مجلة البيان
تعد رحلة الرئيس الأمريكي باراك أوباما المفاجئة إلى أفغانستان في الثالث من ديسمبر من الإشارات الواضحة على أن مراجعة إدارته لسياسة أمريكا في أفغانستان تعمل بأقصى طاقاتها، فقد صرح قائلاً: "اليوم نستطيع أن نفتخر بأن هناك عددًا أقل من المناطق التي تحت سيطرة طالبان، وأصبح لدى الأفغان الفرصة لبناء مستقبل أفضل"، وذلك في خطبته أمام حشد تجمع في قاعدة باجرام الجوية، وأضاف: "سوف تنجحون في مهمتكم".
وعندما عاد إلى واشنطن حاول المسئولون الأمريكيون أن يحددوا ما هو شكل ذلك النجاح. فهم يجمعون تقريرًا شاملاً عن الجهود الأمريكية، بمدخلات من كافة الأقسام والوكالات التي تعمل في المنطقة. ويريد البيت الأبيض أن يعلم أي سياساته أظهرت نجاحًا، وأيها أظهرت فشلاً حتى الآن.
ولكن تلك التقييمات من المتوقع ألا تكون حاسمة؛ فسوف يكون من الصعب قياس أثر زيادة القوات الأمريكية على التوازن العسكري للقوة، وبخاصة في تلك المناطق من أفغانستان التي لم تعمل فيها القوات الجديدة سوى ستة أشهر أو أقل، والأمر ذاته ينطبق على مجموعة متنوعة من البرامج الأخرى التي تم توسيع نطاقها حديثًا، والتي سوف تحتاج إلى المزيد من المصادر والأموال ليتم تطبيقها على نطاق زمني أبعد، قبل أن تظهر أية علامات ملموسة من التقدم، على أي حال لا يمكن بناء العاصمة كابول بين عشية وضحاها.
وفي خضم ذلك البحر المتلاطم الأمواج من الغموض، لا يزال هناك حكم واضح واحد على الأقل: وهو أن الاستراتيجية السياسية لواشنطن في أفغانستان تستحق درجة الرسوب؛ فالاستراتيجية السياسية الأمريكية تتكون من عناصر مختلفة، العديد منها يحاول أن يخفف من تأثير ضعف "قدرات الحكم" لدى أفغانستان، والتي تتصف بعدم قدرتها على توفير الخدمات الأساسية لمواطنيها، وهذه حقيقة لا يمكن الجدال فيها، فالحكومة الأفغانية أثبتت أنها عاجزة عن إنشاء محاكم محلية ومؤسسات قضائية على سبيل المثال، إلى الحد الذي جعل الكثير من الأفغان يذهبون إلى طالبان لتحكم بينهم في نزاعاتهم المدنية.
كما أن الأنظمة الحكومية الأفغانية الفقيرة في مجالات الرعاية الصحية والتعليم والبنية التحتية للمواصلات كلها تعوق التنمية والفرص الاقتصادية في البلاد.
وتلك مشكلات خطيرة وشائعة في العديد من الدول النامية الفقيرة حول العالم، إلا أن الكثير من تلك البلاد لم يبلى بمشكلات تمرد عصية على الحل أيضًا. وكما أشار المحلل ستيف كول هذا الصيف، فإن هؤلاء الذين يقومون بعملية مراجعة ديسمبر للاستراتيجية يجب أن يركزوا على السؤال الأساسي ـ والسياسي أيضًا ـ وهو إذا ما كان غالبية الشعب الأفغاني وقادتهم يعملون باتجاه الاهداف نفسها التي يعمل عليها حلفاؤهم الدوليون؟ والإجابة اليوم هي النفي؛ ففي الأيام العنيفة التي شهدت الإطاحة بطالبان، كانت الحكومة الأفغانية مقبولة بصورة كبيرة كانت تعمل من أجل الوحدة الوطنية والدولية، ولكن بعد تسع سنوات من الحرب وبعد الأخطاء التي جاءت من كافة الاتجاهات، تحطمت تلك الوحدة. فالعديد من الأفغان النافذين والذين هم شركاء طبيعيين في الحرب ضد الإرهاب الدولي يشعرون أنهم تم إقصائهم من حكومتهم لذا يشعرون بالإحباط العميق من الولايات المتحدة لأنها هي التي نصبت تلك الحكومة. فبالنسبة للبعض فإن الانتخابات الرئاسية المزورة التي جرت العام الماضي كانت القشة التي قسمت ظهر البعير، في حين يخشى آخرون، بخاصة الأقليات والنساء، من نتائج محادثات "المصالحة" بين الرئيس حامد كرزاي وأصدقاءه الحصريين الذين لا يمثلون الشعب من جهة، وبين متمردي طالبان من جهة أخرى، كما أن هناك الكثير من الرموز النافذة في البلاد التي شعرت بالإحباط من الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وهي الأخرى تلوثت بعمليات تزوير هائلة مدفوعة سياسية وقوبلت نتائجها بمظاهرات من الشعب الأفغاني المحروم من حقوقه الدستورية.
لذا باختصار فإن هناك أسباب وجهية تدعونا للخوف من أن أفغانستان تتمزق حول مناطق الجراح وأن الأشياء لم تزدد سوى سوءًا في الأشهر الأخيرة.
فعجز الحكومة الأفغانية عن حشد الدعم الشعبي يجعل الحرب أكثر صعوبة وأكثر كلفة ماديًا وبشريًا على الولايات المتحدة كل يوم، وبقدر الصعوبات والتحديات التي تواجهها جهود الجيش الأمريكي اليوم، إلا أنه سوف يكون من شبه المستحيل لتلك الجهود أن تنجح إذا ما ساءت حالة الانقسامات السياسية وحولت تمرد طالبان وسيطرتها على شرق وجنوب البلاد إلى سيطرة كاملة على البلاد وإلى حرب أهلية.
وللأسف فإن صناع السياسات في واشنطن كثيرًا ما ساووا بين "السياسات" الأفغانية بالسؤال الضيق بما يجب أن نفعله حيال كرزاي.
فالسلوك المضطرب للرئيس الأفغاني وفساد دائرته الداخلية تعد مشكلة هائلة، وبخاصة إذا ما صدق الصحفي الباكستاني أحمد رشيد في قوله أن كرزاي أصبح قطعًا معاديًا للغرب، وحتى بالرغم من ذلك، فإن منتقدي كرزاي دائمًا ما يتعرضون لذلك السؤال: "إذا لم يكن كرزاي فمن؟".
ولكن ذلك السؤال يعد السؤال الخطأ، فكرزاي يمثل عقبة كبيرة لأن الدولة الأفغانية الجديدة ولدت بخطأ فادح، وهو ذلك النظام الرئاسي الذي يهيمن على الحكومات القومية والإقليمية.
فالعديد من التقييمات ـ والتي ترجع إلى عملية تشكيل الدستور الأفغاني الحالي ـ كانت تترحم على حقيقة أن كرزاي لا يتعرض لأي رقابة تقريبًا ولا توجد آليات لبناء إجماع وطني والحفاظ عليه. فمشكلة أفغانستان الحقيقية هي بنية حكومتها، وليس الاخطاء الشخصية لرئيسها.
فالعديد من الديموقراطيات الحديثة، وبخاصة تلك التي ولدت في ظروف ما بعد الحرب الاهلية، كتبت دستورها لكي تفرز برلمانات قوية لكي يستطيع المتقاتلون السابقون أن يتقاسموا السلطة في حكومة وطنية.
لذلك اختار الكثيرون منهم نظام الحكم الفيدرالي، لذا فإن القادة المنتخبين على مستوى المقاطعات يصبح لهم صوتًا في إدارة شئونهم الداخلية. وأفغانستان ليس لديها أي من تلك السمات أو مظاهرها.
وبالرغم من ذلك فإن الدعوة إلى تغيير سياسي هيكلي في أفغانستان لم يتم اتخاذها على محمل الجد حتى الآن داخل الحكومة الأمريكية، وفي المقابل زعم المسئولون أن الفشل السياسي لواشنطن ينحصر في "كيفية إدارة كرزاي"، ولكننا نستطيع أن نصلح صناع السياسات في أفغانستان فقط إذا استطعنا أن نصل إلى التوازن الصحيح لأسلوب العصا والجزرة، ثم نستطيع بعد ذلك إقناع كرزاي بأن يطور حكومة أفغانية تعمل بصورة فاعلة.
ولذلك ففي العام الماضي شهدنا حملة أمريكية مكثفة لبناء شراكة أفضل مع كرزاي، ولا تزال تلك الجهود مستمرة، فجولة أوباما في أفغانستان في الثالث من ديسمبر اشتملت على محادثات مع كرزاي، قيل أنها من أجل معالجة السلسلة الأخيرة من التوترات بين الجانبين.
وعندما فشل التعاون مع كرزاي، حاول المسئولون الأمريكيون أن يستثنوه عن طريق العمل مباشرة مع المسئولين الأفغان المحليين أو الشراكة مع الوزراء المحليين.
ولكنهم وللمرة الثانية انتهى بهم المطاف إلى أن هرعوا مسرعين إلى رئيسهم العالم بكل الأمور. وهذا كان بسبب أن كرزاي أكمل سلطته لتعيين الحكام الإقليميين ومئات من المسئولين الحكوميين المحليين.
فالمسئولون الأفغان الذين لديهم السلطة السياسية لاتخاذ قرارات حاسمة عادة ما يعودون إلى كرزاي مخافة أن يخطئوا أو يسقطون من حساباته أو من دائرة تفضيله.
ودائمًا ما كانت الجهود الأمريكية لمكافحة الفساد الأفغاني تتعرض لعقبات بسبب التدخل الشخصي من كرزاي.
وعادة ما كانت الاستراتيجية السياسية الأمريكية تتمحور حول كرزاي لأن الحكومة الأفغانية كلها تدور حول الرئيس ومبنية على أساس وجوده.
فإدارة عملية إصلاح سياسي حقيقي في أي دولة يمثل تحديًا جسيمًا ويجب أن يثير بعض المخاوف لدى واشنطن.
ولكن في تلك الحالة فإن مزايا معالجة الأخطاء الهيكلية في حكومة أفغانستان تفوق مخاطرها، فسوف يقاوم كرزاي وحلفاؤه أي مباردة تعرضه لفقدان السيطرة، وسيبذل أقصى جهد ممكن للحيلولة دون ذلك، وسوف يتهم واشنطن بالتدخل غير المناسب في شئون سيادة الدولة الأفغانية، وربما يطلق بيانات عامة تاريخية تجعل من ثوران كرزاي الماضي مثل لعب الأطفال مقارنة بما يمكن أن يفعله.
ولكن المسئولين الأمريكيين يجب ألا تردعهم مثل تلك التهم، لذا يجب أن يضعوا في حسبانهم حقيقة أن واشنطن بالفعل تتدخل في السياسات الأفغانية كل يوم، وتوسع من مصادر وسلطات الولايات المتحدة لتدعيم نظام الحكم الحالي المتمركز حول كرزاي، كما أن هناك مخاوف حقيقية أيضًا من أن المسئولين الأمريكيين ليسوا مؤهلين لإدارة الآليات المعقدة لعملية الإصلاح السياسي الأفغاني، فتاريخ تدخل واشنطن في بناء المؤسسات الافغانية ليس تاريخًا سعيدًا، فقد لعب السفير الأمريكي لدى أفغانستان زلماي خليل زاد والمسئولين الدوليين الآخرين دورًا مركزيًا أثناء المجلس التشريعي الدستوري الأول، ولكن انظروا أين انتهى بنا المطاف.
ولكن ذلك التدخل المباشر ربما لن يكون ضروريًا في هذه المرة، في المقابل يمكن لواشنطن أن تقدم ضوءًا أخضر لسلسلة من زعماء المعارضة الأفغان والذين ربما يرغبون في إجراء عملية الإصلاح الخاصة بهم.
وتلك المجموعة يجب أن تشتمل على زعماء من كل المجموعات العرقية الافغانية الرئيسية ومن الفصائل السياسية أيضًا، مثل منافسي كرزاي في الانتخابات الرئاسية لعام 2009، ومن الوزراء الحكوميين السابقين ومن رموز المعارضة البرلمانية.
فعملية الإصلاح التي يقودها الأفغان أنفسهم ـ وتكون شاملة وتعيد تنشيط الناخبين الذين الآن يجلسون على دكة الاحتياط بسبب الإحباط من كل من طالبان والحكومة الأفغانية، ويبدأون في تحدي بنية الحكومة الافغانية بطرق ترعى الوحدة الوطنية وتقاسم السلطة ـ تلك العملية بلا شك أنها سوف تخدم المصالح الأساسية للولايات المتحدة في ذلك البلد.
وتلك أهداف طموحة ولكنها ليست خيالية، والخطوة الأولى هي التأكد من أن مراجعة ديسمبر في واشنطن لا تتحول إلى تمرين لعد الحصى ومجرد عملية روتينية، فالمراجعة الجادة سوف تجبر إدارة أوباما على وزن النفقات والمخاطر للاستراتيجية الجديدة في مقابل فشل التوجه الحالي، بل إنها يمكن أن تشجع على ابتكار سياسات ترسم مسارًا جديدًا، مسار يتم تصميمه لتحويل تيار السياسات الأفغانية باتجاه يشجع الحكومتين الأمريكية والأفغانية على العمل بصورة أكثر إثمارًا لإنجاز مهمتهم المشتركة.