المصالحة السودانية الأمريكية و مخالب الفساد
يقول الأديب الفرنسي فيكتور هوغو "إن الله خلق الماء لكن الإنسان خلق الخمر" في تعبير منصف على أن الإنسان دائماً يجري مع بوصلة شهوته وغرائزه وفي ظل غياب القيم والقوانين يتغلب الأنا بداخله. هذا الأمر تتسع دائرته في بلاد العرب كثيراً لتشمل دولاً ومنظمات بل وحتى حركات ثورية، في عام 2012 زرت العاصمة السودانية الخرطوم، كانت مشاهد لا تزال خالدة في ذاكرتي عن بلد تحرر من الاستعمار قبل ستة عقود مضت، قد أدهشني مناظر الخضرة ومياه النيل الجارية وجمال الطبيعة وسكون النفوس في هذا البلد العربي المضياف، لكني صعقت من البنية التحتية الضعيفة سواء على صعيد مطار الخرطوم أو الكثير من معالم البلاد، تلك إشارة سيئة عن حالة التنمية الاقتصادية، يتحمل مسؤوليتها الحكومة والمعارضة على حد سواء، فلولا غفوة الراعي لما أكل الذئب الحمل.
أعلن البيت الأبيض عن تفاصيل قرار الرئيس باراك أوباما برفع العقوبات المفروضة على السودان منذ عام 1997 على خلفية استضافتها لزعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، وجاء القرار عقب تفاهمات جرت بين الولايات المتحدة و السودان على استمرار السودان بمكافحة " الإرهاب" و مكافحة جيش الرب الأوغندي و الحفاظ على حالة السلام مع جنوب السودان و الحركات المتمردة و استمرار دعم الجهود الإنسانية في مناطق النزاع، لكن سيبقى الرئيس السوداني عمر بشير ضمن قائمة المطلوبين لمحكمة الجنايات الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب وستبقى السودان ضمن قائمة الدول الراعية لـ"لإرهاب".
تقول التقديرات إن السودان خسر خلال سنوات الحصار أكثر من 500 مليار دولار بالإضافة إلى خسائر سنوية تقدر بــ4 مليار دولار بسبب الفساد، كما تم إخراجه من النظام المالي العالمي و فقد القدرة على الاستيراد و التصدير للعديد من الدول سواء على صعيد المعدات الثقيلة أو قطع الطائرات أو خطوط السكة الحديد. يعتبر القرار الأمريكي بمثابة مهلة مدتها 6 أشهر لاختبار نوايا السودان تجاه النفوذ الأمريكي في المنطقة.
اتجهت السودان في الفترة الحالية إلى تصحيح علاقتها مع دول الجوار في خطوة غايتها تحسين اقتصادها، من خلال قطع علاقتها بإيران والتقارب الكبير مع دول مجلس التعاون الخليجي، وتلك الدول هي الحليف الأبرز للولايات المتحدة في المنطقة، وبحسب بعض ما نشر في وسائل الإعلام فإن دولاً خليجية بعينها قد ضغطت باتجاه مصالحة سودانية أمريكية. بدأت برفع الحصار كاختبار لنوايا حكومة السودان وقابليتها لفتح صفحة جديدة مع السياسة الأمريكية في المنطقة قد تسفر عن تغيير سياستها تجاه جعل أراضيها ممراً لعبور قوافل السلاح المتجهة لقطاع غزة، كما تدعي "تل أبيب"، وكذلك التنسيق مع واشنطن في محاربة الجماعات المتشددة في ليبيا وبعض البلدان الافريقية.
ففي "التقارير القطرية حول الإرهاب" لعام 2015، قدّرت وزارة الخارجية الأمريكية أن "استخدام السودان من قبل جماعات مسلحة فلسطينية قد تراجع على ما يبدو" - وهو تغيير مرحب به بالنسبة للسنوات السابقة، عندما كان بإمكان أعضاء حركة "حماس" جمع الأموال والسفر والعيش في السودان. وبالمثل، أشارت الوزارة إلى أنّ آخر شحنة معروفة من الأسلحة الإيرانية من السودان إلى غزة كانت تنقلها سفينة "كلوز سي" التي اعترضتها الطائرات الصهيونية في مارس 2014.
لكن من وجهة نظر أخرى قد تكون المصالحة الأمريكية السودانية المدفوعة خليجياً والتي نشطت في ظل أزمة محتدمة بين دول مجلس التعاون الخليجي ومصر على خلفية وقوف الأخيرة مع إيران في سوريا والعراق، ضربة مؤلمة للنظام الحاكم في مصر، وتمشي في إطار مساعي الخليج للتخلي عن مصر كحليف استراتيجي واستبداله بزيادة نفوذها في البلدان التي تحدها على البحر الأحمر.
استضافة الخرطوم مؤخرا رئيس دولة بيلاروسيا، ألكسندر لوكاشينكو، الذي جاء متحمساً لتوقيع اتفاقيات تعاون بين البلدين، لكن لوكاشينكو أغضب السودانيين حينما أبدى انزعاجه من تدهور الوضع الاقتصادي، وتساءل عن أسباب الازمة الاقتصادية في بلد ينتج 80 طناً من الذهب، وبه أكثر من 100 مليون رأس من الماشية، وتابع مخاطباً النواب (انا اسألكم كم تنتجون من اللحوم المصنعة من هذه الماشية؟!).
فقدت السودان 75 % من عائدان النفط حينما انفصلت عنها جنوب السودان، لكنها لا تزال تتحصل على رسوم سنوية مقابل مرور نفط الجنوب من أراضيها، تزيد عن 600 مليون دولار سنوياً، كذلك تمتلك الكثير من عناصر الطبيعة التي تحدث عنها رئيس بيلاروسيا، في المقابل تحتل السودان المرتبة 165 لهذا العام على سلم الفساد.
لا يمكن أن نقول إن الفساد الموجود في السودان هو انعكاس لحالة فساد موجود في مؤسسات الدولة، لأن الأمر يتعلق هنا بتجربة معممة في العالم العربي، وحتى بلدان شرق أسيا والكثير من دول العالم الثالث، إنها حرب بين القيم والمبادئ الذي يتربى عليها الإنسان وبين شهوانية السلطة والأنا وغياب الضمير والوعي، بالإضافة إلى ضغوط عدوانية تمارسها القوى الكبرى على مستعمراتها السابقة لضمان خضوعها.
بحسب تقرير نشرته الجزيرة فإن المراجع العام للدولة يقول إن نسبة الفساد في دواوين الدولة ارتفعت إلى 300%، وانعكاس حالة الفساد دائماً متعلق ببطيء النمو الاقتصادي وانتشار البطالة والفقر، فكلمة فساد مرادفة للكثير من المعاناة لدى المجتمع، وكلما التزم المجتمع الصمت عن حقوقه وتمكنت السلطة من إضعاف المعارضة عبر رشوتها واسترضائها فإن القابلية لتحول النظام الحاكم إلى نظام إقطاعي وكنتونات اقتصادية ضخمة تكون سريعة جداً، وبالتالي تكون قطاعات الاقتصاد في الدولة مقسمة بين عدداً من الأشخاص ذوي النفوذ لا يتعدى عددهم أصابع اليد، و يبقى المواطن البسيط ضحية هذا الشجع.
قد يرى البعض أن الفصل بين السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية مدخلاً جيداً لمكافحة الفساد، لكن في ظل استشراء الفساد كظاهرة مجتمعية فإن علاج هذه الظاهرة يحتاج عملية تطهير تبدأ من التعليم وتنتهي برجل إنفاذ القانون. في الصين هناك تجربة الحزب الحاكم الواحد لكن بصورة شهرية نسمع عن محاسبة وزراء وإعدام مسؤولين بتهم تتعلق بالفساد. تجربة الحزب الواحد ليس لها ارتباط بالفساد بل الأمر يتعلق بإرادة النجاح فجميع التجارب التي أظهرت نماذج نجاح مثل ماليزيا أو سنغافورا أو تركيا أو غيرها من البلدان، من ساهم في تجربة نجاحها شخصيات ناجحة ليس لها ارتباط قوي بالتجربة الديمقراطية، فالديمقراطية تمنح الحق للفاسد والصالح للوصول إلى سدة الحكم.