إعادة إحياء الثورة الإيرانية
مايكل سينج
في العاشر من يونيو الماضي عندما ألغت حركة المعارضة الإيرانية إحياءها للذكرى السنوية للانتخابات الإيرانية،والتي فاز فيها أحمدي نجاد، افترض المعلقون أن تلك"الحركة الخضراء" قد انتهت بلا رجعة،فعلى مر عدة أشهر تعرضت تلك الحركة لانتقادات كثيرة بسبب افتقادها إلى القيادة القوية وإلى قدرتها على أن تمثل تحديًا حقيقيًا للنظام الإيراني المتمسك بالحكم في البلاد.
ولكن تاريخ القلاقل السياسية في القرن العشرين في إيران يفيد بأن فرصة تلك الحركات ربما لا تزال موجودة، فقد أثبت التاريخ أن الحركات التي تكون مدفوعة بمثل تلك الأحداث الاجتماعية قد نجحت في النهاية في إحداث التغيير الجذري في إيران؛ ففي القرن الماضي هزت ثلاث قلاقل سياسية إيران، عندما قامت الثورة الدستورية في الفترة من 1905 وحتى 1911، والتي استطاعت في تلك الفترة أن تقلص من نفوذ القوى الملكية وقادت إلى تطوير الدستور الإيراني، بالإضافة إلى ثورة فترة محمد مصدق بين عامي 1951 و1953، والتي أدت إلى الإطاحة المؤقتة بالشاه محمد رضا بهلوي، وأخيرًا الثورة الإسلامية عام 1979 والتي استبدلت الملكية بالحكم الديني الحالي.
وكل من تلك الجولات تحققت نتيجة تجمع عوامل ثلاثة: ازدياد الغضب الشعبي ضد فساد النظام، الانشقاق بين الطبقتين الحاكمة والدينية، ثم عدم الرضا على العلاقات الخارجية لإيران. وفي كل حادثة كان هناك معسكران يائسان، أحدهما علماني وليبرالي، والآخر يتكون من رجال الدين الناشطين سياسيًا (عادة من الشباب ومتوسطي العمر والطبقة)، ثم يحدث تصادم بين الجانبين. وبالرغم من أن فترات القلاقل عادة ما يتذكرها الإيرانيون اليوم على أنها كانت مدفوعة بقادة كاريزميين أمثال مصدق في الخمسينيات، وآية الله الخوميني في 1979، فمن المهم ألا ننسى حجم الحركات الشعبية الواسعة والراسخة التي كانت وراءهم.
ففي أوائل القرن الماضي بداية من عام 1900 على سبيل المثال، فإن الغضب العارم والمستمر ضد السلوك الطاغي للشاه والتنازلات التجارية المهينة لروسيا ولبريطانيا أدت إلى غليان الشارع عندما بدأ مدير المراسم (كان بلجيكي الجنسية) في تطبيق نظام غرامات يتم دفعها نظير القروض الروسية. فقد انضم المفكرون إلى الشيوخ، والذين كانت بالنسبة لهم تلك التنازلات ليس فقط إهانة للإسلام، ولكن أيضًا تهديد للمصالح الاقتصادية على الأوقاف الإسلامية. وتحالف المعسكران للمطالبة بإقالة رئيس وزراء الشاه وإنشاء برلمان شعبي. وفي الخمسينيات شن الثوار القوميون حملات لتخليص إيران من السيطرة البريطانية، وقالوا أن شركة النفط الإيرانية البريطانية تعد رمزًا للاستغلال الإمبريالي. وقد تزعم مصدق الحركة ولكنه اعتمد على آية الله سيد كشاني لحشد النشطاء من رجال الدين. ومثال كشاني ربما ألهم الخوميني، والذي استطاع في الستينيات والسبعينيات أن يعقد تحالفًا موسعًا، ضم علمانيين وشيوخ وشباب وآخرين.
ففي مطالبته بإنهاء الملكية، استغل الخوميني ورفاقه السخط العام على علاقة الشاه بالقوى الغربية والغضب من سلوكياته القمعية والفاسدة. ولكن هذا التحالف تم استقطابه وتشتيته بسبب قوانين إصلاح نظام تملك الأراضي الذي أنشأه الشاه محمد رضا، والذي هدد القاعدة المالية لرجال الدين وللنخبة الغنية الأخرى. وقد استغرقت حركات المعارضة تلك سنوات لكي تتضامن مع بعضها البعض قبل أن تصبح قوية بصورة كافية للإجبار على تغيير النظام. أما الثورة الدستورية والتي يعتقد أنها بدأت في عام 1905 عندما اندلعت التظاهرات بسبب الضرائب، فكانت في الواقع استمرارًا للأحداث التي بدأت في عام 1891، بحملات لإلغاء الامتياز الحصري لصناعة التبغ والذي كان أعطاه الشاه إلى بريطانيا.
وقد وصلت الجبهة القومية برئاسة مصدق إلى السلطة عام 1951، ولكن جاء ذلك بعد عقود من السخط على الملكية التي تحولت إلى فوضى في أعقاب الحرب العالمية الثانية، والعنف في تلك الفترة كان عبارة عن نزاعات عائلية مطولة أيضًا، فقبل الإطاحة بمحمد رضا في 1951 سجن مصدق على يد أبي محمد رضا، وهو رضا شاه، بسبب تصويته المعارض في البرلمان عام 1925 ضد تنصيبه ملكًا. بل إن ثورة عام 1979 كانت ترجع جذورها إلى الفترة من 1960 إلى 1964، عندما اندلعت أعمال الشغب ضد الشاه واجتاحت البلاد وتم نفي آية الله الخوميني والعديد من النشطاء الآخرين.
وكل فترة قلاقل كانت مختلفة عن سابقتها، ولكنها جميعها كانت مدفوعة بتيارات سفلية مشابهة، لذا من السخرية أن المظاهرات التي تجري اليوم ضد الميراث السياسي للخوميني، استشهدت المعارضة فيها بمظالم مشابهة لتلك التي ذكرها الخوميني نفسه في حملته ضد الشاه، والعوامل الثلاثة التي ساهمت في الحلقات السابقة من القلاقل أصبحت تجتمع مرة ثانية اليوم. بداية مما بدا أنه سرقة نجاد للانتخابات الرئاسية التي جرت عام 2009، والقمع الوحشي من النظام للمتظاهرين والمنشقين الآخرين قبل وفي أعقاب تلك الانتخابات، وكلها أشعلت الاتهامات بالفساد والطغيان.
ومما أدى إلى تفاقم الغضب الشعبي هو الإدراك العام بأن هناك قلة مميزة ـ من النخبة في قطاع الحرس الثوري الإيراني بصفة عامة ـ استفادوا من المصادر والثروات الإيرانية، في حين أن المواطن العادي لا يزال يعاني. وثانيًا أن السخط الدولي المتصاعد ضد طهران قد أدى إلى خلق شعور بأن سوء إدارة النظام للعلاقات الدولية يمثل إحراجًا وإضرارًا للمصالح الإيرانية. وأخيرًا، يبدو أن رجال الدين غير راضين عن الحكومة (التي بها عدد قليل من الملالي في الحكومة بالإضافة إلى تزايد امتناع رجال الدين عن النشاط السياسي نيابة عن النظام)، وقد اتهم بعض المواطنين النظام بأنه "غير إسلامي" بسبب سياسات القمع والتعذيب التي يمارسها.
وتلك الحركة تتمتع أيضًا بنطاق واسع، فقد استطاعت تقريب ليس فقط الإصلاحيين المقربين من الحكومة الأكثر ليبرالية لمحمد خاتمي في تسعينيات القرن الماضي، ولكن أيضًا المحافظين السابقين النشطاء أمثال مير حسين موسوي قائد تلك الحركة. كما يبدو أنها تنحاز ضمنيًا أيضًا مع المتشددين الآخرين، مثل الرئيس السابق علي أكبر هاشمي رافسنجاني، ومع رجال الدين الصامتين ومع النشطاء من العمال والطلاب والتجار والذين أصبحوا ساخطين على السياسات الاقتصادية للنظام. والكل يسعى إلى قمع الفساد واستعادة المعايير الأعلى للحقوق المدنية للإيرانيين، وتحقيق علاقة أقل خطورة وأكثر إنتاجًا مع العالم الخارجي.
بل إن الحركة الخضراء بنت ذاتها على الاستياء الذي شاب انتخابات عام 2009؛ذلك الاستياء ذاته الذي أدى إلى الانتصار الانتخابي الكاسح الذي حققه خاتمي في عامي 1997 و2001 وإلى التظاهرات الطلابية التي وقعت في آخر التسعينيات واليوم أيضًا. ومثلما كان بناء حركات الإصلاح في الماضي بطيئًا، فإن حركات اليوم لا يمكن أن نعلن موتها لأن الحركة الخضراء بدت وكأنها متعثرة. فالمظاهرات الكبرى التي أعقبت انتخابات أحمدي نجاد أظهرت أن النظام قد فقد تأثيره على غالبية الإيرانيين، لذا فإنه حتى لو ظلت هناك تساؤلات حول فاعلية الحركة الخضراء، فإن فاعلية النظام ذاته ليست واضحة.
ولكن إذا كان التاريخ يعطينا سببًا للتفاؤل فيما يتعلق بآمال المعارضة في النجاح، فإنه يعطينا أيضًا سببًا للحذر، فقد تم التوصل إلى أهدافهم الرئيسية، فالتحالفات التي قادت حركات الإصلاح الثلاثة في القرن الماضي سرعان ما تعثرت، وتمزقت بسبب الأهداف والأيدلوجيات المتعارضة. فبعدما استطاع الدستوريون الإطاحة برئيس وزراء الشاه وأنشأوا البرلمان، سرعان ما وجدوا أنفسهم في مواجهة رجال دين يدعون إلى دولة إسلامية. وبحلول عام 1911 قامت القوات الروسية بقصف البرلمان وحله، مما أدى إلى إعدام عدد من رجال الدين، وخضعت إيران للسيطرة الروسية من الشمال والسيطرة البريطانية من الجنوب. وبعد عامين من وصوله إلى الحكم، فإن التحالف الذي قادته الجبهة الوطنية تمزق هو الآخر، وكان الشيوعيون هم القوى الأعلى صوتًا في الشارع الإيراني. وفي انقلاب نظمته الولايات المتحدة وبريطانيا تم الإطاحة بمصدق سريعًا، وفي النهاية وفي الأشهر التي تلت إعلان الجمهورية الإسلامية، غرقت إيران في عهد الخوميني في عنف دموي بين الفصائل المتناحرة، ولم ينجو النظام إلا بسبب توحيد الحرب العراقية لكل تلك الفصائل خلف الدولة عام 1980.
لذا لا يجب على المجتمع الدولي أن يقلق من أن الحركة الخضراء محكوم عليها بالفشل، ولكن يجب عليها ألا تتوهم بأن نجاحها سوف يؤدي في النهاية إلى السلام والديموقراطية على المدى البعيد، فالولايات المتحدة وحلفائها يجب عليهم أن يفكروا ليس فقط في أفضل وسيلة لدعم الطموحات الديموقراطية للإيرانيين، ولكن أيضًا كيف يستعدون للاحتمال الواقعي بحدوث حالة من عدم الاستقرار في إيران في حال انتصار المعارضة.
http://www.foreignaffairs.com/print/66468?page=show