حـوار مع الشيخ العلاَّمة شعيب الأرنـؤوط
فضيلة الشيخ العلاَّمة شعيب الأرنؤوط واحد من نبلاء المسلمين وعلمائهم في هذا العصر، وله باع طويلة في خدمة السَّنة النبوية المطهَّرة على مدى خمسين عاماً؛ حيث قام بتحقيق عدد كبير من مدوناتها، وعلى رأسها مسند الإمام أحمد، والسنن الأربعة، وسير أعلام النبلاء... وغيرها. وأسس مدرسة راسخة في تحقيق التراث والعناية به وإخراجه بالصورة التي تليق به. وفي هذا الحوار يبشِّرنا فضيلته بأنه يقوم بتحقيق كتاب (فتح الباري) للحافظ ابن حجر. وحرصاً منَّا على نشر الفائدة، ولتسليط الضوء على هذا العالم الجليل كان لنا مع فضيلته هذا الحوار:
بدايةً نســـأل الله أن ينفـــع بكــم وبعلمكــــم وأن يمدكم بالصحة والعافية. فضيلة الشيخ! لقد حققتم عدداً كبيراً من كتب السُّنة النبوية؛ فهل لكم أن تخبرونا متى كانت بدايتكم في تحقيق التراث؟ وكيف بدأت؟
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كانت بدايتي منذ خمسين عاماً عندما حقَّقت أول كتاب، وهو: (مسند أبي بكر الصديق، رضي الله عنه) لأحمد بن سعيد الـمَروزي، ثم بعد ذلك توالت الأعمال. ومنذ ذاك الوقت وأنا أفكر في أن أعمل مَعْلَمَة حديثية (صحيحة وحَسَنة) تكون في كل بيت، لكنني لم أجد أحداً يساعدني على نفقات هذا المشروع الذي قد تبلغ تكلفته أكثر من 15 مليون دولار، ثم بدأنا في مؤسسة الرسالة على قَدْر الوسع الذي أعطانا الله - سبحانه وتعالى - إياه. وأنجزت في هذه الأعوام الخمسين - ولله الحمد - معظم الشيء الذي كنت قد قرَّرته وتصورت أن يكون؛ فقد حققت إلى الآن ما يزيد على 180 مجلداً، وفيها ستكون - بعون الله وتوفيقه - نواة هذا العمل الذي كنت أخطط له منذ خمسين عاماً، وبقي عندي شيء من الكتب التي تحتاج إلى استكمال وتحقيق لكي أستكمل هذا المشروع؛ فقد حققت مسند الإمام أحمد في 52 مجلداً، وحققت صحيح ابن حبان في 18 مجلداً، وشَرْح السُّنة للبغوي في 16 مجلداً، وزاد المعاد في خمسة مجلدات، وهذه كلها كتب حديث، رجعت فيها كلها إلى أصول خطيَّة وتعبت في تعقيبها، ولله الحمد، لكن الله وفَّقني تمام التوفيق؛ فحصلت على أصول لم يحصل عليها مَن كان قبلي من أهل العلم. وكذلك الآن؛ فقد حققت سنن أبي داوود وسنن الترمذي وسنن ابن ماجة، وتم نشرها جميعها. ومن قَبْلُ حققت سنن النسائي الكبرى التي لم تكن مطبوعة. وهكذا وفَّقنـا اللـه - سبحانه وتعالى - إلى هذه الأعمال التي أرجو أن تكون مقبولة عند الله، سبحانه.
إن ما يميز تجربة فضيلتكم، هو أنكم تقومون بالإشراف على فريق علميٍّ يضم مجموعة من المتخصصين؛ وربما كان هذا أحد الأسباب التي ساعدَتكم في إنجاز عدد كبير من هذه المشاريع الموسوعية الكبيرة؛ فما تقويم فضيلتكم لهذا العمل المؤسسي الجماعي الذي تشرفون عليه؟
أما بالنسبة إليَّ؛ فقد بدأت بشكل فردي، لكن لَـمَّا تمثَّلـتُ هذا المشـروع وتصوَّرتـه، وجـدت أنـه من المستحسن أن أُعلِّم غيري. وهولاء الذين يعملون معي غير متخصصين؛ إلا أنهم من أصحاب الدراسة الجامعية؛ فقمت، ولله الحمد، بتدريبهم وتعليمهم، ومن هؤلاء مَنْ عمل معي فترة طويلة من الزمن اكتسب خلالها خبرة جيدة، ولولا أنني أنشأت هذا الفريق الذي يعمل معي، ما كنت أستطيع أن أُنجز مثل هذه الكتب التي ذكرتُها لكم، لكن الله يَسَّر لي أناساً طيبين، عندهم دين وعلم أوَّلي، ولكن علم الحديث (دراسته، وتنخيل الرواة، ووَضْع الخطة لكل كتاب) كل ذلك كانت بدايته مني ولا يزال إلى الآن، وهم - بتوفيق الله - يقومون بالأشياء التي أطلبها منهم، وربما أصبح بإمكان بعضهم أن يتفرد بنفسه؛ ففي هذه المدرسة قمت بتدريبهم مدة خمسين عاماً؛ فمنهم من يعمل عندي منذ ثلاثين سنة، ومنهم من يعمل منذ خمس وثلاثين سنة، وبعضهم أصبحوا في عِداد من يستطيع أن ينفرد بخدمة السُّنة النبوية الشريفة.
ما أبرز العقبات التي واجهتكم في هذه الأعمال والبرامج خلال خمسين عاماً في خدمة السُّنة النبوية؟
بالنسبة إليَّ لم يكن هناك عقبات تُذكر، إنما كان الطريق معبَّداً. وإذا أراد الله شيئاً هيأ أسبابه؛ فقد هُيئت لي جميع الوسائل؛ فالدار التي أعمل فيها كانت تُطلِق يدي؛ فأتخيَّر الكتب والأشخاص الذين يعملون معي من هؤلاء الأبناء والأساتذة، لكن واجهتنا بعض الصعوبات في جَلْب المخطوطات ودراستها ومعرفة ترتيبها وتاريخها والقدرة على قراءة الخطوط المتنوعة التي كتبها المتقدمون، مثل: خط النسخ، والخط الفارسي، وهذه عقبات بسيطة تُذلَّل ولله الحمد، وما أذكر أنني طلبت شيئاً إلا وفقني الله إليه. وأذكر أنني لَـمَّا حققت كتاب (مُشِكــل الآثــار) بقــي جــزء واحـد لم يتيسر لي، فقلت: لا بد أن يكون هناك جزء ثامن. وفي المتحف البريطاني في لندن كان يوجد جزء من هذا الكتاب، قيل: إنه من اختصار ابن رشد الفقيه المشهور، فطلبته بواسطة أخ فاضل، فأهداني الكتاب، وإذا به هو الجزء الثامن المتمم للكتاب. وكم كانت فرحتي غامرة عندما رأيت هذه النسخة الأصل؛ لقد هيأ لي رب العالمين أناساً طيبين من كل بلـد يمدونني بالأصــول الخطية إذا احتجت إليها. أما بالنسبة إلى العلم، فهذا علم أتقناه، إن شاء الله؛ فقد شَكَرَنا كثير من الناس على حُسْن إخراجنا وعلى المعلومات التي ذكرناها في هذه الكتب. وإن شاء الله نكون من المقبولين عند الله ثم عند الناس.
شهدت الساحة العلمية في العقود الثلاثة الأخيرة - بفضل الله - نهضة محمودة في تحقيق التراث الإسلامي؛ حيث نُشر عدد كبير من كتب التراث الإسلامي؛ إلا أن هذه النهضة شابتها بعض الشوائب وتصدَّرَ لها بعض من لم يُحسِن هذه الصناعة؛ فما تقويمكم لهذه النهضة؟
أنا أرى أنه لا ينبغي أن يُقدِم على تحقيق الكتب إلا من استكمل أدوات البحث والتحقيق، وليتق الله قبل كل شيء، ثم بعد ذلك يمارس الدور الذي يعلمه، وكما يقال: رحم الله امرأً عرف قَدْره فوقف عنده، أما أن يُقدِم على هذا العمل إنسان ليس عنده تصوُّر عن هذا العمل ولا عنده أهليه لذلك، فليتق الله ربه؛ لأن هذا تراث تجب المحافظة عليه.
كثير من الناس المبتدئين يظنون بأنفسهم أنهم يَصلُحون لهذا العمل، لكنهم ما يلبثون أن ينقطعوا، ويكون نِتاجُهم العلمي غير موفَّق. وهذا يستدعي أن يبدأ طالب العلم مع أستاذ مارس هذا العلم حتى يعطيه خصائصه وما يحتاج إليه من علم وخبرة؛ لأن المرء يحتاج إلى فترة طويلة من الزمن حتى يستطيع أن يخـوض غمـار هـذا العلـم؛ فأنا - مثـلاً - بقيت عشـر ســـنوات أمارس هـذا العمــل ولـم أُظْهِـر للنـاس خلالهـا ما صنعت. وعندما آنسـت من نفسـي أنني أستطيع أن أقف على قدميَّ وأن أرفرف بجناحيَّ، أقدمت على هذا العمل. وكما قالت العرب: (قبل الرماء تُملأ الكنائن).
إن المتابع يلاحظ أن بعض صغار طلبة العلم ممن لم يتمرسوا في هذا الفن، يتجرؤون في (التصحيح والتضعيف) وقد لا يتورَّع بعضهم عن تخطئة أئمة العلم المتقدمين: كابن معين وأحمد بن حنبل، فضلاً عن المتأخرين كابن حجر؛ فما رأي فضيلتكم في هذه الظاهرة؟
هؤلاء مسؤولون عند اللــه عـن هذا التصرف. وأنا لا أتحمَّل تبعتهم؛ ذلك أنني لا يمكن أن أضع اسم أستاذ من الأساتذة الذين يعملون عندي إلا بعد أن أستوثق من عِلْمه وبعد أن يمضي عندي فترة طويلة من الزمن، وكما قال الشاعر:
وابنُ اللبونِ إذا ما لُزَّ في قَرْنٍ
لم يستطع صولةَ الأُسْد القناعيسِ
إن هذا (تحقيق). ويحتاج إلى علم بالعربية والحديث والتفسير والفقه والتاريخ؛ لأن المحقق يقف من الكتاب بعد أن يُظهرَه كما أراده مؤلِّفه؛ يقف منه موقف الناقد، ومن كان كذلك لا بد أن تكون رُتبته في العلم فوق هذا الذي ألَّف الكتاب حتى يستطيع أن ينقده في المواطن التي أخطأ فيها؛ لذلك أنا لا أجيز أبداً لطالب علم مبتدئ أن يتصدى لمثل هذا العمل، بل لا بد أن يتريث حتى يشعر بقرارة نفسه أنه يستطيع أن يخوض غمار هذا البحث.
بتنا نلحظ في الآونة الأخيرة تطاوُل بعض المعاصرين على سُنة النبي صلى الله عليه وسلم من الذين يردِّدون أباطيل المستشرقين بأن السُّنة النبوية لم تُحفظ كما ينبغي عبر الأجيال، ونحو ذلك من الآراء المنحرفة؛ يثيرون هذه الشبهات بقصد الطعن بالسُّنة النبوية؛ فما قول فضيلتكم بأمثال هؤلاء؟
هؤلاء أصحاب نِحلَة فاسدة، ولا ينظرون إلى الحديث بعين الإنصاف والعقل، ولا يسيرون السيرة التي انتهجها العلماء المتقدمون؛ لذلك ليس عندهم منهج في البحث. ونحن نقول: كما حفظ الله القرآن فقد حفظ السُّنة النبوية. وهذا الطعن في السُّنة النبوية وفي طرائق المحدثين، لم يأتِ من عند المسلمين وإنما جاء من قِبَل المستشرقين الذين يريدون أن يسيئوا إلى الإسلام، وقد رد عليهم غير واحد من أهل العلم.
إنَّ كل من قرأ كُتب السُّنة يستيقن بصحة ما فيها؛ لأن البرهنة على ذلك تقوم على الدراسة (السَّنَدية والنقدية)؛ أي: دراسة السند ونقد المتن. وهـذا مـا فعلنـاه - بفضل الله - في كل الكتب التي خرَّجناها؛ فلذلك لم يستطيعوا أن يردُّوا علينا؛ فأنا - مثلاً - حتى هذه اللحظة ما أعرف أن أحداً رد عليَّ: لا من المستشرقين ولا من المسلمين الطيبين المخلصين؛ لأنني - إن شاء الله - وفيت البحث حقه وأتيت بالحجج التي تُقنع كل واحد منصف.
إن هؤلاء الذين يطعنون في السُّنة إنما يطعنون ببعض هذه الأحاديث ولا يطعنون بالسُّنة كلياً، وأما من يطعن بالسُّنة كلياً، فهذا لا يعرف ميزة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يقول الله الحق - تبارك وتعالى - فيه: {وَأَنزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: ٤٤]؛ فبيان الرسول صلى الله عليه وسلم هو: تقييد المطلَق، وتخصيص العام، وتفصيل المجمل، وثمة أحاديث تؤكد المعنى الموجود في القرآن الكريم أو تُشرِّع أشياء لم تأتِ في القرآن الكريم بصورة مفصَّلة وإنما وردت بصورة عامة. وهذا شيء يعرفه الصغير والكبير ممن يدخل في غمار هذا البحث ويتصدى له.
ما ذا تقول لبعض المشتغلين بالفقه الإسلامي: من الدعاة وغيرهم ممن ليس له عناية بتصحيح الحديث وتضعيفه؛ حيث يُفتون ويبنون أحكاماً دون أن يراجعوا درجة الحديث من حيث الصحة والضعف؟
هذا الأمر لا يجوز أن يُقدِم عليه من قلَّ زاده العلمي. وإذا كان الشخص يصل مرتبة المتخصص في الفقه، فيجب أن يكون معلوماً عنده أن الحـديث الضعيف لا يُبنى عليه حُكْم؛ فالعلماء كلهم قالوا: لا يجوز أن يعتمد الإنسان في الحــلال والحـرام على الحـديث الضـعيف أو الموضوع؛ ولذلك فإن من فعل ذلك يكون مقصِّراً في بحثه وسيجد كثيراً من العلماء يردُّون عليه ويبيِّنون خطأه في هذا الذي انتهى إليه.
لذلك نحن نقول: لا يجوز للمسلم أن يخوض غمار بحث ما من البحــوث إلا بعـــــد أن يتأكـد من صحـــة النصــــــوص التي يستشهد بها ويكتبها؛ ذلك أن هذه فريضة ربانية ليست منــي أو مــن فــلان وفلان؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث»، ويقـول صلى الله عليه وسلم: «اتقـوا الحديث عنــي إلا ما علمتــم». وهذا الحديث وإن كان ضعيــفـاً إلا أن ثمة أحــاديث أخــرى تعضــده. ومــن يـريــد أن يُقْدِم على هذا الأمر ينبغي أن يكون مخلصاً متجـــــرداً طـــــالباً الحقيقـة، ثــــم عليــه أن يُقدِّم عـــــلى هـــــذا البحـــــث تخصصــــــــات في علم الــــعــربيـــة والحديث والمصطلــــح والأصـــــول وكل الأشـــياء التـــي لا بــــــد أن يستكملهـــا البـــاحث حتــــى يكـون مؤهَّلاً للنقــد.
ما هو المشروع الذي تقومون به الآن حتى نُبشِّر به القراء؟
منذ فترة ليست بعيدة خرج لي كتاب سنن أبي داوود، وكتاب سنن الترمذي، و كتاب سنن ابن ماجة، وأيضاً كتاب الاختيار (تخريج أحاديثه والرجوع إلى أصل خطي للكتاب)، والآن نعمل في كتاب (فتح الباري) لابن حجر؛ ويتضمن عملنا فيه: أننا جلبنا نسختين خطيتين منها نسخة (السِّندي) عالم المدينة المشهور. وكان عملُنا فيه: أن نُخرِّج الأحاديث التي استشهد بها الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في كتابه؛ فإذا كانت صِحاحاً تركناها كما هي دون أن نبيِّنها وكأننا وافقنا المؤلف على ذلك، وإذا كان فيها ضعف نعلِّق عليها. وسوف يخرج في عشرين مجلداً - بعونه تعالى - حيث سهَّلنا للقارئ هذه المعلومات الضخمة الدسمة التي توجد في هذا الكتاب، إن شاء الله.
متى ينتهي هذا المشروع بإذن الله؟
الآن وبعد أن اقتربنا من النصف؛ فسيكون في الأسواق خلال سنة ونصف إذا وفقنا الله، سبحانه وتعالى. وأظن أن هذه الطبعة ستكون هي الأُولَى والأخيرة ولا أعتقد أن أحداً سيزيد عليها شيئاً بعدها أبداً، إن شاء الله.
لعلنا نختم هذا الحوار الماتع مع فضيلتكم بسؤال يسير؛ وهو: بعد هذا العمر المديد في خدمة السُّنة الشريفة، ما هي وصيتكم لطلبة العلم؟
وصيتي لطلبة العلم أن يبدؤوا مقلِّدين ثم يستمروا كذلك حتى يصيروا متَّبِعين، والتقليد: هو أَخْذ قول الآخر بدون دليل، وهذه فترة لا بد منها، ثم يمر بعد ذلك في فترة الاتِّباع: الذي هو أَخْذ قول الآخر بدليله؛ أي: لا بد للمتخصـص أن يمارس العلم دائمـاً حتــى آخـر لحظـة من حياته؛ فالعلـم لا ينتهي، والإنسان كلَّ يوم يزداد علماً، ويجب عليه أن يصـل إلى الحقيقة وأن يفتتها ويعلنها للناس حتى يعملوا بها. وطَلَبُ العلم - كما يقولون - مستمر من المهد إلى اللحد، هذا بالنسبة لمن يريد أن يتخصص. والذي لا يريد أن يتخصص يكفيه أن يسأل أهل الذكر. أما أن نسمح لطالب العلم بأن يقلِّد بصورة مستمرة كما نرى ذلك في كثير من الطلبة، فهذا لا يجوز.
إن طالب العلم الذي سيتخصص في الإسلام لا بد له أن يتَّبع، ولا بد له أن يجتهد، ولا بد له أن يصل إلى الصواب من هذه الأقوال التي تكون موضع خلاف، ولا يجوز لطالب علم أن يقلد بعد أن درس الفقه الإسلامي فترة من الزمن تؤهله لمعرفة الصواب من الخطأ.
لكـن المشـكلة الآن أن كثيـــراً من طلبـة العلـم لا يوجد عندهم الجَلَد ولا طـول النَّفَـس؛ ولهذا تجده يضعف كثيراً.
إن هذا العلم فحل لا يناله إلا الفحول من الرجال؛ فلا تظن أن طالب العلم يعيش لنفسه، بل ربما ينسى أَكْله وشرابه؛ ذلك أنه إنما يعيش لغيره من الناس؛ ليعلِّم الناس ويفقههم، وهذا دربه طويل ولا بد له من الصبر. ولكن ماذا أصنع إذا كان الطلبة يكسلون وهم يقفون في نصف العلم أو في ربع العلم؟
لا يجوز لطالب العلم أن يقول: أنا انتهيت من العلم، ولكنه ينقل نفسه من مرحلة إلى مرحلة إذا كان يأنس بذلك. وهو يعرف ذلك إذا كان جلس مع أهل العلم وتحدَّث بالآراء التي انتهى إليها؛ عند ذلك فقط يشهد له الناس بالمعرفة وبهذا العلم، والله - عز وجل - يوفقه لمتابعة السير في هذا المضمار حتى يصل - إن شاء الله - إلى غايته؛ لأن العلم ليس له نهاية؛ إذ لا يستطيع الإنسان مهما أوتي من العلم أن يقول: أصبحت أعلم كل شيء؛ فهذا سيدنا موسى صلى الله عليه وسلم لما قال: أنا أعلم كل شيء بعث الله له سيدنا الخضر - عليه السلام - وعلَّمه أشياء ما كان يعرفها، كما جاء في سورة الكهف.
شـكراً لكـم فضيلة الشيخ، ونســأل الله - عز وجل - أن يجعلكم مباركين أينما كنتم وأن يجعلكم مفاتيح للخير مغاليق للشر.
أسأل الله أن يجزيكم الخير أنتم أيضاً، ونأمل ممن انتفعوا بهذه الكتب أن يتحفونا بدعوات صالحة في ظهر الغيب؛ تلك التي لا ترد.