لقاء ترامب عباس: تطبيق الإملاءات الصهيونية أولا
تدل كل المؤشرات على أن الخطوات التصعيدية غير المسبوقة التي اتخذها رئيس السلطة محمود عباس مؤخرا ضد قطاع غزة لا علاقة لها مطلقا بحرصه على انهاء حالة الانقسام الداخلي، بقدر ما تندرج في إطار سعيه للتدليل على استعداده لأداء الدور المطلوب منه ضمن الحرب على "الإرهاب" التي أعلنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
لكن مشكلة عباس الكبيرة تكمن في أن ترامب يصر على تعريته، حيث أنه يريد أن تشمل خطواته ضد "الإرهاب" كل الفصائل الفلسطينية وليس فقط حركة "حماس"، وضمن ذلك قطاعات واسعة من حركة "فتح"، علاوة على أن جغرافية هذه الحرب لن تقتصر على القطاع، بل ستشمل الضفة الغربية أيضا، وفق المنطق الأمريكي.
فقد كشف موقع "وللا" الإخباري الصهيوني أمس النقاب عن أن المبعوث الأمريكي للمنطقة اليهودي الحريدي جيسين غرينبليت التقى عباس في رام الله قبل شهر ونصف وأنذره بأن تشمل حربه على "الإرهاب" كل الخطوات الي تضمن تجفيف منابع المقاومة الفلسطينية، وضمن ذلك المس بقطاعات واسعة داخل حركة "فتح"، التي يقودها عباس.
فحسب منطق جيسين، الذي نسق مطالبه مسبقا مع ديوان رئيس الحكومة الصهيوني بنيامين نتنياهو، فأن السلطة مطالبة حاليا بقطع المرتبات التي تمنح شهريا لجميع أسرى حركة "فتح" في السجون، كسائر الأسرى، والتوقف عند تقديم المخصصات المالية لعوائل الشهداء والجرحى من حركة "فتح" كما هو الحال بالنسبة لأولئك المنتمين للحركات الفلسطينية الأخرى، على أن يشمل الضفة الغربية وقطاع غزة.
يعي عباس طابع الخطورة التي تنطوي عليها الاستجابة لهذا الطلب، حيث أن تلبية هذه المطالب تعني استثارة غضب قاعدة عريضة من جماهير حركة "فتح"، وهو ما قد يعجل بنهاية السلطة، سيما وأن عباس يواجه أصلا مخطط واسع يعكف عليه خصمه اللدود محمد دحلان، الذي يقطع الليل بالنهار ساعيا لاستقطاب قطاعات واسعة من الحركة لصالحه.
من هنا، فأن عباس استجاب في المرحلة الأولى جزئيا لمطالب الإدارة الأمريكية، فقام بالمس بمخصصات الأسرى والشهداء والجرحى في قطاع غزة بالإضافة إلى تقليص رواتب موظفي القطاع المنتسبين لدوائر السلطة الأمنية والمدنية، بغض النظر عن انتماءاتهم، على أمل أن تقنع هذه الخطوة ترامب، سيما عشية اللقاء الذي سيعقده معه مطلع مايو القادم.
لكن على ما يبدو، أنه لا عزاء لعباس، حيث أن ترامب يبدو مصمما على إملاءاته بأن يدلل عباس على جديته في الحرب على "الإرهاب" من خلال استهداف جميع الأسرى وعوائل الشهداء والجرحى من كل الفصائل وفي الضفة الغربية كما في قطاع غزة.
وقد تبين أن نتنياهو كلفه سفيره في واشنطن رون درمير الطلب من صهر ترامب ومستشاره اليهودي الحريدي جاد كوشنير أن يجعل على رأس جدول لقاء ترامب عباس، مطلع مايو القادم، قضية استحقاقات الأسرى والشهداء والجرحى من كل الفصائل.
وبناء على طلب الكيان الصهيوني فأن ترامب سيطالب عباس بالتزامات محددة للتدليل على "استنفار السلطة في الحرب على الإرهاب"، أبرزها الخطوات ضد الأسرى وعوائل الشهداء والجرحى، بزعم أن هذا السلوك "يعزز بيئة الإرهاب".
لكن الأمور لا تقف عند هذا الحد، حيث أن كلا من تل أبيب وواشنطن لا تريدان أن تمنحا عباس أي هامش مناورة، بل بادرتا إلى خطوات أخرى لإحراجه بشكل واضج وجلي من خلال إعداد تشريعات قانونية تقنن فرض عقوبات أمريكية وصهيونية على السلطة في حال واصلت تقديم الدعم المالي للأسرى وعوائلهم.
فبناء على طلب تل أبيب، فأن أعضاء في مجلس الشيوخ الأمريكي يعكفون حاليا على إعداد مشروع قانون يلزم الإدارة الأمريكية بوقف دعمها المالي للسلطة الفلسطينية في حال واصلت تقديم الدعم المالي للأسرى ولعوائل الشهداء والجرحى الفلسطينيين الذين سقطوا برصاص الاحتلال. ويحظى مشروع القانون الذي قدمه السيناتور ليندسي غراهام بدعم الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ.
وفي المقابل، فقد تم إعداد مشروع قانون سيقدم للبرلمان الصهيوني (الكنيست) يطالب بأن يتم استقطاع أي مبلغ تدفعه السلطة للأسرى وعوائل الشهداء والجرحى من عوائد الضرائب التي تجبيها تل أبيب لصالح السلطة الفلسطينية.
وعلى ما يبدو، فأن قيادة حركة "فتح" في السجون كانت على علم بالضغوط الأمريكية على عباس، وهي تتخوف من إمكانية أن يستجيب عباس لإملاءات ترامب، فكان الإضراب عن الطعام الذي دعا إليه القيادي البارز في "فتح" مروان البرغوثي، والذي يقضي حكما بالسجن المؤبد في المعتقلات الصهيونية، والذي لا يهدف فقط إلى إرغام مصلحة السجون الصهيونية على التراجع عن خطواتها ضد الأسرى، بل مثل رسالة تحذيرية لعباس من مغبة الاستجابة للمطالب الأمريكية الصهيونية.
إن مشكلة عباس تكمن في أن كل ما يعنيه هو تأمين شرعية إسرائيلية ودولية، وتحديدا أمريكية لضمان بقائه، سيما بعدما تملكه الخوف من أن ينجح عبد الفتاح السيسي في اقناع ترامب بنقل تأييده لمحمد دحلان، كما عبر عن ذلك عدد من مقربي عباس.
إن معضلة عباس الكبرى تكمن في أن الأوراق التي يحرقها من أجل تأمين الشرعية الدولية والإسرائيلية آخذة بالنفاذ، بحيث أن ما لديه من رصيد من هذه الأوراق لم يعد يكفي لتغذية جنون التطرف الصهيوني والصلف الأمريكي.
لا يبدو أن عباس بصدد استخلاص العبر والدروس، وهو ماض حتى يلفظه الشعب الفلسطيني ويسدل الستار على حقبته السوداء والمشينة.