حازم يروي التفاصيل الصغيرة في سجون اليهود
لهفة واشتياق، حنين وصراخ بلا صدى أمام جماهير غفيرة تجمعت عند بوابة معبر بيت حانون، بعد شعور بالحرمان لعشرين عاماً يبصر النور، ليتساءل من هؤلاء الناس؟ ولماذا جاؤوا لاستقبالي؟ هل هي محبة أم فضول لرؤية أشخاص فقدوا الكثير في مكان مجهول وطريق غير معروف نهايته؟
يجلس حازم شبير (43 عام) وبجانبه سائر وميرا وزوجته هند في بيت بناه والده وكتبه باسمه بالرغم من حكم المؤبد الذي يقضيه داخل سجون الاحتلال على خلفية قتله لجندي صهيوني، فاستشهاد أحمد أبو الريش القائد في حركة فتح واستشهاد صديقه المقرب "جهاد صادق" دفعاه للانتقام لدم الشهداء واتخاذ القرار الحاسم الذي غير مسار حياته كافّة.
وكان قراره لا يتجاوز الفكرتين إما استشهاد وإما العودة بسلام الى غزة، ولكن القدر نطق حكمه ليمضي في غياهب السجون الصهيونية بلباس بني حقير خلف قضبان من حديد وشبْح للجسد وتكبيل للأيادي والأرجل، عدا عن الموسيقى المزعجة و"الكيس الأسود" ذو الرائحة الكريهة على الرأس، ومحكمة جائرة تحكم عليه بالسجن مدى الحياة ليدخل (قسم 12 _زنزانة 6) في سجن عسقلان؛ ليهوي الخبر كالصاعقة على والديه وخاصة أمه التي عانت الأمرين من فراقه، ولكن الصدفة التي جمعته مع شباب غزيين كان على معرفة بهم قبل الاعتقال إضافة إلى بن عمه المتواجد معه في نفس السجن والمحكوم عليه ما يقارب العامين هونّا من ألم جرح بدأ ينزف.
أسرى مثقفون
أحداث مرت بسرعة فوجد نفسه تحت الأمر الواقع وعليه أن يتأقلم مع الحياة الجديدة التي رسمها القدر بخطوط عريضة، فحاول جاهدا تقسيم وقته ما بين قراءة القرآن واستعارة الكتب من مكتبة القسم وممارسة الرياضة وتدوين الأحداث العامة التي تدور خارج أسوار السجن حيث كان يؤرخ اليوم والشهر والسنة للحدث لكي يشعر بالعالم الخارجي كلما أعاد قراءته، وشغفه بالتاريخ دفعه لإكمال دراسته الجامعية في ذلك المجال فأنجز خمسين ساعة دراسية داخل السجن وبعد الافراج عنه التحق بجامعة الأقصى في غزة ليكمل تعليمه.
ويشكل عام 2011 منعطفا مهما على صعيد ملف التعليم للأسرى الذي يزيد عددهم عن 7000 أسير وأسيرة داخل السجون، بعدما أصدرت المحكمة العليا الصهيونية قرارا قضى بمنع الأسرى من إكمال دراستهم الجامعية أثناء أسرهم، وأفاد حازم بأن الأسرى تغلبوا على هذا القرار الجائر عبر استكمال دراستهم بطرق سرية، ووجدوا ضالتهم في بعض الجامعات والمعاهد الفلسطينية التي وافقت على قبولهم بشرط خضوعهم لنظام داخلي يضمن شفافية التعليم ومصداقيته، وبإشراف مجموعة من الأسرى الذين يحملون الشهادات العليا.
حبس انفرادي
ويسترجع حازم الذكريات في زنزانته الانفرادية لمدة عام كامل مع ساعة ترويحية يخرجون فيها الأسرى إلى ساحة السجن ويتعرضون للشمس "الفورة" فيبتسم ابتسامة حزينة وعيون لامعة على الصبر الملهم من عند الله والمصحف الذي لم يفارقه خلال هذا العام.
ويذكر أنه تم حبسه انفراديا في ذات مرة لمدة شهر حيث كشف أمره من قبل أحد السجانين بوجود كبسولة معه تحتوي على معلومات سرية فسارع بابتلاعها حتى لا يثبت التهمة عليه فاعتبرته القيادة التنظيمية لحركة فتح داخل السجن عملا بطوليا بسبب حداثة مدة سجنه التي لا تتعدى الأربع سنوات.
ومن الجدير ذكره أن لفصائل المقاومة الفلسطينية وجود داخل السجون، فالأسرى لهم مرجعية عليا كل على حسب انتمائه، ورتبته في التنظيم قبل الأسر وملابسات أسره.
الزيارات عقاب للأهالي
يتفنن الاحتلال في تعذيب أهالي الأسرى بكل ما أوتي من جبروت، فقبل "انتفاضة 2000" كان الجميع مسموح له بالزيارة من أهل وأصحاب، ولكن بعد الانتفاضة أصدرت مصلحة السجون الصهيونية قرارات جائرة منها منع زيارات الأهالي الا من الدرجة الأولى تحت ظروف قاهرة من تفتيش واذلال ومشقة خلال رحلة الزيارة وقد يُمنعون أيضاً بحجج أمنية واهية، واستبدال الشباك باللوح البلاستيكي وسماعة هاتف أي أن الأسير لا يحق له سماع صوت ذويه، مما كان له الأثر النفسي البالغ على الأسرى وإعلانهم حالة الاستنفار ولبس الزي البني بإرادتهم مع أنه يسمح لهم بخلعه إذا لم يكونوا خارجين إلى المحكمة أو للنقل من سجن إلى آخر، كما امتنعوا بإرادتهم عن زيارة الغرف والخروج إلى الفورة قرابة الأربعة شهور وفي نهاية المطاف وللأسف كان للاحتلال ما شاء .
"كانتين" القهر
وعن حياتهم اليومية يشير حازم إلى أن مصلحة السجون تفرض لكل أسير ثلاث وجبات يوميا تعد داخل مطبخ السجن ويشرف على طهوها أسرى سياسيون ولكن بعد انتفاضة 2000 ساءت الأوضاع وعاقبت حكومة ارييل شارون.. الأسرى بسحب مهام المطبخ ومنحها لأسرى جنائيين صهاينة وعمدت إلى تقليص كميات الطعام في الوجبات لإجبار الأسرى على شراء ما يسد جوعهم من "الكانتين" وهو عبارة عن مقصف صغير يحتوي على أصناف محددة من طعام وشراب ولباس بأسعار مضاعفة تكريسا لسياسة الابتزاز الصهيوني التي تمارسها السلطات داخل السجون .
وسائل تواصل مختلفة
تطورت وسائل التواصل بين الأسرى داخل السجون ومع القيادة التنظيمية خارجه ومع ذويهم للاطمئنان عليهم فبداية كانت الكبسولات هي طريقة التواصل الوحيدة للتنسيق لإضراب معين أو للإبلاغ عن أشخاص مشتبه بهم بالجاسوسية على الأسرى.
وفيما بعد تم تهريب الهواتف النقالة "البليفون" عن طريق الأهالي أثناء الزيارات من خلال الشبك، أو المحامين أو ضباط صهاينة مرتشين أو الأساتذة المراقبين على امتحانات الثانوية العامة أو الأسرى الجنائيين.
و تم إبلاغ حازم ووالده باحتمال الإفراج عنه ضمن صفقة شاليط بمكالمة هاتفية عبر هاتف جوال مهرب، وسميت ب "صفقة الأحرار" التي تم فيها تبادل الأسرى بين حركة المقاومة الاسلامية "حماس" وبين الكيان الصهيوني بوساطة مصرية عام 2011، وتم الافراج عن 1027 أسير فلسطيني مقابل الافراج عن الجندي الصهيوني جلعد شاليط، ولكن لم يرد اسمه بين سطور الاتفاقية.
تواصل الأسرى لا ينقطع مع العالم الخارجي رغم القيود الجبارة التي يفرضها الاحتلال فعلى سبيل المثال المكالمة التي أجراها الأسير المهندس عبدالله البرغوثي(44عام) قائد كتائب عز الدين القسام في الضفة سابقا مع برنامج "أحرار" في محطة إذاعية بغزة من عام(2015) من خلف القضبان ودعا خلالها حركة "حماس" بعدم التسرع في إنجاز الصفقة وأن الأسرى ثابتون صابرون، وهو المحكوم عليه ب(67 مؤبد) إضافة إلى (5200عام).
اليوم الموعود
ويبين حازم أنه وبعد ثلاثة شهور من صفقة الأحرار وقعت السلطة الفلسطينية والاحتلال الصهيوني اتفاقية تقضي بخروجه وجميع أسرى ما قبل "اتفاقية أوسلو" المعقودة في الثالث عشر من سبتمبر للعام 1993، أي 104 أسير لم يتم الافراج عنهم ضمن صفقة شاليط، ولا سيما أنهم أمضوا أكثر من عشرين عاماً داخل السجون، ولكن مشاعر الخوف والقلق أبت أن تفارقه، فالاحتلال لا يؤمن مكره، ولكنه تأكد عندما أبلغه مسؤول قسمه بأنه سيكون من المفرج عنهم، فقام بمهاتفة أخيه الذي أكد له أنه رأى اسمه على شاشة التلفاز، فتسربت السكينة شيئاً فشيئاً إلى داخله، ولكنه أخفى مظاهر الاحتفال في داخله حفاظاً على مشاعر بقية الأسرى.
يسلم العهدة ويرمي خلف ظهره عشرين عاماً من الألم والمعاناة وعتمة السجون وسيارات نقل حديد "بوسطة" نقلته ما بين عسقلان وريمون وبئر السبع وأبو كبير وتل أبيب، هي مدن القهر التي عاش فيها ما يقارب نصف عمره.
هي الحياة
ويقف عاجزاً عن التعبير عندما لامست يداه مياه البحر لأول مرة بعد أكثر من عشرين عاماً، عندما وطئت قدماه أرض الأحبة الذين استقبلوه بحفاوة أدخلت الطمأنينة لقلبه، ومع سرعة السيارة وتجمع المحتفلين بعودته استرجع شعور "البوسطة" ، فنزل إلى شاطئ البحر ولم يصدق أنه عاد ليتنفس بحرية وشعر أنها الحياة التي تركها بالأمس القريب واليوم إليها.
ضرب من الخيال، وفقدان للعقل ولكنه تمالك نفسه ليرى والدته فأكملوا الطريق إلى هناك، حيث تجلس تلك المرأة الصابرة المتلهفة لطفل فقدته ذراعيها في يوم من أصعب أيام الحياة، و"لكن بشراك يا أمي لقد عدت!"، هكذا نطقها حازم وارتمى بين أحضانها ليلقي بحمله الذي أثقل كاهله لسنوات طوال.
سعادة غمرتهما؛ فلا سماعات ولا شِباك ولا ألواح زجاجية باردة. لكن خلف جدران الزنازين لا يزال ألف و ألف حازم لديهم نفس الحلم و الألم.. لديهم نفس الشوق لساعة الحرية التي حرمهم منها خيانة القريب و جبروت العدو الصهيوني...