الاستراتيجية الأمريكية المطلوبة بالعراق
يوائيل جوزانيسكي
معهد دراسات الامن القومي الإسرائيلي
15 سبتمبر 2010م
من أهم التحديات التي تواجه الحكومة العراقية، عندما يتم تكوينها، سوف تكون بناء جيش مدرب ومجهز، يمكن أن يتماشى مع حالة عدم الاستقرار الداخلية على المدى القريب، وأن يصبح مصدرًا للاستقرار الإقليمي على المدى البعيد. وبالوضع في الاعتبار التحديات التي تواجه الدولة العراقية، فيجب أن يكون هناك اتفاق أمريكي عراقي لتقنين العلاقة الأمنية بين الدولتين بطريقة تسمح للعراق في المستقبل بأن يعزل القوة الإيرانية والتركية، بدون أن يصبح تهديدًا لجيران العراق الأضعف قوة.
وفي 31 أغسطس 2010 أعلن الرئيس الأمريكي باراك أوباما انتهاء العمليات العسكرية المسلحة في العراق، والمستمرة منذ ربيع 2003. وطبقًا للاتفاقية الحالية الموقعة بنهاية إدارة بوش، فإن آخر جندي أمريكي من المقرر أن يغادر العراق في تاريخ ليس بعد 31 ديسمبر 2011. وفي تلك المرحلة بدا أن الرئيس أوباما ملتزم بالفعل بسحب كافة الجنود الأمريكيين من العراق بحلول ذلك التاريخ. ولكن ماذا سيكون الوضع حينئذ، وهل العراق مستعد لذلك؟ فمؤخرًا صرح بابكر زيباري قائد الجيش العراقي أنه بدون دعم الولايات المتحدة، فإن جنوده لن يكونوا مستعدين لمواجهة التهديدات الأمنية قبل 2020.
ويبدو أن سحب القوات يعد بالأساس رغبة وإرادة من الرئيس باراك أوباما لاحترام وعوده الانتخابية، بصرف النظر عن مستوى العنف على الأرض أو التقدم في بناء مؤسسات الدولة العراقية، وبخاصة الجيش. وعلى أي حال، فإن أفراد الجيش الأمريكي سوف يكونون مطلوبين في العراق في المستقبل كما كان في الماضي، للحفاظ ولتشغيل أجزاء من أنظمة الأسلحة الأمريكية التي سيتركها الجيش الأمريكي خلفه بعد الانسحاب، بالإضافة إلى الأسلحة الأخرى التي يرغب العراقيون أن يشترونها مستقبلاً.
إن الوجود الأمريكي المستمر في العراق لا يمكن أن يضمن تحسنًا في الأوضاع على المستوى المحلي، ولكنه يمكن أن يؤدي إلى تدريب وتجهيز وتقديم الاستشارات للقوات الأمنية العراقية، وهي كلها أشياء ضرورية لبناء الدولة العراقية. فالعراقيون يشعرون بضغوط كبيرة لمعالجة قضية الإرهاب على أراضيهم بصورة فاعلة ولمنع أية محاولات تدخل خارجية تنتهك أراضيهم، والذي من المحتمل أن يزداد عندما تغادر القوات الأمريكية.
وأي شيء وراء ذلك ـ مثل وضع العراق كقوة إقليمية يمكن أن تدافع عن سيادة أراضيها من الاعتداءات الخارجية والقتال وراء حدود دولتها ـ يتطلب شراكة أمريكية عراقية لعدة سنوات، وهو مصلحة أساسية لكلا الجانبين.
ولكن ما هو نوع الوجود المستقبلي للأمريكان في العراق؟ على الأقل في السنوات الأولى ربما يشبه ذلك العلاقات الأمنية بين الولايات المتحدة وبين دول الخليج الصغيرة، فهذا يعني استئجار قواعد، وبيع الأسلحة المتقدمة، وتخزين المعدات، والتدريب المستمر. ولكن الوجود العسكري الأمريكي في العراق يساعد أيضًا في تخفيف التوترات الداخلية. وهذا ينطبق على الشقاق العراقي الكردي (تجدد العنف يمكن أن يسرع من إعلان الاكراد عن استقلالهم ويزد التدخل التركي في العراق)، بالإضافة إلى الحاجة إلى الوقوف إلى جانب رؤساء القبائل السنية الذين يخشون من أن القاعدة يمكن أن تنتقم منهم بسبب مساعدتهم للأمريكان.
فالوجود الأمريكي المستمر بمرور الوقت، حتى لو كان صغيرًا، يعد هامًا لنجاح النموذج العراقي. وبالرغم من أن الرئيس الأمريكي الحالي تم انتخابه جزئيًا بسبب معارضته للحرب على العراق وبسبب وعوده بانسحاب سريع، فإن الاستثمارات الامريكية من المتوقع أن تكون ذات قيمة كبيرة إذا أصبح العراق حليفًا أمريكيًا في المنطقة. وهذا يمكن أن يجعل من الأسهل على الأمريكيين احتواء إيران، خاصة إذا كان لديها قدرات نووية، ولضمان تدفق النفط من الخليج.
ومن المؤكد أن جيران العراق من العرب يرغبون في أن يروا وجودًا أمريكيًا مستمرًا في المنطقة، بصفة أساسية من أجل ردع إيران، وفي الواقع أن العراق ربما لا يمكن أن يكون قادرًا على الدفاع عن نفسه من الاعتداءات الخارجية، مما يمكن أن يسمح لإيران بالتدخل في الشئون الداخلية العراقية بسهولة كبيرة، ولكن حتى إذا استمر التواجد الأمريكي وأدى ذلك إلى زيادة مصلحة الدولة العراقية وساهم في الاستقرار الإقليمي، فمن وجهة النظر السياسية المحلية فإن الرئيس الأمريكي، حتى بعد انتخابات الكونجرس، سوف يجد من الصعوبة لتوضيح لماذا سوف يترك وراءه جنودًا أمريكيين في العراق، في منطقة صراع أرخى بالشرق الأوسط، مع استمرار المعارك والصعوبات في أفغانستان.
فأي طلب رسمي من الحكومة العراقية الجديدة لاستمرار الوجود العسكري الأمريكي فيما وراء يناير 2012 يمكن أن يجعل من الأسهل على إدارة إوباما فعل ذلك، وأي رفض أمريكي لمثل ذلك الطلب سوف يؤدي إلى زيادة التوترات الداخلية العراقية، ومن المؤكد أنه سيسبب قلقًا للقوى المعتدلة في المنطقة.
والتحدي سوف يكون كيف يمكن إنشاء استقرار أمني داخلي وفي الوقت ذاته بناء قوى دفاعية خارجية فعالة، ليس فقط مخول لها مكافحة الإرهاب، ولكن أيضًا بوجود جيش قومي مدرب ومجهز. والبعض يزعم أن التغير في اسم المهمة الأمريكية في العراق من "عملية الفجر الجديد" إلى "النصح والمساعدة" للقوات العراقية ليس أكثر من مجرد إعادة تسمية، بخاصة مع استمرار الأمريكيين باتخاذهم لدور فعال في إحباط العمليات الإرهابية على الأراضي العراقية بتوفيرهم المساعدات الجوية والاستخباراتية واللوجستية، وأحيانًا مشاركة حقيقية في القتال.
بل إن بناء الجيش العراقي لا يمكن فصله عن بناء الدولة العراقية، فالعراق بعيد كل البعد عن أن يكون وحدة متكاملة ومتماسكة كدولة، خاصة بالمعنى الحديث للدولة، والجيش العراقي إلى حد بعيد يعد نموذجًا مصغرًا للمجتمع العراقي، ومثل المجتمع العراقي فإن الجيش يجب أن يقضي على الفساد ويحسن مستوى القوات ويضمن أن جنوده يتمتعون بالولاء للدولة وليس للجماعات العرقية أو القبلية التي أتوا منها، أو أسوأ، إلى المليشيات المسلحة.
فالعراق يقوم بإعادة بناء جيشه في أعقاب القرار الأمريكي المثير للجدل لحله مباشرة بعد الغزو عام 2003، ولكن حتى الآن فإن الوضع على الأرض غير مشجع: فالجيش العراقي لم يفرض سلطاته على كافة أنحاء البلاد، ومعظم القوات (670 ألف جندي) مسئولون عن الأمن الداخلي، ومن غير المتوقع أن تكون القوات الجوية العراقية قادرة بحلول أواخر 2011 على توفير الغطاء الجوي للقتال ضد الإرهاب، ناهيك عن الدفاع عن الأجواء العراقية. والبحرية ليست مجهزة بصورة كافية أو مدربة للدفاع عن تصدير النفط، أو حتى عن منشآتها الخاصة.
ولكن كيفي ستطيع الجيش العراقي التعامل مع الموجة الجديدة من العنف؟ لقد ترك الرئيس الأمريكي السابق للقوات الأمريكية بالعراق الجنرال أوديرنو الباب مفتوحًا لاستمرار التدخل العسكري الأمريكي في العراق، موضحًا أنه إذا كانت القوات العراقية سوف تمثل حالة من الفشل المذري، فإن الأمريكان سوف يعودون إلى القيام بالأدوار القتالية في العراق. ولهذا الغرض، فإن الأمريكيين يجب أن يظلوا مرنين بصورة كافية للقيام بمهام بعينها في أي لحظة في قواعد الانتشار الستة الباقية. وتهدف الولايات المتحدة لترك قوات دبلوماسية ومدنية ليست كبيرة في العراق، ولكن عشرات الآلاف من المتعاقدين والأطقم الدبلوماسية لا يمكن أن تمنع انهيار الإنجازات الأمنية الأمريكية التي حققتها منذ 2007، ولكن هذا يمكن إنجازه فقط عن طريق التدريب والتجهيز الجيدين للجيش العراقي.
وأمام خلفية زيادة التوترات بين الاكراد والعرب والانتهاك الممنهج للسيادة العراقية على يد جيرانها المعادين، فإن مستقبل العراق إلى حد بعيد يعتمد على فاعلية جيشه في التوافق مع تلك التحديات التي تواجهه، وحتى يستطيع أن يقف على قدميه، فلا يوجد بديل عن الوجود العسكري الأمريكي بالعراق.
وفي مرحلة ما، فإن الجانبين بحاجة إلى إجراء تعديلات على اتفاقيتهم الحالية، أو إنشاء اتفاقية جديدة تضمن التعاون الأمني، مثلما يحدث في مناطق أخرى من العالم، في الوقت الذي يتم تعديلها لتناسب الوضع العراقي المعقد في العراق. فإيجاد صيغة سياسية تعيد تسمية المهمة الأمريكية ـ مثل "قوة حفظ سلام" ، في الوقت الذي تستمر فيه في بناء الجيش العراقي لا تتطلب عددًا كبيرًا من القوات، ويمكن أن تسمح للولايات المتحدة أن تطول شراكة استراتيجية طويلة الأمد مع العراق تجمع بين الالتزام الأخلاقي وبين التفكير الاستراتيجي.