• - الموافق2024/11/27م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
عمارة المساجد (بناء المساجد وصيانتها)

عمارة المساجد (بناء المساجد وصيانتها)

 

الحمد لله العلى الأعلى؛ { الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى } [الأعلى: 2 - 5] نحمده حمداً كثيراً، ونشكره شكراً مزيداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك؛ فتح أبواب الخيرات لعباده، ونوع لهم الطاعات، فمن أغلق عليه باب من النوافل فتحت له أبواب، فضلا ورحمة من الرحيم الوهاب، ولا يهلك على الله تعالى إلا هالك، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ حض على تشييد المساجد وعمارتها، وبين ما فيها من الأجر والثواب، وكان أول عمل قام به بعد هجرته إلى المدينة بناء المسجد؛ صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وقموا لأنفسكم من الخير ما تجدونه أمامكم؛ فإن الدنيا متاعها قليل، وهي دار الغرور، فلا يغتر بزينتها إلا مغرور { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ } [فاطر: 5].

أيها الناس: من أعظم ما يتقرب به المؤمن لربه سبحانه أن يبني مسجدا أو يشارك في بنائه؛ وذلك لأن المساجد بيوت الله تعالى في الأرض، وفيها يعبد ويوحد ويذكر اسمه، ويتلى كتابه، وفيها ينشر العلم ويرفع الجهل، وفيها المواعظ والخطب والتذكير، فتلين القلوب بعد قسوتها، وتتنبه من غفلتها، وكم من توبة كانت بسبب المسجد وما يمارس فيه من أنواع الطاعات والتعليم والتذكير.

وعامر المسجد أو المشارك في عمارته قد وضع مالا ونسيه، ولكن يبقى أجره على مرَّ الأزمان، لأن المسجد وقف، فيبقى الأجر ما بقي الوقف.

ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وأراد بناء مسجده كانت أرضه حائطا لبني النجار، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «يَا بَنِي النَّجَّارِ ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ هَذَا، قَالُوا: لاَ وَاللَّهِ لاَ نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلَّا إِلَى اللَّهِ» رواه الشيخان، فبالله عليكم كم مضى على وقف بني النجار من القرون، وكم صلى في المسجد النبوي من المسلمين، وكم خرج من العلماء والوعاظ والحفاظ؟! لا يحصي ذلك إلا الله تعالى، وأرضه وقف لبني النجار، فكم لهم من الأجر والثواب؟!

ووسّع النبي صلى الله عليه وسلم المسجد النبوي بعد خيبر، والصحابة رضي الله عنهم يعملون معه بأيديهم قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: «كُنَّا نَحْمِلُ لَبِنَةً لَبِنَةً وَعَمَّارٌ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ» رواه البخاري، وفي رواية لأحمد: قَالَ: «فَرَآهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ يَنْفُضُ التُّرَابَ عَنْهُ، وَيَقُولُ: يَا عَمَّارُ أَلَا تَحْمِلُ لَبِنَةً كَمَا يَحْمِلُ أَصْحَابُكَ؟ قَالَ: إِنِّي أُرِيدُ الْأَجْرَ مِنَ اللهِ»

وفي القرآن الكريم ثناء على عمار المساجد { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ } [التوبة: 18] فأثنى سبحانه على عمار المساجد بالإيمان والعمل الصالح، وزكاهم بالهداية.

وتكون عمارة المساجد ببنائها، وتنظيفها، وفرشها، وإنارتها، كما تكون عمارتها: بالصلاة فيها، وكثرة التردد عليها لحضور الجماعات، وتعلم العلوم النافعة وتعليمها، وسائر أنواع الطاعات.

والمخلص في بناء المسجد يجزى ببيت في الجنة كما في حديث عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه قال سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ بَنَى مَسْجِدًا يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ بَنَى اللَّهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الجَنَّةِ» وفي رواية: «بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» رواه الشيخان.

ويدخل في ذلك مساجد الطرق للمسافرين التي عادة ما تكون صغيرة المساحة، ولم تهيأ كتهيئة مساجد الحواضر، لما روى البيهقي من حديث عَائِشَةُ رضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: «مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا، بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، وَهَذِهِ الْمَسَاجِدُ الَّتِي تُصْنَعُ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ؟ قَالَ: وَتَلِكَ»

ومهما صغرت مساحة المسجد فإن صاحبه يستحق ما رتب عليه من الأجر، وكذلك لو اشترك بجزء يسير في بناء مسجد فله أجر ما اشترك به؛ لما في حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِلَّهِ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ، أَوْ أَصْغَرَ، بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» رواه ابن ماجه وصححه ابن خزيمة، والقطا نوع من الطير، ومفحصها هو موضع بيضها.

ومما قيل في معنى الحديث: أَنْ يَزِيدَ فِي مَسْجِدٍ قَدْرًا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ تَكُونُ تِلْكَ الزِّيَادَةُ بمقدار محل بيض القطاة، أَوْ يَشْتَرِكُ جَمَاعَةٌ فِي بِنَاءِ مَسْجِدٍ فَتَقَعُ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ذَلِكَ الْقَدْرُ.

وتوسعة المسجد إذا ضاق بالناس لصحابها خير منها في الجنة؛ لحديث عثمان رضي الله عنه قال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يَشْتَرِي بُقْعَةَ آلِ فُلَانٍ فَيَزِيدَهَا فِي المَسْجِدِ بِخَيْرٍ لَهُ مِنْهَا فِي الجَنَّةِ؟ قال عثمان رضي الله عنه: فَاشْتَرَيْتُهَا مِنْ صُلْبِ مَالِي» رواه الترمذي والنسائي وصححه ابن حبان.

ويجب على من بنى مسجداً أو شارك في بنائه أن يخلص لله تعالى؛ لأن الإخلاص شرط صلاح العمل وقبوله، وجاء النص على ذلك في حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ بَنَى مَسْجِدًا، لَا يُرِيدُ بِهِ رِيَاءً، وَلَا سُمْعَةً، بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» رواه الطبراني. فنص على الإخلاص في بناء المسجد لمظنة وقوع الرياء فيه.

قال ابن رجب رحمه الله تعالى: «وبناء المساجد من جملة الأعمال، فإن كان الباعث على عمله ابتغاء وجه الله تعالى حصل له هذا الأجر، وإن كان الباعث عليه الرياء والسمعة أو المباهاة فصاحبه متعرض لمقت الله تعالى وعقابه».

وينبغي لمن أراد بناء مسجد أن يختار الحي الذي به حاجة شديدة؛ لخلوه من المساجد، أو لازدحامه بالسكان، فتمتلئ مساجده بالمصلين، ومن بناه في مكان خال لم يصل فيه أحد، وقد جَاءَ في حديث وَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ رضي الله عنه أنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ بَنَى مَسْجِدًا يُصَلَّى فِيهِ بَنَى الله عَزَّ وَجَلَّ لَهُ فِي الْجَنَّةِ أَفْضَلَ مِنْهُ» رواه أحمد.

فحري بكل واجد أن يكون له في هذا الباب من الخير عطاء، ببناء مسجد أو أكثر، وحري بكل مسلم أن يكون له مشاركة في بناء المسجد ولو بشيء قليل؛ لئلا يحرم من باب الخير هذا.

وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...

 

الخطبة الثانية

الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وأخلصوا له في أعمالكم؛ ف‘ن العمل لا يقبل إلا إذا كان خالصا صوابا { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } [الجن: 18].

أيها المسلمون:

بناء المساجد المحتاج إليها من فروض الكفاية، فلا يجوز أن يخلو مصر أو قرية يسكنها المسلمون من بناء مسجد فيها.

ومن عزم على بناء مسجد أو المشاركة في بنائه فليختر من ماله أطيبه، فلا يكون مالا حراما أو فيه شبهة، ولا تكون أرض المسجد مغتصبة أو متنازعا عليها أو فيها شبهة؛ لأن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، وبناء المساجد من أطيب الأعمال فلا يختار لها من البقاع إلا أطيبها، ولا من المال إلا أطيبه.

وليحذر أن يبني المسجد على قبر أو يدخل قبرا في المسجد؛ فإن ذلك من أغلظ المحرمات التي كرر النبي صلى الله عليه وسلم النهي عنها كثيرا في حياته؛ لأنها باب إلى الشرك، وأكد عليها قبل موته بخمس ليال فقط، كما في حديث جُنْدَبٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ، وَهُوَ يَقُولُ: «...أَلَا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ، أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ» رواه مسلم.

ثم كرر التحذير منها وهو يعالج كرب الموت كما في حديث عَائِشَةَ، وَابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، قَالاَ: «لَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً عَلَى وَجْهِهِ، فَإِذَا اغْتَمَّ كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ، فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى اليَهُودِ، وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا» متفق عليه. وفي حديث أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ آخِرُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْ أَخْرِجُوا يَهُودَ الْحِجَازِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ شِرَارَ النَّاسِ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ» رواه أحمد.

ولولا خطورة بناء المساجد على القبور، أو إدخال القبور في المساجد؛ لما حرص النبي صلى الله عليه وسلم على التحذير منه، والتغليظ فيه، وكرر ذلك مرة بعد مرة حتى فارق الحياة، وكان من آخر ما نطق به.

وينبغي لمن ابتنى مسجدا أن يتعاهده وملحقاته بالصيانة الدائمة؛ ليكون أبقى له، وأكثر راحة وخشوعا للمصلين، وأكثر لجماعة المسجد؛ فإن المصلين يحتشدون في المساجد المهيأة المريحة، فيكون له أجر البناء، وأجر القيام على المسجد بعد بنائه، مع ما يناله من دعوات المصلين في مسجده. { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [النور: 36 - 38].

وصلوا وسلموا على نبيكم...

أعلى