنعطف الإصلاحي" في حياة الرجل، ولأن الله يغفر ما بينه وبين العبد – على قولِ كثير من مشيديه – ولا يغفر ما بين العباد!
بيد أنه تزوج قبل أشهرٍ، امرأةً محتشمةً في مظهرها، يُذكر من هوايتها السحر والشعوذة، لا تبرح طلاسمَها، ولا تفارقُ يدَها مِسبَحَتُها. آخِرُ غرائبها أنها رأت في منامها، أن تُخلِع نفسها من زوجها الأول، لتصبح زوجًا لرجل تؤمر به، فكان عمران خان! وقد استطاعت أن تقتاد زوجَها الجديد – عمران خان – قبل شهرٍ تقريبًا من وصوله سُدّةَ الحُكم – وعلى غير عادة الرجل – إلى ضريح "بابا فرید الدین گَنْجْ شَکَر" في مدينة پاکپتن، وهو قبرٌ تقصده العوامُ من أقاصي البلاد، متوجّهةً إليه بالدعاء والاستغاثة، وبما هو أسوأ. وقد شاهدنا مقطعًا للفيديو، تداولته مواقع التواصل، يظهر فيه عمران خان زائرًا ضريحَ "بابا فريد گَنْجْ"، حيث تتقدمه زوجتُه المنقَّبةُ، ماشيةً، لتَخِرَّ على الأرض عند وصولها عَتَبَة الحجرة التي فيها القبر، هيئةً تُشبِه السجود، يتبعها في ذلك عمران، ما يُشبِه ساجدًا، غير أن المرأة أطالت هذه الهيئةَ المقزِّزةَ، وقد قام عمران منها معتدلًا بعد ثانية. صرح خان في وقت لاحق، وهو يجيب إحدى القنوات الفضائية حول الحدث، أنها لم تكن سجدةً منه على الإطلاق، حيث لا يَدِين بالسجود لغير الله تعالى كائنًا من كان، إنما كانت تقبيلًا لِلعَتَبَةِ، تعظيمًا للصالحين! هذه هي الوقعة الوحيدة، في حياة الرجل، ما قد يربطه بالخرافة، وكانت – على الأرجح – تحت تأثير هذه المرأة، الغامضة، الطارئة عليه. أما سيرته الأولى، فلم تشهد بذلك.
وإذا صح ما يُنقَل عن تفاؤلِ خان بزوجته الجديدة "المتنسكة"، حيث جاء "وصولُه إلى الحكم" تابعًا ل"قِرانِهما"، بفارقٍ لا يزيد عن بضعة أشهر، وبالأخص، لو تنطلي عليه خدعةُ الشيطان، أنّ لطاعتِه امرأتَه، في مُثُوله بين يدي "بابا فريد"، نصيبًا في إيصاله إلى الحكم – وهي "أمنية عمر" لم تتحقق له مع زوجتيه السابقتين "المتبرجتين" فيما مضى من محاولات – فمن غير المستبعَد، أن يرغب الرجل – خريجُ الأكسفورد – في تَلَقِّي مزيدٍ من جرعات الخرافة، على يد المرأة الخبيرة ب"الروحانيات"، وربما استعانت في ذلك ب"شيوخها"!
أما عن شخصية الرجل، فجِدّيّةٌ في العمل، وقدرةٌ على الاحتمال، واعتدادٌ بالنفس، متمحورٌ حول الذات بعضَ الشيء، يحب البروز، توّاقٌ إلى إنجاز المستحيل، لا يستسلم للفشل، ولا يُحبَط بصياح الساخرين، يستجمع حوله فئامًا مخلصين، محبوبٌ بينهم، مهاب، ينقصه دهاء السياسيين، وتعوزه شطارة البائعين، ما يجعله عُرضةً لأن يُلعَب عليه، انطوائيٌ في حياته الشخصية، ينتمي إلى عائلة متوسطة الثراء، مائلٌ نوعًا إلى البخل، مع كونه عاش حياة البذخ، لطبيعة الأرْوِقة التي مرّ بها، يجمع النقيضين من حب البساطة وحياة النبلاء (الارستوقراطية)، مما يتيح للبعض المُغرض أن يمنَّ عليه بماله فيحتكر وُدَّه، لم يوفَّق كثيرًا في حياته الزوجية، أكثر ثقافته غربية ويحاول أن يُدخِل عليها أمورًا شرقية فيما يتعلق بالحديث والمظهر. يستلهم المثال في معاصريه، من محمد على جناح مؤسس البلد، ومهاتير محمد زعيم ماليزيا الحديثة.
له كاريزما يأسر الشباب، ل"يتجنّنوا" به، فينتصروا له في الباطل كما ينتصرون له في الحق. شيءٌ لم يصل إليه شخصٌ بعد ذوالفقار علي بوتو، في تاريخ البلد، وإن كان الأخير – بوتو – متفوقًا عليه في ذلك!
غير أن إيمانَه بقضية، وقُدرتَه على حشد الناس لها، وبقاءَه مدةً من الزمن يدعو إليها، ويتعرّق من أجلها، تجعله أول زعيم برز في السياسة – بادئًا من صفر، وواصلًا إلى أعلى السُّلَّم – بعيدًا عن كواليس الحكم. شيء لم يتأتَّ لأحد بعد محمد علي جناح. فالزعامات في هذا البلد، بدايتها، إما تدرّجٌ في الوزارات، كما كان لبوتو وشريف (النابتين في حاوية الحكم العسكري)، وغلام إسحاق.. وإما إرثٌ، كما كان لبينظير وزرداري ونجلِهما بلاول.. وإما غصبٌ، كما كان لأيوب، وضياء، ومشرف. ولم يكن للرجل أحد هذه الثلاثة، وهو نادر.
ليس عمران خان من أبناء الحركة الإسلامية، ولا ينطلق – في رؤيتِه للقضايا المحلية والدولية – من المنطلقات الإسلامية، كي نربط به آمالًا دينية. غير أنه وقف في سنوات الماضى عددًا من المواقف الشريفة، رغم استياء اللوبي الليبرالي منه. أهم تلك المواقف: معارضتُه للاحتلال الأمريكي لأفغانستان، وما تلاه من القصف الأمريكي العلني الدامي لمناطق القبائل الباكستانية المتاخمة لأفغانستان، الذي استمر سنواتٍ عديدة، والذي كان بتواطؤ من الحكومات الباكستانية، لما قبضت لقاءه من "دولارات". وكان اللوبي الليبرالي، المهيمن على الصحافة الإنجليزية، الفعّالة في صنع القرار بالبلد، يطلق على عمران خان حينَها "طالبان خان"، لكون معارضته اجتياحَ أمريكا، وانتقادِه اللاذع لعمالة الحكومات الباكستانية لها، ما يدعم "الطالبان" – على قول الليبراليين – ويُغذّي "التطرف" بالبلد! كما يضم سجِلّ عمران خان، دعوتَه لصحفيةٍ بريطانيةٍ، ايفون ريدلي، التي كان إسلامُها في أسر الطالبان، أو نتيجةَ أسرِهم لها، والتي أطلَقت لاحقًا حملةً للتضامن مع عافية صديقي – تلك الفتاة الباكستانية المَنسيّة، التي سلّمها رئيس باكستان العسكري پرویز مشرف، للكوماندوز الامريكي، لتُنقَل لاحقًا إلى أمريكا، وتُعرَّض لأنواع العذاب، ثم تقضي محكمة أمريكية عليها بسجن 86 عامًا.. فلقد دعا عمران خان السيدة ايفون ريدلي إلى باكستان، في بداية حملتها الإعلامية للسجينة عافية صديقي، ونظَّم لها ندوات في مختلف المدن، مما لم يُرضِ أمريكا وأصدقاءها.
وإن كان أعداؤه من بعض الإسلاميين، يُعيرونه ب"صِهر اليهود"، لكونه تزوج بنتًا لملياردير يهودي بريطاني جيمس جولدسمث، يوم كان عمران خان نجمًا لامعًا في عالم النوادي. تطلَّقت المرأة – جمايما جولدسمث – منه لاحقًا، مع ارتدادِها عن الإسلام، الذي اعتنقته عند زواجها منه، وقد أنجبت له ولدين – وليس له غيرهما – ثم رجعت بهما إلى بريطانيا، لتنشئهما في معاهد التعليم الراقية، مع إبقائهما على ديانة أبيهما – الإسلام – وهما ينزلان إلى باكستان لزيارة والدهما من حين لآخر. تبقى المرأة صاحبةَ فضلٍ عليه في أمور كثيرة، وهو الآخر يحاول أن يرد معروفها بما يستطيع. آخر ذلك: أنه سافر قبل سنتين إلى بريطانيا، ليدعم حملةً انتخابيةً، أطلقها شقيقُ مطلَّقتِه، زاك جولدسمث، المرشح لمنصب عمدة لندن. والأجدر بالذكر، أن معارض جولدسمث في هذه المعركة الانتخابية، كان مسلم من أصل باكستاني، صادق خان، الذي استطاع أن يهزم زاك، ليصبح أول باكستاني يتبوأ مقعد عمدة لندن!
أما عن سياسته داخليًّا، فلا شك أن عمران محاطٌ بالعقول الليبرالية "المتأهبة"، وإن كان هو نفسه يلزم "الحيادَ" تجاه العنصر الإسلامي والليبرالي داخل حزبه، بل ويحاول الحِفاظ على "التوازن" بينهما، ما وجد لذلك مُتَّسَعًا. بيد أن ثقافته الشخصية، والخلفية الاجتماعية التي نَبَتَ منها، والأجواء التي يأنسها.. كُلُّ ذلك ربما انحدر به نحو التشاكل مع غير الإسلاميين الموجودين حوله، لينفسح لهم الطريقُ – بدورِه – إلى أعالي الهَرَم. ومهما كانت الاسباب، فلا نرى حوله – أي في الصف الأول من قيادات عمران خان – إلا أحدَ الثلاثة: علمانيّ قُحّ لا يكاد يستُر عورتَه، وشبهُ علماني، وغيرُ علماني في توجُّهِه الشخصي، لكنّه غير مبالٍ بما يجري بين "الأسلمة" و"العلمنة" بالبلد. على أن الرجل نفسه يُعتبر من الصنف الثالث. أما إسلاميّ؟ فقد نجده في الصف الثاني أو الثالث من قيادات الحزب، وبعددٍ لا يدعو للتفاؤل. وإن كنا لا نستبعد – مرةً أخرى – "عجزَ الثقة"، فالإسلاميون في هذا البلد بحاجة إلى أن يُنْموا كفاءاتهم السياسية، ويُحسِنوا اصطيادَ الفرص. وليس من الكياسة أن نجعل اللوم كلَّه على الطرف الآخر، ونُبَرّئ أنفسنا من تبعة ما يحدث.
جدير بالذكر، أن العلمانيين فطنوا في وقتٍ مبكّر، أن عددَهم الضئيل لا يُسعِفهم لو أقاموا حزبًا خاصًّا لهم في البلد، وأنهم لو فعلوا ذلك أضاعوا جهدَهم وبدّدوا طاقتَهم، ورماهم خصمُهم "الإسلامي" خارج الحلبة. ولذا؛ قرَّروا أن يكون لهم نشاطٌ مبدِعٌ مميَّزٌ، في الأحزاب الجماهيرية العملاقة – كحزب نواز شريف، وحزب عمران خان، وغيرهما من الأحزاب ذات التيار الشعبي العام – التي لا تُميّز عند تجنيدِها بين العلماني والإسلامي. وبهذا، وصل القومُ إلى أعلى الهرم في كل حزب – رغم قِلّتهم – فصاروا لا يضرُّهم إن جاء هذا الحزبُ في الحكم أو ذاك، فقد أعَدُّوا عُدّتَهم لأي سيناريو يعترضهم، وحسبوا حسابَهم لكل حدث، وأمَّنوا رِبحَهم في كل صفقة. ولو ندب الإسلاميون عُشْرَ عددِهم لِما يفعله خصمُهم، من نشاطٍ مميَّز داخل الأحزاب الجماهيرية العملاقة، التي تفتح أبوابَها للعلماني والإسلامي على السواء – مع التركيز على إنماء قدراتهم – لوقف الإسلاميون اليومَ على صعيدٍ أفضل، في معركتهم هذه الحضارية، المصيرية. لكنَّهم أبَوا، إلا أن يخوضوا السياسةَ جماعاتٍ أو تحالفاتٍ "إسلاميةً" مهمَّشة، ليخرجوا منها كل مرة بخُفَّي حُنَين، تاركين الأحزابَ العملاقةَ، التي ستكون الحكومةُ والمعارضةُ منها، ساحةً ينفرد بها العلمانيون. فلا عجب إذن، أن تجد "علمانيين" يتحكمون في الحكومة، و"علمانيين" يتصدرون في المعارضة، بل تجد البلدَ، باديَ الرأي، كله "علمانية تصول وتجول"، مع أن القوم لا يبلغون عُشرَ عُشرِ الإسلاميين في البلد، والمجتمع كله يحب الإسلام! فالعبرة ب"القلة" التي تمتطي ظهرَ الأغلبية، وليس "الكثرة" التي تعجز عن دفعها! والشطارة أن تُقدّم أجَنْدَتَك بمكتسبات غيرك! هكذا خلق الله الدنيا: (ليتخذ بعضُهم بعضًا سخريا). فَلَيتَنا أدركنا ذلك، وفَكَّرنا بُرهةً "خارج الصندوق"، كما يقول الإنجليز.