التوظيف الصهيوني لمجزرة "خان شيخون"
لا يكتفي الطغاة بإعمال القتل والتدمير في شعوبهم وبلدانهم، لكنهم في الوقت ذاته يحرصون على ذلك بشكل يمنح أعداء الأمة الفرصة لتوظيف جرائمهم لتحقيق مصالح هؤلاء الأعداء في ظروف مثالية.
ويعد بشار الأسد مثالاً كلاسيكياً على هذا النوع من الطغاة؛ حيث إنه على الرغم من أن قائمة أعداء الأمة الذين يفيدون من جرائمه ضد شعبه كبيرة، إلا أن أكثرهم استفادة هو الكيان الصهيوني. ولعل ما يدلل على هذا الاستنتاج هو التوظيف الصهيوني للهجوم الكيماوي الذي نفذه نظام الأسد ضد المدنيين العزل في بلدة "خان شيخون".
فقد وظف الكيان الصهيوني هذه الجريمة البشعة من أجل تحسين مكانته الإستراتيجية والأمنية والسياسية والدعائية.
فهذه الجريمة التي دفعت الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب إلى شن غارة محدودة على قاعدة جوية تابعة للنظام شمال سوريا، لاعتبارات تتعلق بمصالح ترامب الخاصة ومصالح الولايات المتحدة الإستراتيجية، أدخلت معطىً جديداً تمثل في دور أمريكي واضح وجلي في الشأن السوري، وهو ما يعزز من قدرة الكيان الصهيوني على المناورة داخل سوريا.
فبحسب التقديرات الصهيونية الرسمية، فإن هامش المناورة العسكري لتل أبيب بعد القصف الأمريكي سيكون أفضل وأقل ارتباطاً بالتنسيق مع الروس، على اعتبار أنه كلما زاد التدخل الأمريكي في سوريا كان بإمكان تل أبيب أن تعمل على تحقيق مصالحها في أقل مستوى من الممانعة من الأطراف الأخرى.
فعلى الرغم من نجاح رئيس الحكومة الصهيونية بنيامين نتنياهو في بناء شبكة علاقات شخصية قوية ومتينة مع الرئيس الروسي فلادمير بوتين، إلا أنه لا شك بأن الولايات المتحدة تبقى الطرف الدولي الأكثر اتساقاً مع المصالح الصهيونية، وعلى وجه الخصوص إدارة ترامب.
ليس هذا فحسب، فسيتبين لكل من نظام الأسد وإيران وحزب الله أنه على الرغم من أن الغارة بالسلاح الكيماوي على "خان شيخون" قد أفضت إلى سقوط عدد كبير من الأطفال السوريين كما ترغب هذه الأطراف، إلا أنها في الوقت ذاته ستقلص مكانتهما لدى روسيا.
فبحسب التقديرات الصهيونية الرسمية، فإن بوتين الراغب في محاولة تطويق ذيول الخلاف مع واشنطن بعد الغارة بالكيماوي والقصف الأمريكي فإنه سيجد في نتنياهو الشخص الأكثر مناسبة للتوسط بينه وبين إدارة ترامب، بفعل الموقف الحميمي الذي يربطه بالرئيس الأمريكي الجديد وفريق مساعديه، إلى جانب النفوذ الكبير الذي يحظى به لدى الأغلبية الجمهورية في الكونغرس.
وترجح التقديرات الصهيونية أن يتوجه بوتين لنتنياهو لطلب المساعدة، وهو ما يسمح للأخير بعرض قائمة مطالب على موسكو شرطاً للموافقة على لعب دور الوسيط، وعلى رأس هذه المطالب أن تعيد موسكو النظر في علاقاتها مع كل من إيران وحزب الله وألا تسمح لهما بموطئ قدم في سوريا.
ومما يرجح من فرص نجاح نتنياهو في إملاء مواقفه على بوتين حقيقة أن هناك خيبة أمل روسية كبيرة جداً من الأداء العسكري لكل من جيش الأسد والقوات الإيرانية وحزب الله والعصابات الشيعية، حيث تبين لبوتين أنه بدون التدخل العسكري الروسي المتواصل فإنه لا أمل في نجاح النظام في الحفاظ على المناطق التي احتلها مؤخرا بسبب تهاوي الدافعية القتالية لدى قوات الأسد وحلفائه من الشيعة.
وقد أفردت صحيفة "يديعوت أحرنوت" الصهيونية مؤخراً تحقيقاً حول طابع المخاوف الروسية من تبعات تواصل التورط في سوريا بدون سقف زمني، وهذا ما يجعل الروس يضيقون ذرعاً بالكلفة السياسية والدبلوماسية الهائلة التي يدفعونها بسبب هذا التورط.
وحسب القراءة الصهيونية، فإن تقلص المكانة الروسية في سوريا وتعاظم الدور الأمريكي يمس بقيمة روسيا لدى قوى إقليمية مهمة ومؤثرة، سيما تركيا، التي راهن على بوتين على بناء علاقات جديدة معها.
من هنا، فقد تعاظمت الدعوات داخل تل أبيب في أعقاب الغارة لمحاولة التوصل لصفقة شاملة بين الكيان الصهيوني وروسيا والولايات المتحدة تقوم على أساس المكانة الكبيرة التي يحظى بها نتنياهو في واشنطن.
فقد دعت كارولين كليغ، المستشارة الإعلامية السابقة لنتنياهو مجدداً إلى ضرورة أن يستغل نتنياهو الورطة الروسية ويوظف علاقاته القوية مع الإدارة في واشنطن وتأثيره الطاغي على الأغلبية الجمهورية في الكونغرس في التوصل لصفقة ثلاثية الأبعاد. وحسب كليغ، فإنه وفق الصفقة المقترحة، يقوم الكونغرس بإلغاء العقوبات التي فرضها على روسيا في أعقاب احتلال شبه جزير القرم، وفي المقابل تلتزم موسكو بعدم السماح لكل من إيران وحزب الله بموطئ قدم في سوريا، مع العلم أن الكيان الصهيوني لا يعارض بتاتاً بقاء نظام بشار الأسد، بل إن معظم محافل التقدير الإستراتيجي ترى في هذا النظام الخيار الأفضل عند مقارنته بالقوى السنية السورية.
لكن بعض محافل التقدير الإستراتيجي في تل أبيب ترى أن بوتين سيتردد كثيراً قبل الموافقة على أية خطوة قد تقود إلى قطع علاقاته بإيران، على اعتبار أن العلاقة مع طهران تمثل مصدراً مهما لتعزيز الواقع الاقتصادي المتهاوي في روسيا من خلال صفقات السلاح ومشاريع البنى التحتية التي تعكف عليها الشركات الروسية والتي تبلغ أكثر من عشرة مليارات دولار.
في الوقت ذاته، فإن الغارة بالسلاح الكيماوي على "خان شيخون" منحت ماكينة الدعاية الصهيونية الكثير من الوقود لتبرير الجرائم والمجازر التي ارتكبتها تل أبيب وما تزال ضد الشعب الفلسطيني.
فقد تنافست نخب اليمين الصهيوني في الحكم والمعارضة على مهاجمة دول العالم التي تجرأت على انتقاد الكيان الصهيوني بسبب جرائمه خلال حرب غزة 2014، على اعتبار أن هذه الجرائم "أقل خطورة" مما يرتكبه بشار الأسد ضد شعبه.